Wednesday , 24 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

خطاب “ما أريكم إلا ما أرى” الاقتصادي للحكومة الانتقالية (7)

بقلم :حسام عثمان محجوب
[email protected]

هناك أسباب أخرى لم يكلّ الدكتور إبراهيم البدوي ومناصرو برنامجه من الاستدلال بها على ضرورة رفع الدعم عن الوقود، منها التهريب، ودعم غير المحتاجين (وقد أفلحوا في تنميط المستفيدين من الدعم بصورة سائقي البرادو). ولم يستطع أي من المسؤولين أو المناصرين أن يقدموا أرقاماً لحجم التهريب، ولا للقدرات اللوجستية الخارقة للمهربين التي تتيح لهم قطع الفيافي واختراق الحدود بأساطيل حاملات الوقود بكميات تستطيع أن تحدث كل هذه الاختلالات في أسواق الوقود الداخلية، ولم يستطيعوا أن يقولوا إن التهريب جريمة يقع عبء منعها على أجهزة الشرطة والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية المختلفة.

أما مثال البرادو ودعم غير المحتاجين، فينطبق حقيقة على أجهزة الدولة ومؤسساتها العسكرية والنظامية، وهي أحد أكبر مشتري الوقود في السوق السوداني، بينما ذكر كثير من الاقتصاديين أنه يمكن فرض ضرائب متصاعدة على ممتلكي السيارات الفخمة كالبرادو وغيرها. وأما فرية أن الدعم يستفيد منه غير المحتاجين لأن الفقراء لا يركبون سيارات خاصة، فتكذبها الزيادات التي طالت أسعار المواصلات العامة التي يستخدمها المواطن البسيط، كما طالت أسعار كل سلعة في جميع أنحاء السودان، بعد رفع الدعم عن الوقود، وتكذبها أيضاً زيادة التضخم في الأرياف بنسبة أكبر منها في الحضر، كما لاحظ د. معتصم الأقرع من أرقام التضخم الرسمية للجهاز المركزي للإحصاء.

البرنامج الآخر الذي أدخله دكتور البدوي وطاقم الحكومة الاقتصادي في ترسانته لتخفيف آثار صدمات رفع الدعم وتعويم الجنيه، هو برنامج (سلعتي)، ويكفي لتوضيح قدراته أن نذكر أن وزير التجارة والصناعة السابق مدني عباس أورد في تقريره الختامي، أن هذا البرنامج لم يتوفر له سوى 10% من الميزانية اللازمة لتمويله.

برنامجا (ثمرات) و(سلعتي) ليسا بالضرورة برنامجين سيئين، بل يمكن القول إن أهدافهما جيدة عموماً إذا أحسن تطبيقهما، ولكنهما لا يمكن بحال أن يخففا من آثار صدمة تطبيق رفع الدعم وتعويم الجنيه على المواطنين السودانيين، لأنهما لا يقتلعان جذور التضخم والندرة، ولأنهما سيحتاجان لزمن طويل لتنفيذهما، ولأنهما في الوقت الراهن غير قادرين على تغطية نسبة مقدرة من السكان المستهدفين، ولأنهما يعتمدان بصورة كبيرة – شبه مطلقة في حالة برنامج ثمرات – على منح المجتمع الدولي، التي طعمنا سمها في موازنة 2020.

تعويم الجنيه أو توحيد سعر الصرف

الكارثة الأكبر التي يسوقنا لها برنامج الحكومة الاقتصادي بقوة عين وعدم مسؤولية غريبين، هي التوحيد الفوري لسعر صرف الجنيه، أو تعويم الجنيه الذي صار واقعاً بعد قرارات الأحد 21 فبراير. وقد وضح عدد من الخبراء خطورة هذا القرار، ومنهم الاقتصادي فاروق محمد نور كمبريسي، الذي ذكر في لقائي معه في برنامج “وإن طال السفر” على قناة سودان بكرة في يناير الماضي، أن التكلفة السياسية لتخفيضات العملة السودانية تاريخياً منذ تدخل البنك الدولي سنة 1978 كانت كبيرة جداً، وهو يرى أنها بذرت بذور سقوط نظام نميري، والديمقراطية الثالثة، ونظام البشير. وقد أشار فاروق عدداً من المرات إلى أن التكلفة السياسية هذه المرة قد تؤدي لسقوط الحكومة الانتقالية.

وقد ذكر الدكتور التجاني الطيب أن توحيد سعر الصرف يقتضي عدداً من الإجراءات لمعالجة عدم التوازن في الاقتصاد الكلي، ووضح أن هذا يتم في المتوسط خلال 3-5 أعوام في الدول النامية أو الأقل نمواً كالسودان، وتحدث عدد من الخبراء الاقتصاديين مراراً عن أولوية خفض عجز الموازنة العامة، وخفض التضخم قبل الحديث عن تعويم العملة، وأن خطورة تعويم الجنيه الآن أنه سيدفع بقيمته نحو الهاوية، وهو ما شهدنا مثاله في عدد من الدول، منها زيمبابوي وفنزويلا ولبنان.
وذكر الدكتور البدوي نفسه في 30 أكتوبر 2019 فيما يتعلق بالدعم، يتوجب توفير قيمة 3 أو 4 أشهر من الواردات عبر بنك السودان عند توحيد سعر الصرف، وعمل كل الترتيبات المؤسسية، وإصلاح القطاع المالي. أشار الكثيرون أيضاً لضرورة توفير رصيد من العملات الأجنبية لدى بنك السودان قبل تعويم الجنيه، وقد ذكرت الدكتورة هبة أرقاماً تقل عن المليار دولار. ومع تلك الإشارات كانت المقارنة حاضرة مع النموذج المصري للتعويم، وبينما يقرون جميعاً بأن مصر أقدمت على تحرير سعر صرف الجنيه، حين كان لديها عشرات المليارات من احتياطيات العملات الأجنبية في نظامها المصرفي – منها نسبة معتبرة أتت كمساعدات من دول صديقة – فإن مناصري برنامج الحكومة لم يتورعوا عن التقليل من أهمية هذه الاحتياطات مع دعوتهم لتحرير سعر صرف الجنيه السوداني، وبالطبع فهم يغفلون التكلفة السياسية للحصول عليها، وأيضاً يغفلون أثر تعويم الجنيه المصري على غالبية الشعب المصري من زيادة الفقر وعدم المساواة فيه، رغم تحسينه لمؤشرات الاقتصاد الكلي.

وقد ذكر د. البدوي أنه من غير المنظور أن نتحصل في السودان على احتياطي يوازي ما وفرته مصر قبل التعويم، ولذلك فهو يرى اتخاذ إجراءات “ناظمة وأمنية وجزائية” وأيضاً مخاطبة الروح الوطنية لدى تجار العملة، وأترك التعليق للقراء الذين راقبوا تذبذب سعر الصرف خلال الأشهر القليلة الماضية، ولسان حكومتنا ورئيس وزرائها الانتقالي قد أكله الطير، فسكتوا عن التعليق عن هذا التدهور الجلل.

وقد ذكر البدوي وهبة أنه سيحدث تجاوز لسعر الصرف (overshooting) مباشرة بعد التعويم، ولكن السعر سيستقر بعد فترة قد تطول أو تقصر. ذكرت د. هبة أنها قد تكون 3 أشهر، ورغم معادلات د. البدوي الرياضية فلا يبدو أن حقائق الواقع على أرض السودان تعضد هذه الوثوقية التي يتحدثان بها، خصوصاً أن انخفاض سعر صرف الجنيه جعل المستوى الواقعي الذي تنبأ به د. إبراهيم في أكتوبر الماضي (140 جنيهاً للدولار الأمريكي) أقرب لمزحة فجة. كما يعتقد بعض الاقتصاديين مثل الدكتور معتصم الأقرع أن أطروحة روديغر دورنبوش عن تجاوز سعر الصرف تستند إلى افتراضات وعلاقات اقتصادية بين أسواق المال والسلع لا تتوفر في السودان. أضف إلى ذلك أن تجاوز سعر الصرف (overshooting) حتى لو تحقق لا يعني الكثير، وكل ما يعنيه هو أنه بعد التعويم مثلاً سينهار سعر الصرف بدرجة كبيرة، ولكنه سيتحسن قليلاً بعد فترة، وهذا التحسن لا يعني أنه سيقارب مستواه قبل التعويم بأي حال من الأحوال. فعلى سبيل المثال لو كان سعر الصرف التوازني بعد التعويم 600 جنيه للدولار، فمن الممكن أن ينخفض السعر بعد التعويم إلى 650 جنيهاً، ولكنه بعد فترة سيعود إلى سعر التوازن، أي 600 جنيه للدولار.

هناك مغالطة مبدئية في مقاربة د. البدوي لتحرير سعر صرف الجنيه السوداني، وهي أنه يرى تعدد أسعار الصرف، وارتفاع السعر الرسمي، سبباً في إضعاف قدرة الصادرات السودانية على المنافسة، ومن ثم في زيادة عجز الميزان التجاري بسبب تناقص الصادرات. ويبدو هذا الرأي كأحد تجليات عدم معرفة د. البدوي ومناصري برنامجه بالواقع الاقتصادي السوداني، فعدم تنافسية الصادرات السودانية سببها الأكبر ضعف الإنتاج الذي تسببت فيه الدولة منذ زمن الإنقاذ، ولا يبدو أن حكومتنا الانتقالية تعمل شيئاً جاداً مختلفاً لمعالجته. باختصار، فنحن لا نقوم بإنتاج محاصيل زراعية أو منتجات صناعية مثلاً، ثم لا يشتريها المستوردون العالميون؛ لأن أسعارها غالية بالجنيه السوداني الرسمي. لو كانت صادراتنا تترى ويقف في سبيل عبورها حدود البلاد جنيهنا المرتفع القيمة لجاز طرح تخفيضه كأحد حلول جعلها أقدر على المنافسة في الأسواق العالمية.

وفي مقابل ذلك، فإن بلادنا تعتمد بصورة شبه كاملة على الاستيراد، وكما ذكرنا فهذا أحد آثار التركة الثقيلة لنظام البشير، وبسبب ذلك فإن أي انخفاض في سعر الجنيه – أو أحد أسعاره الرسمية المتعددة – سيؤدي لارتفاع أسعار الواردات، وأسعار كل المنتجات التي تعتمد على مدخلات إنتاج مستوردة، وهو ما سيزيد التضخم، ويؤدي إلى مزيد من الانهيار للوضع الاقتصادي، وإلى انخفاضات متتالية لسعر صرف الجنيه، وزيادات في التضخم. بالمصطلحات الاقتصادية، فإن الصادرات أقل مرونة مع سعر صرف الجنيه السوداني (لا تتأثر الصادرات بتغير سعر الصرف)، بينما سعر الصرف أكثر مرونة مع الواردات (يتحرك سعر الصرف بتناسب مطرد مع الواردات).

وعلى كل حال، فحسب د. معتصم الأقرع فإن مستوى الصادرات والواردات لا يعتمد على سعر الصرف الاسمي، بـل على سعر الصرف الحقيقي، أي سعر السوق أو البنك مقارنة مع معدل التضخم في السودان، مقارنة مع معدلاته في بلدان المنافسين والشركاء التجاريين. وهذا يعني أن تحسين تنافسية الصادرات والسلع المنتجة محلياً كبدائل للواردات، يتم أيضاً بالسيطرة على التضخم، وأن تخفيض قيمة الجنيه في سياق تضخم انفجاري سوف يضعف التنافسية الدولية للاقتصاد السوداني بدلاً من تحسينها.

نواصل

Leave a Reply

Your email address will not be published.