Friday , 26 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

من التمرد إلى الفلتان

بقلم: د. خالد التيجاني النور

انتابني فزع كبير وأنا أقرأ سلسلة الحوارات المتوالية التي تسابقت الصحف لإجرائها مع السيد والي ولاية شرق دارفور التي شهدت أحداثاً مؤسفة ومنذرة غير مسبوقة الأسبوع الماضي، وكم وددت لو أن الأخ أنس عمر اكتفى بإصدار بيان صحافي بكلمات مدروسة بعناية حول هذه التطورات الخطيرة، بدلاً عن الاستجابة لإغراء الحوارات الصحافية المباشرة.

نعم كصحافي، فأنا حريص على الإفصاح والشفافية، من المؤكد أنه هذه الحوارات وفرّت معلومات غزيرة عن خلفيات وأبعاد ما حدث وتبعاته، ولكنها في الوقت نفسه تكشف عن إنزلاق الأحوال إلى حافة عواقب مخيفة على مستقبل الاستقرار في هذه البلاد التي لا تنقصها أسباب الانفراط ويحيط بها “تكاثر الزعازع، وتناقص الأوتاد” في المقولة الجامعة للدكتور منصور خالد في وصف حال دولة ما بعد التقسيم المتشرذمة.

وعندما يصرّح مسؤول سيادي رفيع في درجة وال، وهو ممثل رئيس الجمهورية في ولايته، بأنه مستهدف وأنه يتلقى رسائل تهديد بالقتل، وأن ذلك مخطط يجري على رؤوس الأشهاد، وعندما يعلن أن الذين شنّوا هذه الغارة على منزل الوالي ومقار حكومية هم “جزء من الحكومة”، وبل و”ضباط من حرس الحدود معروفين بالإسم”، وعندما يذهب إلى حد القول بأنه “لا يوجد ضمان لعدم تكرار ما حدث”، ثم يمر وكأن الوالي يقاتل من أجل قضيته الشخصية، فإن ذلك كله لا يترك مجالاُ لأية تحليلات ولا تكهنات ولا حتى مبررات سوى أن أسوأ المخاوف تتحقق بالفعل، وأن البلاد دخلت بالفعل في نفق مظلم.

يتأسس مفهوم الدولة الحديثة، كما ذهب إلى ذلك عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر، على شرعية “احتكار وسائل العنف”، ففي محاضرته الشهيرة التي حملت عنوان “السياسة كدعوة” في العام 1917 عرّف الدولة بأنها الجماعة البشرية التي “تحتكر بنجاح الاستخدام الشرعي للقوة”، وعندما تتعدّد الشرعيات المكتسبة لاستخدام القوة خارج سياق شرعية الدولة، سواء باللجوء لجعل الانتماء لـ “القوة النظامية” محل للمساومات ضمن الصفقات السياسية، أو التحالفات مع قوى اجتماعية معينة على حد البندقية، فلا يعني ذلك سوى توقع استقالة الدولة، أو حتى موتها بكل تبعاته وتداعياته.

ولطالما حذّر الحادبون على المصالح الوطنية العليا من مغبة المسارعة إلى الاعتماد على حلول عاجلة قصيرة النظر بمظنّة الحاجة الملحة لها لدرء خطر تهديد وشيك، دون اعتبار للعواقب البالغة الخطورة لذلك على المدى الطويل، ولكن لم يكن هناك من هو مستعد لسماع النصائح المخلصة، ربما كانت هذه التدابير ذات مفعول سريع في وقتها، ولكن حان الوقت، للأسف بعد أن وقع المحظور، لإدراك الكلفة الاستراتيجية الباهظة لتلك السياسات التكتيكية المتعجلّة.

نعم انحسرت مساحات تحرك الحركات المسلحة المتمردة وحوصرت، ولكن ذلك لم يكن بلا ثمن أكثر كلفة، لقد انتقل الحال من التمرد المعروف الوجهة والمطالب، إلى التفلّت المحدود، والآن انجرف إلى حالة فلتان لا تدري متى وأين وكيف تحدث، ولا حقيقة أهدافها، وهنا تكمن المخاوف الحقيقة من سيناريوهات اليوم التالي، خاصة في ظل تدثّر رسمي بالصمت مركزياً حول ما جرى وكأنه يحدث في دولة أخرى.

لم يعد هناك محل خلاف بين السودانيين بغض النظر عن مواقفهم السياسية أن البلاد تعيش في حالة ترقب غير مسبوقة وفي ظل ظروف دقيقة للغاية تضع مستقبلها على المحك وسط علامات استفهام كبيرة وحيرة وضبابية وسط فراغ سياسي كبير.

Leave a Reply

Your email address will not be published.