Saturday , 20 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

مع الطير صافَّات في جو الحرم المكي

عبد الحميد أحمد

عبد الحميد أحمد

حين مضت المطِيُ تغذُّ السير، يدّرِعنَ الليل يهوِين بالركب من “جُرهمٍ” سار رائدهم يجوس خلال الفيافي والوهاد، يرود لأهليه الرياض الخوالي، حيثما قادته أقدار الله، وشيكاً سيقتفي آثار أطيارٍ كُدرٍ صبّحنَ الشرَع حيث انبجس الماء المبارك في أرض كانت خاشعة بالأمس، لكنها اليوم توشك أن تهتز وتربو وتدب فيها الحياة صاخبة موّارةً.
في وادي غير ذي زرع خلّف الشيخ الحليم الأواه الطفل وأمه ومضى لسانه يلهج بالدعاء وقلبه يفيض بالرجاء وبالثقة بالله.
“رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.” إبراهيم الآية: (37)
ثمّة سكن الطفل الرضيع وقرّت المرأة المهرولة الساعية بين الصفا والمروة تكفكف الماء المنهمر، لولا أنها زمّت الينبوع المتفجر لسالت أودية بقدرها.
كانت الأطيار هي السابق الهادي إلي حيث انبثقت الحياة الجديدة نابضة، بينما الرائد من “جُرهم” لا يزال يستحث الركب، وحينما هَوينَ الي النبع المبارك فتناولن غِشاشاً منهلاً، ونصّت أسرابها فدوّمت ثم استقلت بالطيران، اهتدت القافلة لأرض تنتجع، كان ذاك هو الموكب الأول حيث تتابعت مواكب القاصدين من البشرية جمعاء ولما تزل تأتي من كل فج عميق رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق منذ أنطلق النداء الأول.
وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30). سورة الحج
كانت المرة الأولى التي اهتدي الانسان فيها بتجارب الطير يوم أهدته الغربان تجربة فريدة، حينما عتى ابن آدم فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، فمكث غير بعيد، فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه، قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين، لكن التجربة أضحت سنة ماضية في عقب بني آدم لا سيما وقد أثبت العلم من بعد ما لها من أثر طيب علي حفظ توازن البيئة، ثم توالى حضور الطير إلى جانب النبيين يأتي الهدهد سليمان بنبإٍ يقين وينكر السجود لغير الله ثم يصبح رسول النبي يحمل كتبه ورسائله.
هذه الأطيار في جو الحرم عدّها الرحالة والمؤرخ المسلم ابن بَـطُّوطَة من العجائب وإليها أشار في مذكراته بقوله: “ومن عجائب الكعبة الشريفة أن حمام مكة وسواه من الطیر، لا ينزل عليها ولا يعلوها في الطیران وتجد الحمام يطیر على أعلى الحرم كله فإذا حاذى الكعبة الشريفة ابتعد عنها إلى إحدى الجهات ولم يعلوها ويقال لا ينزل عليها طائر إلا إذا كان به مرض فإما أن يموت لحینه أو يبرأ من مرضه…” وهذا قول فيه نظر سوى أنه انتباهة تنطوي على حفاوة به بحسبانه معلم من معالم الحرم.
سبقت هذه الأطيار التي تطوف حول الكعبة المشرفة مواكب البشرية إلى بيت الله المحرّم، تالية لوصل إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر وهو سبق يستدعي حمايتها على نحو خاص بأن يتصوب إليها كفلٌ من الرعاية والعناية فتعطى حيّزاً من المكان وتمهّد وكُناتها وتنصب لها الأعشاش عالية، ثم تبسط لها خدمات الصحة البيطرية وتتَعهدُ أوكارها بالنظافة، وتوضع الأساور على أقدامها أو الشرائح الإلكترونية التي تحدد مكانها في حلها وترحالها وتجمع البيانات الخاصة بها للتعرف على مؤشرات تهديد وجودها وبقائها أو التعرف إلى أحوال نموها وتكاثرها، هكذا تفعل الأمم المتحضرة، لا سيما وأنّ الإنسانية قد تقدمت أشواطاً في برامج العناية بالطيور وحمايتها من الانقراض وحفظ حيواتها من عارضات الهلاك فأنشئت لها المحميات ووضعت التشريعات التي تنظم التعامل معها في إطار اهتمام كلي بالبيئة وحفظ التنوع الإحيائي، ولا ريب أن لحمام الحرم دور فعّال في حفظ التوازن البيئي بما يؤدي من وظائف غير منظورة لكنها شديدة الأهمية إذ يقلل من آثار الحشرات الضارة والآفات التي قد تنتشر فتقلق راحة زوار بيت الله لولا قضت عليها تلك الحمامات وهي إلى ذلك تمتع الناظرين وهواة مراقبة الطيور بما تضفي على المكان من مسحة جمالية تزيده بهاء على بهائه وتشجي السامعين بنغمها وترجعيها، فترى الزوار يراقبونها في الساحات والميادين المحيطة بالحرم ويقدمون لها الطعام والحب، أكرم وأنعم بهذه الأطيار من أمّة قامت في خير مكان وأبرك مقام وأطهر بقعة.