Wednesday , 4 December - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

مفاوضات جوبا … فك الارتباط في صيغته الجديدة

بقلم : العبيد أحمد مروح

(1)
في الثالث من اكتوبر من العام الماضي، وقعت حكومة السودان الإنتقالية وتحالف “الجبهة الثورية” أكثر من ثمانية برتوكولات سلام في عاصمة دولة جنوب السودان – جوبا بعد عام كامل من التفاوض، وقد عرفت تلك الوثائق ب (اتفاقية جوبا للسلام في السودان). والأسبوع الماضي بدأت في جوبا مفاوضات جديدة بين ممثلي حكومة السودان والحركة الشعبية – شمال التي يقودها عبد العزيز آدم الحلو، وهي الحركة التي تسيطر على جزء من ولاية جنوب كردفان -منطقة “جبال النوبة” ولها مقاتلين وأنصارا في ولاية النيل الأزرق وهما الولايتان المحاددتان لجمهورية جنوب السودان، مثلها في ذلك مثل “الحركة الشعبية – شمال (الأخرى) التي يقودها مالك عقار والتي كانت ضمن فصائل الجبهة الثورية التي وقعت اتفاق جوبا في أكتوبر من العام الماضي. وحين يعرف القارئ أن الحركتين الشعبيتين – شمال هما في الحقيقة جزء من الحركة الشعبية – الأم التي تحكم في جنوب السودان والتي يقودها الفريق سلفاكير ميارديت رئيس الدولة، فقد يتضح له لماذا تمت إضافة كلمة “شمال” لتسمية حركتي الحلو وعقار واللتين كانتا حركة واحدة، لكن من المؤكد أن كثيرا من التفاصيل والخلفيات المتعلقة بملفات التفاوض بين حكومة السودان الحالية وما اصطلحت على تسميته ب “حركات الكفاح المسلح” تبقى بحاجة لمزيد من الشرح والإيضاح، وهو ما سنحاول القيام به في هذا المقال.

ربما لم يلتفت المراقبون لجملة هي في تقديري مفتاحية وردت في إفادة وفد الحكومة الانتقالية المفاوض، وتناقلتها وسائل الإعلام، عقب انتهاء الجلسة الافتتاحية الاسبوع الماضي، وهي الجملة التي تقول إن (فريق الوساطة الجنوب سودانية سلم الوفد السوداني المفاوض مسودة اتفاق إطاري قدمته الحركة الشعبية – شمال). الطبيعي أن فريق الوساطة هو الذي يقوم بصياغة مسودة إعلان المبادئ، بعد أن يدير نقاشا مع الطرفين ويطلع على رؤية كل واحد منهما للتسوية، مكتوبة أو مسموعة. لكن أن يكتفي فريق الوساطة في بداية هذه الجولة بدور ساعي البريد فهذا أمر يستحق التفسير؛ وتفسير ذلك – بتقديري – هو أن الطرف صاحب المبادرة في هذه الجولة هو القوى الغربية التي طالما شكلت شريانا للحياة لمتمردي جنوب السودان منذ عهد الراحل جون قرنق، وهي التي لم تعد تخفي نفسها في الآونة الأخيرة، وممثلوها يتصدرون المشهد في تبني قضية “جبال النوبة” ويحاولون من خلالها التأثير على مجمل الأوضاع في سودان ما بعد حكم الإنقاذ، إن لم نقل إعادة صياغتها من جديد !!

(2)
حين عزمت مجموعة الترويكا (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والنرويج) في العام 2003م، على وضع حد للنزاع في جنوب السودان، وبدأت في تحضير المشهد للمفاوضات بين وفدين يقود أحدهما الأستاذ على عثمان محمد طه، النائب الأول للرئيس السوداني ويقود الآخر الدكتور جون قرنق قائد الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، كانت قضية ما بات يعرف ب “المنطقتين”، وهما جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، إحدى أهم عقبات الانخراط الجدي في التفاوض، فزعيم الحركة الشعبية الذي وسع نطاق الحرب الأهلية ليشمل مناطق في شمال السودان، ونجح في تجنيد أبناء تلك المناطق للانخراط في صفوف مقاتلي الجيش الشعبي والحركة الشعبية، لم يشأ أن يكتب التاريخ أنه تخلى عن منسوبيه، على الرغم من أن إعلان المبادئ الموقع بين حكومة السودان وقتها والحركة الشعبية لتحرير السودان في مشاكوس الكينية في 20 يوليو2002م كان يعرف جنوب السودان باعتبار حدوده الجغرافية هي حدود المديريات الجنوبية الثلاث (أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية) وفق الخرائط التي تركها الاستعمار البريطاني عند رحيله في يناير 1956م، الأمر الذي يعني – نظريا – أنه لا شأن للحركة الشعبية وجيشها بشمال السودان ومشكلاته. وبعد تدخل الوسطاء تم الاتفاق على أن يفرد طرفا التفاوض فريقين فرعيين للتفاوض بشأن منطقة جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وفريق ثالث لمنطقة أبيي، ومن هنا جاءت تسمية “المناطق الثلاث”، والتي تم التوقيع على برتوكولات خاصة بكل منها ضمن اتفاق السلام الشامل.

هذه الخلفية مهمة لفهم كل ما حدث خلال الفترة من التاسع من يناير 2005م، تاريخ توقيع اتفاق السلام الشامل في العاصمة الكينية نيروبي، والى يومنا هذا وربما إلى نهاية الفترة الانتقالية الحالية. فبروتوكولات المنطقتين أعطت المواطنين فيهما حق “المشورة الشعبية” عبر برلمانيهما المنتخبين، بنهاية الفترة الانتقالية، ليقرروا طبيعة العلاقة مع المركز دون أن يشمل ذلك حق تقرير المصير الذي تم الاتفاق عليه بالنسبة لمواطني جنوب السودان عقب نهاية الفترة الانتقالية والتي تحددت بست سنوات، وخلالها يتم الحكم في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بالتناوب بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، بحيث يكون حاكم جنوب كردفان خلال النصف الأول من الفترة الانتقالية من الحركة الشعبية ونائبه من المؤتمر الوطني والعكس في ولاية النيل الأزرق، والعكس صحيح خلال النصف الثاني. كما قضى بأن تتشكل في كل من مدينتي كادقلي والدمازين، عاصمتي الولايتين، خلال الفترة الانتقالية، وحدات مشتركة مدمجة من الجيش السوداني وجيش الحركة الشعبية، في حين تبقى بقية القوات على أوضاعها حتى نهاية الفترة الانتقالية ومعرفة نتيجة استفتاء مواطني جنوب السودان، فإن اختاروا الانفصال يتم (فك الارتباط) بين الجيش الشعبي وفرقتيه التاسعة والعاشرة في كل من جنوب كردفان والنيل الأزرق خلال الفترة التمهيدية للانفصال والمحددة بستة أشهر عقب الاستفتاء ويتم خلالها أيضا ترسم الحدود بين الدولتين.

(3)
الذي حدث هو أنه قبيل الإعلان الرسمي لقيام دولة جديدة في جنوب السودان، وتحديدا في السادس من يونيو 2011م أعلنت الفرقة التاسعة للجيش الشعبي في جنوب كردفان تمردها، وهاجم جنودها القوات الشمالية الحكومية بمن فيهم زملاءهم في الوحدة المدمجة، وعقب ذلك انسحبوا باتجاه مدينة “كاودا” مقر قيادة الفرقة. وبعد ثلاثة أشهر من ذلك لحقت بهم الفرقة العاشرة في النيل الأزرق والحال أن قائدها، مالك عقار، كان هو حاكم الولاية، حيث تسلل منسوبوها من مدينة الدمازين إلى تخوم الحدود مع جنوب السودان. وبعد شهرين من ذلك (نوفمبر 2011) تم الإعلان في كاودا عن قيام تحالف “الجبهة الثورية” الذي ضم بجانب الحركة الشعبية شمال كلا من حركة العدل والمساواة وحركة جيش تحرير السودان -قيادة مني أركو مناوي، وحركة جيش تحرير السودان -قيادة عبد الواحد محمد نور، وأعلن التحالف الجديد أن هدفه هو إسقاط النظام في الخرطوم. ولم تمض إلا عدة أشهر على قيام الدولة في جنوب السودان، حتى شن جيشها (في أبريل 2012) وبمعاونة فرقته التاسعة، هجوما عسكريا على منطقة حقول النفط السودانية في “هجليج” المتاخمة واحتلوها، ولم يتم تحريرها إلا بعد قتال خاطف وعنيف. كما بدأ تحالف الجبهة الثورية عمليات عسكرية نشطة في كل من ولايتي جنوب وشمال كردفان.

وهكذا تطور التوتر في علاقات الدولة الوليدة بالدولة الأم، من التعثر المتعمد في تسوية قضايا ما بعد الانفصال إلى مرحلة الحرب الخاطفة ودعم العمل المعارض المسلح، في وقت وجيز جدا. لكن الذي يعنينا أكثر في تلك التطورات هو أنه حتى ذلك التاريخ، لم يتم فك الارتباط بين الفرقتين التاسعة والعاشرة بقيادة كل من عبد العزيز الحلو ومالك عقار، على التوالي، وبين جيش دولة جنوب السودان، وظل هذا الأمر معلقا حتى سبتمبر 2012م حيث جرى في أديس أبابا توقيع اتفاقيات بين الدولتين حول القضايا المتبقية، بدعم وضغط غربي (أمريكي وبريطاني) وبوساطة الآلية الأفريقية رفيعة المستوى بقيادة ثابو أمبيكي وبحضور رئيسى الدولتين، وعلى الرغم من أن المفاوضات التي أفضت إلى تلك الاتفاقيات أمنت على ضرورة فك الارتباط بين الجيش الشعبي ومنسوبيه من أبناء المنطقتين، إلا أن ذلك بقي حبرا على ورق.

(4)
كانت الحكومات الغربية تعرف أن الدولة التي دعموا ميلادها في جنوب السودان، غير قابلة للحياة والنمو من دون علاقات حسن جوار وتكامل مع السودان، ولهذا كانوا يتبنون رؤية “الحدود المرنة” والجنسية المزدوجة والتكامل الاقتصادي مع الدولة الأم، في حين كان الغلاة من قيادات الحركة الشعبية الحاكمة في جنوب السودان يتبنون رؤية مفادها خنق السودان إقتصاديا وعدم رفع العقوبات الأمريكية عنه حتى يسقط النظام، ومن ثم إعادة صياغة العلاقة من جديد، ولأن هؤلاء الغلاة كانت لهم اليد الطولى في السيطرة على الجيش الشعبي، فقد أبقت الدولة في جنوب السودان على دعمها المستمر وبمختلف الأشكال “للرفاق القدامى” في الفرقتين التاسعة والعاشرة، بل قامت بتوحيدهما تحت قيادة واحدة، حتى نشبت الحرب الأهلية في جنوب السودان في نهاية العام 2013م.

نتيجة الحرب الأهلية في جنوب السودان كانت كارثية على الدولة الوليدة وعلى مجموعات الضغط الغربية التي دعمت قيامها، وشجعتها على خنق الشمال، وما تزال جهود التسوية السلمية بين الفرقاء الجنوبيين متعثرة برغم مضي أكثر من سبع سنوات على تلك الجهود. ومن مفارقات القدر أن نظام الحكم في السودان والذي سعت الحركة الشعبية لإسقاطه ودعم معارضيه المسلحين، هو نفسه الذي احتضن المفاوضات الحاسمة بين فرقاء الجنوب في الخرطوم ونجح في الوصول إلى الاتفاق والتسوية التي تتعثر الآن، وذلك في أغسطس 2018م، لكنها على كل حال ليست مفارقة أكبر من أن تكون دولة جنوب السودان هي الوسيط بين منسوبي جيشها السابقين ومن دعمتهم وآوتهم من مقاتلي وقيادات الجبهة الثورية المتحالفين معهم، وبين حكومة السودان !!

(5)
لقد شكل سقوط نظام الإنقاذ في أبريل 2019م بحراك شعبي واسع، دعمته قوى غربية وإقليمية وسانده الجيش، ووصول قوى مدنية مسنودة خارجيا إلى السلطة، سانحة قد لا تتكرر لتسوية الأوضاع بين السودان وجنوب السودان من جهة، وداخل جنوب السودان نفسه من جهة أخرى، وفقا للرؤية الغربية التي آيست من أن تقوم في جنوب السودان دولة قابلة للحياة، ومن ضمن تلك الرؤية تأتي قضية “فك الإرتباط” بين جيش جنوب السودان وبين منسوبيه السابقين في الفرقتين التاسعة والعاشرة الذين يقودهم الآن عبد العزيز الحلو، وخلق تكامل إقتصادي بين الدولتين، وربما تكامل سياسي يفضي في سنوات لاحقة إلى نوع من الكونفيدرالية. ومن ضمنها أيضا إعادة هيكلة الأوضاع في الدولتين وبخاصة في السودان لتكون أقرب إلى الرؤية التي طالما تبناها الراحل جون قرنق ومناصروه في “مناطق الهامش” ودعمتها جماعات الضغط والناشطون في الغرب، وهي رؤية “السودان الجديد” القائم على إعادة تعريف هوية الدولة ورسم العلاقة بين السلطة المركزية وبقية أطراف السودان وفق منطق يدعي تبني الرؤية العلمانية، وقيام نظام حكم يكون وثيق الصلة بالمصالح الغربية، ويقاوم تمدد النفوذ الصيني والروسي في هذا الجزء من القارة الأفريقية.

ولعل هذا ما يفسر لنا، كيف أن الأطراف التي أشرفت على تهيئة وإعداد مسرح التفاوض، رأت أن من الأهمية بمكان استرضاء قيادات الحركة الشعبية – شمال، وهم أصحاب القوة القتالية الأكثر عددا بين من اصطلح على تسميتهم ب “حركات الكفاح المسلح”، لاختيار جانب الملعب الذي يناسبهم وفي نفس الوقت ابتدار تمرير الكرة، وذلك من خلال تقديم أطروحتهم التفاوضية المسماة إعلان المبادئ. وهو ما يفسر كذلك كيف أن القضايا التي ظلت محل خلاف بين القوى السياسية السودانية منذ ما قبل الاستقلال، يراد أن يتم حسمها على طاولة مفاوضات بين قوى لا يسندها منطق ولا تفويض شعبي، وكل مؤهلاتها أنها تحمل السلاح وتريد أن تفرض عن طريق صندوق الذخيرة ما فشلت في الوصول إليه عن طريق صندوق الانتخابات.

(6)
السيناريو المرسوم للمفاوضات الجارية الآن في جوبا هو أن تنتهي، إن عاجلا أم آجلا، إلى صيغة تضع اللمسات الأخيرة لرؤية “السودان الجديد” وللعلاقة العضوية بين الجيش الشعبي في جنوب السودان وجيش الحركة الشعبية – شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وأن يعقبها إضافة “رقع” جديدة للوثيقة الدستورية، لكي تستوعب ما يتم إقراره في الاتفاق، ومن ذلك – دون شك – تمديد الفترة الانتقالية وإعادة هيكلة السلطتين التنفيذية والسيادية فضلا عن إضافة ممثلين للحركة في المجلس التشريعي “الافتراضي”. وذات السينايو سوف يتكرر عقب انتهاء التفاوض مع عبد الواحد محمد نور، الذي ما يزال في طور النوايا !!

وهكذا سنجد أن أبرز ضحايا هذه المفاوضات هو موضوع التحول الديمقراطي، والتفويض الشعبي عن طريق الانتخابات، والذي أصبح لا بواكي له، فليس معروفا إلى أي مدى سيتم تمديد حكم تحالف الأقليات السياسية المسمى “تحالف قوى الحرية والتغيير” المتحالف مع قيادات القوات النظامية ومع “حركات الكفاح المسلح”. وليس مهما هنا التساؤل كيف نفهم أن ذلك التحالف الذي يحكم الآن في الخرطوم يحاور نصفه الآخر الذي ما يزال يحمل السلاح ويصر على الاحتفاظ به حتى نهاية الفترة الانتقالية.

كاتب صحفي ودبلوماسي سابق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *