Tuesday , 3 December - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

في مكتبة المصوَّرات بالخرطوم.. جنوب السُّودان.. انتفاض مواطني المناطق المقفولة (6 -6)

الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]

أما في الفصل الأخير من هذا السفر فقد تناولنا فيه شخصيَّة السيِّد الصَّادق المهدي كشخصيَّة محوريَّة في القضيَّة السُّودانيَّة. وقد جاء تحليلنا لشخصيَّة الصَّادق المهدي في الحكم والمعارضة من باب النقد (Critique) وليس الانتقاد (Criticism)، فالنقد فعل غير منحاز يوضِّح الإيجابيَّات والسلبيَّات دون اتِّهام أو تقريع أو اعتداء، وينتهي إلى تحليل مفصَّل وتقييم للشيء محل النقد. أما الانتقاد فيهتم أكثر بتصعيد الأخطاء والجوانب السلبيَّة دون تصويب أو تبيان للحقيقة، ويتوجَّه غالباً لذم أو انتقاص العمل ذاته. ويُعرَّف بأنَّه “التعبير عن عدم الموافقة على شخص أو شيء”، فهو بالعادة عمل سلبي غير مدعَّم بالأدلَّة أو التوضيحات. قد يتساءل المرء لِمَ ركَّزنا في هذا الفصل الضخم على الصَّادق المهدي؟ وإذ نحن نحن نجيب أنَّ الصَّادق المهدي هو أكثر الشخصيَّات السُّودانيَّة الذي أوتي فرصتين ليكون رئيس وزراء السُّودان، لكنه أهدرها في المتناقضات، والإكثار من الخطب البتراء، والتضليل المتعمِّد، والتعاون مع الإسلاميين في أكثر القضايا الملحَّة التي ظل أبناء الوطن يصطرعون حولها، وأخذت تهدِّد الوحدة الوطنيَّة.

على أيٍّ، “فقبل نحو أسبوعين من الانتفاضة (الشعبيَّة العام 1985م)، أصدر السيِّد الصَّادق المهدي منشوراً تحت عنوان: (الموبقات العشر)، لكنه وُزِّع على نطاق واسع بعد زوال حكم الرئيس نميري، إذ يزعم المنشور أنَّ الحركة الإسلاميَّة في علاقتها مع نظام نميري قد اقترفت موبقات عشراً لا بدَّ أن تثوب عنها حتى تُقبل في إطار العمل السياسي. ودارت محاور المنشور حول عددٍ من القضايا، منها الموقف من اتفاقيَّة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وترحيل الفلاشا (إلى إسرائيل)، والمجاعة، ثمَّ قضيَّة قوانين أيلول (سبتمبر) التي أيَّدتها الحركة الإسلاميَّة بغير تحفُّظ، ورفضها السيِّد الصَّادق المهدي، فأدخله الرئيس نميري السجن (المحبوب عبد السَّلام: الحركة الإسلاميَّة السُّودانيَّة.. دائرة الضوء وخيوط الظلال، 2000م).” لكن قبل أن تثوب الحركة الإسلاميَّة عن الموبقات العشر التي عدَّدها الصَّادق المهدي قبلها في إحدى حكوماته بما فيها زعيم الحركة الدكتور حسن عبد الله الترابي، والذي سبق أن سقط في الانتخابات البرلمانيَّة. ففي اجتماعات مجلس شورى الحركة الإسلاميَّة ذي الستين عضواً، وهيئة شورى الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة الذي بلغ أعضاؤه أكثر من ثلاثمائة عضواً رأى كلاهما “في رئيس الوزراء السيِّد الصَّادق المهدي سياسيَّاً تعوزه الإرادة والقرار، وقد استنفد كل الفرص السخيَّة التي أنعمت بها عليه أقدار الله الطبيعيَّة والتأريخيَّة، وليس له خلاص للبلاد إلا أن يرحل.”

ومع ذلك، ولغ الصَّادق في التعاون مع هؤلاء الإسلاميين ومهادنتهم. ففي أحدى لقاءاته الصحافيَّة قال الصَّادق المهدي “لن نغسل الدم بالدم، ولا مشاركة في السلطة الحاليَّة (حكومة عمر البشير)”، وقطع رئيس حزب الأمة القومي بأنَّه لم يشارك في النظام الحالي (نظام البشير آنذاك)، لأنَّه استبدادي وفاسد، وشوَّه الدِّين، وتسبَّب في خراب الوطن، لكنه أكَّد استمراره في الحوار معه حتى يستجيب لدعوة الحق. وقال المهدي في خطبة ألقاها بمسجد روضة المختار بولاية النيل الأبيض “إنَّهم يرفضون إسقاط النظام بالقوَّة، وسنقاوم أيَّة جهة تحاول إسقاط النظام بالقوَّة.” وفي مقولته الشهيرة التي ظلَّ يردِّدها في التسعينيَّات عن نظام “الإنقاذ”، كان السيِّد الصَّادق المهدي يقول: “إنَّهم (أي أهل الإنقاذ) يركبون فرساً جامحاً، ونحن على استعداد للإمساك بلجام الفرس لينزلوا منه!” وظلَّ واثقاً بأنَّه وحده لا شريك له هو من يقدر على إقناع البشير بالقيام بهبوط اضطراري ليركب هو في سرج حصان السلطة، ويقوده بوصفه متمرِّساً في ركوب الخيل. أفلم يقل الراحل إبرهيم منعم منصور في لقاء إذاعي بأنَّ الصَّادق المهدي كان على وشك التوقيع على اتفاق مع نظام البشير والانخراط فيه، فلو كانت الانتفاضة الشعبيَّة في كانون الأوَّل (ديسمبر) 2018م قد تأخَّرت لفترة أسبوع آخر لكان الشعب السُّوداني قد أسقط عمر البشير والصَّادق المهدي ومن شايعهما من أصحاب الهبوط الناعم! كان الراحل الشريف حسين الهندي يقول: “إذا أردت معرفة الطريق الصحيح فاختر طريقاً، وانتظر رؤية الصَّادق المهدي؛ إذا وافقك في اختيار الطريق فتأكَّد أنَّ هذا الطريق خاطئ.. ومخالفة الصَّادق دوماً هي الخطوة الصحيحة.”

ففي سردنا لشخصيَّة الصَّادق المهدي بحثنا في هذه الشخصيَّة الأسطوريَّة من النواحي الأخلاقيَّة والدِّينيَّة والتأريخيَّة، ولكن في نهاية المطاف تبدَّل الأمر لدينا تماماً، وصرنا أمام إزدوادجيَّة سيكلوجيَّة (جوانيَّة) تفسِّر في نهاية الأمر سياسيَّاً طائفيَّاً.

مهما يكن من أمر، فقد ذيَّلنا هذا الكتاب بكثرٍ من الملاحق حتى يستطيع طلاب العلم ودور المعارف ومراكز البحوث الرجوع إليها، والاهتداء بها للمزيد من التحليل والتدقيق والتوثيق، لأنَّ ما ورد ذكره في هذه المواثيق والملاحق يمثِّل التأريخ السياسي لأهل السُّودان قادة وأحزاباً وشعباً، وذلك فيما هم سعوا فيها في سبيل التعاطي مع المشكل السُّوداني الشائك، والذي لم يفلحوا في حله قيد أنملة. ودليلنا على ما نقول المصائب الاجتماعيَّة، والأهوال الأمنيَّة، والمشكلات السياسيَّة، والتدهور الاقتصادي التي يرزح تحت نيره المواطنون والوطن. لعلَّ هناك ثمة فرصاً أضاعها ساسة السُّودان من أهل العقد والحل. ألم تروا ماذا هم فاعلون بالسلطة بعد أن آلت إليهم بعد الانتفاضة الشعبيَّة في كانون الأوَّل (ديسمبر) 2018م، وفقدان كثرٍ من الأرواح البريئة في الحراك السياسي الذي أفضى إلى التغيير السياسي في البلاد. فقد سُرقت الثورة منذ بواكير العهد بها، أو – بالأحرى لنقل – كان التخطيط في الأساس هو الإخراج المسرحي سيىء الأداء كما نشاهده الآن، والأدلة كثيرة في الوسائل الإعلاميَّة المقروءة والمرئيَّة والمسموعة، ولا تحتاج إلى المجهر، أو شخص ذي بصيرة نافذة لاستدراكها.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *