Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

شذرات من سيرة الشيخ ياسين عمر الإمام (1)

بقلم : عبد الحميد أحمد محمد

النشأة والميلاد:

بيئة النشأة الأولى أخلصت الشيخ ياسين عمر الإمام، أحد أبرز قيادات الحركة الإسلامية السودانية، بخالصة فريدة أزكت فيه إحساساً متعاظماً بالإنسانية، أورثته سعة في الخُلق وسماحة في النفس، يقوم تلقاءً إلى إسناد ضعفائها وإيواء أيتامها، يرجو إغناء كل ذي عيلة وفاقة، شديد الرأفة، أسرع ما تستهل دموعه لشكوى موجّع، وإن كان غريباً نائياً يعرف بلواه لأول مرة، لكنه يتكلّف رِفده مما قل منه أو كثر طلاقة بالخير وجوداً بالعطاء، حتى ضاقت داره (بأهل الصفة) من فقراء الناس يساكنونه ويأوون أبداً إلى ركنه، لا سيما أن البيت عامر بحِلق القرآن يقصدها طلاب العلم، فكانت ساحة أخرى لنشاط ياسين الدعوي يبث فكرته بين أولئك وقرنائهم من أهل الدار، كذلك أهدت طبيعة الحياة الأمدرمانية ياسين عمر انفتاحاً على الآخرين، شديد الصلة بمجتمعهم المنفتح بطبعه على الآخر يشاركه ويصله في كل أحوال فرحه وحزنه.

ولد ياسين عمر أحمد مكي بمدينة أم درمان في مارس/آذار من عام 1931م نحو بداية العقد الرابع من استتباب الأمر للحكم الثنائي -الإنجليزي المصري- في السودان لأسرة ضاربة في التدين، كان جدُّه أحمد مكي (1850 – 1885) إمام مسجد أرباب العقائد بالخرطوم، جاءها نازحاً قادماً من بلدة المحمية شمالي السودان.

حفظ الوالد عمر الإمام القرآن على يدي أبيه وتأهل من ثم ليكون إمام مسجد أم درمان التي استقر بها يعمل في صناعة المراكب، ويتقلّب بين مهن شتّى، لكنه لا يغفل أن يبني خلوةً يدرّس بها القرآن في ذلك الفضاء الذي استحال من بعد إلى أن أصبح المسجد الكبير بأم درمان، في ذات الوقت الذي تقلد فيه شقيقه (عبدالوهاب) إمامة مسجد أرباب العقائد بالخرطوم خلفاً لوالده الذي نفاه الحاكم الإنجليزي “غردون باشا” إلى خارج الخرطوم المحصورة يومئذٍ في نطاق ضيق، وظل منفياً هناك بالقرب من موقع حديقة القرشي الماثل اليوم بالخرطوم حتى وافته المنية، ولا يزال لقبره أثر ومعلم.

فور سقوط الدولة المهدية واستتباب الأمر للاستعمار الثنائي خرج عمر الإمام يبحث عن أهله ونسائه اللاتي تفرقن سبايا بعد المقتلة التي أوقعها جهادية الخليفة عبدالله التعايشي بمدينة المتمة، وإذ تيسر للوالد أن يجتمع بالغائبات من أهله يعود بهن من تلقاء المديرية الشرقية ونواحي القلابات، فقد استقر بهم المقام جميعاً في مدينة أم درمان، كان لعمر الإمام يومئذ تسعة من الأولاد من الذكور وثلاث من البنات.

تنقل ياسين عمر من خلوة إلى أخرى يقرأ القرآن ويتلقى العلم لأول مرة في أم درمان، والتحق بخلوة (ود القاضي) من أسرة الكتياب، ثم انتقل إلى خلوة الشيخ حسن قسم السيد من أهل شمبات، وكان أحفظ أهل زمانه وأكثرهم علماً بالقراءات والتجويد، وتقع خلوته بالقرب من المعهد العلمي أقرب إلى جامع السوق في أم درمان.

لكن الوالد ظل يمسك ياسين عن ارتياد المدارس الحكومية لا يثق في مناهج تعليمها التي صنفها المستعمر، لكن انتقال ياسين إلى كفالة شقيقه الأكبر الذي التحق بسلك القضاء هيّأ له أن ينتقل معه إلى مدينة النهود غربي السودان؛ حيث بدأ تعليمه النظامي من هناك طالباً في إحدى مدارسها الأولية التي التحق بها في يناير/كانون الثاني من عام (1940م) قضى فيها أربعة أعوام، واجتاز امتحانات النقل إلى المدارس الوسطى، وتقدم بطلب للقبول بمدرسة أم درمان الأميرية التي أرجأت قبوله إلى جولة القبول على النفقة الخاصة، وإذ تعذّر عليه تحصيل الرسوم الدراسية فقد تحول إلى المدرسة الأهلية الوسطى بأم درمان، طالباً بصفها الدراسي الأول في عام (1944م)، لكن لدى تقدمه للقبول بمدرسة أم درمان الأميرية كان ياسين عمر قد تخطى السن التي يقبل فيها الطلاب النظاميون بالمدرسة، فاقترحت عليه إدارة المدرسة أن يكون في صفوف الطلاب الذين يدرسون على نفقتهم الخاصة، وقد قررت قبوله بمبلغ (12) جنيهاً، وإذ تعذر عليه توفير ذلك المبلغ فقد انتقل إلى الدراسة بمدرسة أم درمان الأهلية برسوم أقل بلغت ستة جنيهات.

منذ المدرسة الوسطى بدا ياسين عمر ناشطاً سياسياً يوالي اتصالاته بالحركة السياسية في أم درمان، لا يتخلف عن شهود تظاهراتها التي تنزع إلى مناهضة السلوك الاستعماري يركن إلى تيار اليسار السياسي شيئاً قليلاً، تجذبه شعارات يرفعها تدعو إلى تحرير المجتمعات من الاستعمار، وأدبيات تنادي ببسط العدالة الاجتماعية، مساواة بين الناس، وتركز على تخفيف معاناة الفقراء والمقهورين صارخة بالعداء للنظم الرأسمالية التي يجسدها الاستعمار.

لكن ياسين عمر وهو يكمل المرحلة الوسطى ويترشح للقبول بمدرسة وادي سيدنا يعجز كذلك عن الوفاء برسوم الدراسة، إذ بلغت نحواً من ثلاثين جنيهاً فيغادرها في العام (1951م) ملتحقاً بمدرسة (فاروق) يدرس الرياضيات حتى ينال في علومها درجة البكالوريا ويتأهل فيها لدراسة السنة الخامسة توجيهية قبل أن يتداركه الفصل السياسي بسبب من اشتراكه في إحدى المظاهرات.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *