قراءة في أزمةٍ بين صحافةٍ تبحث عن السبق وحقائقٍ دامغة مؤلمة
إبراهيم عدلان
لم يكن ما نُشر في الأيام الماضية حول سلطة الطيران المدني السوداني مجرد تقرير صحفي عابر، بل بدا كزلزالٍ أصاب مؤسسة سيادية في لحظة حرجة من تاريخ البلاد. وبينما سارع الإعلام إلى التقاط تفاصيل القضية طلبًا للسبق، انشغل الرأي العام بين التنديد والتساؤل: أين تنتهي مسؤولية الصحافة، وأين تبدأ مسؤولية الدولة؟
انفجار قضية في زمن الحرب
في وقتٍ تتراجع فيه مؤسسات الدولة تحت ضغط الحرب وتحديات البقاء، تفجّرت داخل سلطة الطيران المدني أزمة معقّدة تتجاوز مجرد شبهة فساد إداري إلى مساسٍ مباشر بالسيادة الوطنية.
تقول المعلومات المؤكدة إن إدارة السلطة في عهد مديرها السابق حسين نايل وقّعت تفاهمات فنية واقتصادية مع دولة جنوب السودان، دون المرور بالقنوات الدبلوماسية أو موافقة الجهات العليا. وبموجبها، تم تعديل نسب عائدات رسوم العبور الجوي بصورة أضرت بحق السودان التاريخي في إدارة مجاله الجوي الجنوبي.
لكن الأكثر إيلامًا، وفق تقارير داخلية موثوقة، هو التنازل غير المعلن عن نطاق جوي يبلغ ثلاثين ميلًا بحريًا فوق منطقة أبيي، جرى التعامل معه وكأنه شأن إداري بحت، بينما هو في حقيقته قرار سيادي يتطلب علم وزارتي الخارجية والدفاع وموافقة مجلس الوزراء.
ذلك التنازل، مهما كانت مبرراته الفنية، يفتح الباب أمام إشكاليات خطيرة تتعلق بالحدود العليا للبلاد وبحقها في مراقبة أجوائها وسيادتها القانونية.
الشللية والإدارة المغلقة
ما جرى لم يكن ليحدث لولا أن المؤسسة تحوّلت في تلك الفترة إلى دائرة ضيقة من الولاءات الشخصية والمنافع المتبادلة، أقصت الكفاءات وأحاطت نفسها بجدار من السرية.
قرارات مصيرية اتُّخذت من خلف الأبواب المغلقة، ومكاتب خارجية أُنشئت دون علم السلطات المختصة، وإيرادات بالدولار تم تحصيلها دون أن تمر عبر وزارة المالية.
هيكل إداري هش تحكمه العلاقات لا اللوائح، فكانت النتيجة تفريطًا في المال العام وإضعافًا لهيبة الدولة أمام شركائها الإقليميين والدوليين.
امرأة واحدة تهزّ الصمت
في خضم هذه الفوضى، ظهرت موظفة وطنية رفضت الانخراط في منطق “السكوت مقابل البقاء”.
بحكم موقعها الإداري، اطّلعت على تفاصيل الترتيبات السرّية، ورفضت تمريرها. وحين أصرت على موقفها، جرى إقصاؤها بطريقة مهينة أثناء الحرب، في وقت كانت تبذل فيه جهدها مع زملائها لتسيير الرحلات الإنسانية.
لكنّها لم تستسلم، بل وثّقت كل ما علمت به، ورفعت الأمر رسميًا إلى مجلس الإدارة، الذي بدوره أحال القضية للمراجع العام، فبدأت خيوط الحقيقة تتكشف تباعًا.
ما بين الصحافة والواقع
هنا تدخلت الصحافة، فانتشرت التسريبات وتصدّرت العناوين، بعضها بدافع الحرص الوطني، وبعضها الآخر بحثًا عن الإثارة.
ورغم أن كشف الفساد واجب وطني، إلا أن نشر التفاصيل غير الدقيقة أو المتضاربة حول مؤسسات الدولة السيادية، قد يعرّضها لهزّة ثقة داخلية وخارجية في وقتٍ يحتاج فيه السودان إلى استعادة مكانته في منظومة الطيران الدولي.
فالسبق الصحفي حين يفتقر إلى التحقق والاتزان، يمكن أن يتحول إلى سلاحٍ يهدم ما تبقى من تماسك المؤسسات.
السكوت لم يعد خيارًا
الحقائق التي تبيّنت لاحقًا ليست مجرّد اتهامات متبادلة، بل وقائع موثقة بالتقارير الرسمية: تجاوزات مالية، تصرّف في الأموال خارج القنوات القانونية، وتفاهمات تمت دون تفويض سيادي.
وإن كانت العدالة قد بدأت إجراءاتها بالفعل، فإن الأهم هو ألا تتحول القضية إلى تصفية حسابات شخصية أو سياسية، لأن ما هو على المحكّ هنا ليس سمعة أفراد، بل سمعة السودان في أروقة منظمة الإيكاو والمجتمع الدولي للطيران.
بين الحقيقة والمساءلة
القضية اليوم في ملعب جهات التحقيق والرقابة، لكن أثرها المعنوي تجاوز حدود المؤسسة. لقد كشفت كيف يمكن أن تُستغل الحرب كغطاء لتمرير قرارات مصيرية بعيدًا عن أعين الدولة، وكيف تضعف المنظومة الرقابية حين تُستبدل الشفافية بالمجاملة، والمؤسسية بالشللية.
لقد آن الأوان لأن تُدار المؤسسات السيادية بعقل الدولة لا بعقل الأفراد، وأن يُعاد النظر في معايير الاختيار والتعيين والمساءلة. فالثقة العامة تُبنى بالتاريخ والإنجاز، لا بالولاء.
المدير الأسبق لسلطة الطيران المدني
