التلذُذ بالفضائح : ترك الأفيال و طعن الظلال
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
ما كنتُ أرغبُ في الكتابة عن قصة مدير الحج والعُمرة بولاية سنار التي ملأت الدنيا وشغلت الناس مؤخراً لولا وقوعي على كلمةٍ كتبها رئيس تحرير “الرأي العام” الأستاذ محمد عبد القادر حول الموضوع يُلقي فيها باللوم على مواقع التواصل الإجتماعي والصحف للكيفية التي تناولت بها القضية ويتهمها بالخوض في ( وحل التشهير والتبشيع بسيرة الرجل).
قال الأستاذ محمد أنَّ الكتابة حول القصة كان دافعها ( الكيد السياسي وأمراض المجتمع الجديدة التي تنتشي وتتلذذ بالفضائح ولا تعرف معنـى الستر والرأفة بسيرة الآخرين ) ، وأنَّ ( كل ذنب الرجل أنه ينتمي إلى المؤتمر الوطني أو الحركة الإسلامية )، وأضاف أنَّ ( حالة الترصد بالآخر التي يفيض بها (الواتساب) تشعرك بنزق المجتمع الدائم إلى فضيحة وضحية يُمارس فيها أقصى حالات التشفي ).
وأشار إلى أنَّ مدير الحج والعُمرة المعني ليس سوى (بشرٌ خطاءٌ و أنَّ لديه أهلاً وأسرة وأبناء وبنات وزوجات، ومن غير اللائق أن يتم إغتيالهم على هذا النحو من التبشيع )، ثم خلص إلى أنَّ تلك الكتابات ( لا تُعبِّر عن الشخصية السودانية السوَّية التي تسعى إلى الستر استلهاماً لتأدبها بإرث الإسلام الخالد).
يعلم الأستاذ محمد أنَّ ردة الفعل القوية تجاه ما قام به الشخص المعني لم تتوَّلد عن فراغ، بل جاءت نتيجة أسباب معروفة يقع في مقدمتها أنَّ “الحركة الإسلامية” التي ينتمي لها الرَّجل توسلت إلى الحكم عبر مدخل “الدين”، ونصبَّت من نفسها “راعياَ رسمياَ” لشئون التقديس، حيث ظلت تدَّعي على الدوام بأنَّ أعضاءها هم الخيار الأطهار، أصحاب الوجوه النورانية والأيادي المتوضئة الذين نبذوا الدنيا وعرضها الزائل و “لا لدنيا قد عملنا نحنُ للدين فداء”.
ومن ناحية أخرى فإنَّ طبيعة المنصب الذي يتولاهُ الرَّجل “مدير الحج والعُمرة” ترتبطٌ إرتباطاً وثيقاً بشعيرة مقدسة، و بركنٍ هام من أركان الدين، وبالتالي فإنَّه من الطبيعي أنَّ من يرتكب جريمة “أخلاقية” – بمعايير الدين – وهو في هذا الموقع أن يلقى من الهجوم والإستهجان والإستنكار ما لا يلقاهُ شخصٌ في موقع آخر.
غير أنَّ الأمر الأكثر أهمية في هذا الصدد هو أنَّ محاولة الأستاذ محمد إلقاء اللوم على “المجتمع” في التشهير والتبشيع بالناس تعتبرُ في أفضلِ الأحوالِ ضرباً من “التدليس والتمويه”، حيث أنَّ جذور هذا السلوك إرتبطت إرتباطاً وثيقاً “بالحركة الإسلامية” منذ “قوانين سبتمبر” وحتى تطبيق عقوبة “الفعل الفاضح”.
قد دعمت الحركة الإسلامية تطبيق قوانين سبتمبر بكافة أشكال الدعم، على صعيد الطلاب أو المنابر العامة، في المساجد أو المنتديات، بل وكان كبار قضاة محاكم “العدالة الناجزة” الذين أصدروا أحكام الجلد والبتر والقطع من أعضاء الحركة ( حاج نور، حافظ الشيخ، االمكاشفي، المهلاوي).
لم يجرؤ أي قيادي في الحركة الإسلامية على إنتقاد “التشهير بالمحكومين” وفقاً “لقوانين سبتمبر” في وسائل الإعلام، حيث كانت الأحكام تبث كل يوم في الإذاعة والتلفزيون وتنشر في الصحف، وتذكر فيها أسماء المحكومين دون مراعاة لأنَّ هؤلاء المحكومون لهم (أهلاً وأسرة وأبناء وبنات وزوجات).
قد صمت كبار رجال “الحركة الإسلامية” عن التبشيع بالمواطنين في مختلف أجهزة الإعلام، كما أنهم شاركوا – عبر قضاتهم – في التشهير بالناس وفي توقيع “العقوبات الخاطئة” التي كان غرضها الوحيد هو “التشفي” ومنها عقوبة “البتر” الشهيرة التي أصدرها “المكاشفي” على “محاسب وادي سيدنا” الذي أقيم عليه حد السرقة في جريمة اختلاس أموال كانت تحت عهدته.
” حالة الترَّصُد بالآخر” التي يتحدث عنها الأستاذ محمد لم تبدأ مع “الواتساب” بل بدأت مع تلك القوانين التي “هلل وكبَّر لها” أعضاء الحركة الإسلامية، وكان من بينها المادة 93 من قانون العقوبات لسنة 1983 التي تضمنت نصوصها “البدعة” المسماة “الشروع في الزنا”، حيث أطلقت يد السلطات والأجهزة النظامية في إتهام كل من يسير مع أبنته أو أخته أو حتى زوجته في الطريق العام اذا لم يثبت الصلة التي تجمعهما بالوثائق الرسمية.
الترَّصُد وإستهداف الناس كان واضحاً في تلك المادة “الفضفاضة” التي ليست لها أدنى صلة “بالحدود” الإسلامية التي لا تعرف سوى جريمة واحدة إسمها “الزنا” والتي إن لم تثبت بشهودٍ أربعةٍ عُدول تصبح “قذفاً” فى حق من قال بها، ولنا في قصة “المغيرة بن شعبة” ما يُفيد في هذا الصدد، فهل يعرف الأستاذ محمَّد عدد الأبرياء الذين تم التبشيع بهم وإذلالهم بسبب تلك المادة ؟
إنَّ صياغة تلك المادة بهذا الشكل قد قُصدِ منهُ “تجريم” الناس بأى شكل، حتى أنَّ أحد كبار علماء الدين الذين عارضوا إدخال تلك المادة في القانون عندما سُئل : من أين يبدأ الشروع في الزنا وفقاً لهذه المادة ؟ أجاب بسخرية لا تخلو من دلالة : بمُجرَّد أن يتناول الرَّجل “ربع كيلو باسطة” !
قد إستمرت ذات القوانين بعد أن إستلمت “الحركة الإسلامية” السلطة عبر الإنقلاب العسكري في 1989، حيث ظهرت “البدعة الجديدة” عبر المادة (152) من القانون الجنائي لعام 1991 المُسماة “الأفعال الفاضحة”، وهى كذلك “مادة فضفاضة” تسمح لرجل الشرطة أن يُحدِّد “طبيعة” الفعل أو الزي الفاضح.
يعلمُ الأستاذ محمَّد أنَّ المادة أعلاه قد تسببت في “التبشيع” بعشرات المواطنين والمواطنات، وليس أدلَّ على ذلك من قضية “البنطال” الشهيرة التي سارت بنبأها كل مجتمعات الدنيا، والتي أثبتت أنَّ موضوع الزي الفاضح قد يتحوَّل إلى إستهدافٍ شخصي بغرض “التبشيع” و ليس من أجل الحفاظ على الآداب العامة.
ومن ناحيةٍ أخرى فإننا لم نسمع من الأستاذ محمَّد أي إدانة “للتبشيع” الذي وقع في حق الفتاة التي حُكم عليها بالجلد في جريمة الزنا، والتي تمَّ تصويرها وهى تتلقى العقوبة ، وروح “التشفي” تتبدَّى على الذين يتابعون “الجلد” في منظرٍ لا يمتُ بأية صلة للشريعة أو للغاية المستهدفة من وراء تطبيق العقوبة.
كل هذه الحيثيات توًّضح أنَّ “التشهير والتبشيع” ليس بدعة إستحدثها من يستخدمون “الواتساب” بل هو ممارسة متأصلة في المواد القانونية التي ساندتها وتبنتها “الحركة الإسلامية” منذ فترة حكم الرئيس النميري وحتى حكم “الإنقاذ”، وبالتالي فإنّه كان من الأولى بالأستاذ محَّمد أن يُصوِّب قلمهُ لمخاطبة جذور المشكلة وليس لإنعكاساتها، كان عليه أن يطعن الأفيال وليس الظلال !
فالذي قد شهَّر بمدير الحج والعُمرة في المُبتدأ هو “الأفكار” التي تروِّج لها “الحركة الإسلامية” وتذرعها في عقول عضويتها بأنهم “رسل العناية السماوية” المبعوثون لهداية الناس، تلك هى العلة الأساسية، فأعضاء الحركة لا ينظرون لأنفسهم بأنهم ” بشرٌ خطاؤون” كما يقول الأستاذ محمَّد، بل يعتقدون بأنهم “مُلَّاك الحقيقة المطلقة” ولذلك فإنهم يقبلون بمثل تلك القوانين ويدافعون عنها بإعتبار أنها “تعني الآخرين” ولا تعنيهم هم.
غير أنَّ عدالة الكون تأبى إلا أن تُخرِج لسانها لكلِّ من يسعى في طلب “الأذى” للآخرين بملاحقتهم حتى يكشف عمَّا في ضمائرهم، عمَّا سترهُ ربِّ العباد عن العباد، وقد ورد عن سيد الخلق المصطفى (ص) قوله : ( لَا تُؤْذُوا عِبَاد اللَّه وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَطْلُبُوا عَوْرَاتهمْ فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَة أَخِيهِ الْمُسْلِم طَلَبَ اللَّه عَوْرَته حَتَّى يَفْضَحهُ فِي بَيْته).
وهاهى الفضيحة تدخلُ بيوت الذين سعوا في طلبها عند الآخرين، فكما تُدين تدان !