خطاب سيِّد الخطيب
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
سأل الأخ الأستاذ الطاهر التوم ضيفهُ في برنامج “حتى تكتمل الصورة” الأستاذ سيِّد الخطيب : كيف تنظر للُّغة التي كتب بها خطاب الرئيس الأخير للشعب السوداني ؟ فأجابه بالقول إنَّ ( لغة الخطاب غير مُعقدَّة ).
و كان أحد أصدقائي الأعزَّاء قد علق على إجابة الأستاذ سيِّد بطرح سؤالٍ بسيط وعميق : ( وهل هذا الإجماع على غموض الخطاب سببهُ غباء (كل) الشعب السوداني البليد ؟ ).
يكشف السؤال الذكي لصديقي عن واحدة من الآليات التي يُفكر بها أصحاب الآيدولوجيات عموماً، و الإسلام السياسي على وجه الخصوص، وهي آلية “الإنكار”، وهى آلية ذات بعد “نفسي” وآخر “سياسي” يتم إستدعاؤها لمواجهة “حقيقة” غير مريحة أو مؤلمة، وتكمن خطورة هذه الآلية في أنَّ أصحابها يشعرون “بالإهانة” عندما يُحاولون قبول الحقيقة ولذا تتحوَّل إلى عائق دائم يحجب الرؤية ويؤدي للفشل الحتمي.
وعلى الرغم من إجتهاد الأستاذ سيِّد ومحاولته المستميتة للدفاع عن لغة الخطاب إلا أنهُ لم يستطع تجاوز حقيقة أنَّ هناك إجماعاً شبه تام بين السودانيين على أنَّ لغة الخطاب كانت في غاية التعقيد والإستعصاء على الفهم، وأنَّ أكثر المدافعين عنه “أقرُّوا” بذلك ونادوا بضرورة تجاوز موضوع اللغة والصياغة والإهتمام بالتركيز علي محتوى الخطاب.
غير أنَّ الأمر الذي شغلني بصورة أكبر لم يكن مُتعلقاً بجزئية لغة الخطاب، وإنما بإسقاطات آلية الإنكار السياسية على عملية “الإصلاح” برُّمتها، ذلك أنَّ الذين يسيرون وفقاً لهذه الآلية – بحسب فارس – عندما يصلون مرحلة الإقرار بالحقيقة ويعترفون بوجود الخلل والأخطاء يكون ذلك دلالة على شيئين :
أمَّا أن تكون حالة الإنكار قد دخلت المرحلة الأخيرة، أي مرحلة التقبُّل، ومن ميزات هذه المرحلة تقبُّل الأمر الواقع والإقرار بالحقيقة وإبداء الإستعداد الجدي للتنازل والتكيُّف مع وقائع الأمور كما هى، وليس كما هو “مرغوب” فيه.
أو أن يكون القبول بالحقيقة لا يُعبِّر إلا عن المزيد من إستفحال حالة الإنكار إذا تبيَّن لاحقاً أنَّ هذا التغيير لم يكن سوى مناورة ومُجرَّد تكتيك لكسب الوقت بانتظار وقوع أحداث أخرى وأعذار وتبريرات ولو إلى حين.
هذه الحالة ( قبول الحقيقة للمناورة ) ظلت تُسيطر على مواقف الحكومة طوال السنوات الماضية وهى المسؤولة عن خلق حاجز عدم الثقة بينها وبقية القوى السياسية، وهى العقبة التي ستهدد أية دعوة جديدة للحوار.
قد تبًّدت لي حالة الإنكار جليَّة في حديث الأستاذ سيِّد عن موضوع “الفقر” في السودان، ومحاولته المُستميتة لمغالطة الواقع بالقول أنَّ ( فقير اليوم أغنى من فقير العهود السابقة )، وأقول مغالطة لأنَّ تجليات الفقر في الواقع والتي لا تخطئها العين تكذب حديثه.
فقير العهود السابقة – يا أستاذ سيِّد – كان يجد الفرصة لتعليم أبناءه مجاناً في مدارس الحكومة، ولكنهم اليوم أصبحوا فاقداً تربوياً لأنَّ الأسر تستعين بهم في سعيها لتوفير قوت يومها. فقير العهود السابقة كان يتعالج بالمجَّان في مستشفيات الحكومة ولكنه يموت اليوم لأنه غير قادر على دفع الرسوم حتى في تلك المستشفيات.
هل تعلم يا أستاذ سيِّد أنَّ عدد النازحين داخلياً ( جرَّاء الحروب والنزاعات ) قد بلغ 7 ملايين سوداني وهذا يعني أنَّ أكثر من ربع سكان السودان الذي لا يتجاوز تعداد سكانه الثلاثين مليون نسمة من النازحين وهؤلاء لا يملكون قوت يومهم فكيف يكونوا أفضل من فقراء العهود السابقة ؟
هل تعلم يا أستاذ سيِّد أنَّ السودان يشكل 15% من حجم العبء الذي تقوم به الأمم المتحدة لمكافحة مرض الدرن ( السل الرئوي) في اقليم شرق المتوسط، والدرن مرض سببه الرئيسي “الفقر” وليس الرفاهيَّة.
هل تعلم يا أستاذ سيِّد أن حوالي مليون طفل سوداني يُعانون من مرض “سوء التغذية الحاد” وهذا مرض ينبئك أسمهُ عن سببه ؟
هذا غيضٌ من فيض مؤشرات الفقر الذي وصل إليه شعب السودان، ولذا من الأفضل مواجهة الحقائق بجسارة وعدم اللجوء للإختباء خلف جدران اللغة والعبارات “الملولوة”، وحسناً فعل خطاب الرئيس في إشارته لضرورة أن نخلق من مشكلة الفقر “فرصة” للتغيير والنهوض.
تجلت حالة الإنكار كذلك في حديث الأستاذ سيِّد عن القضايا الأربعة التي وردت في حديث الرئيس حين قال إنَّ ( الربط بين هذه القضايا الأربعة أمرٌ جديد لم أسمع أي رئيس حزب يردد ذلك ).
لو كان الاستاذ سيِّد منصفاً ومتابعاً لما يجري في الساحة السياسية لأشار لعشرات ورش العمل والمبادرات التي قدمَّها الإمام الصادق المهدي، وأحزاب المعارضة، وفيها أطروحات متكاملة وربط لمشاكل السودان بصورة أكثر إحكاماً وشمولاً وتفصيلاً مما طرحه الرئيس في خطابه.
أمَّا أكثر حالات الإنكار وضوحاً في حديث الأستاذ سيِّد فقد تبَّدت في حجته التي ساقها لرفض مطالبة المعارضة بتشكيل حكومة إنتقالية، حين قال (هذا أسلوب غير عملي للتجريب ونحنا نجرب والشعب السوداني ينتظر النتائج، لكن هل هناك ضمانات أن هذه الحكومة ستحقق النجاح ؟ أنا لا أصرف الناس من هذا الكلام أما إذا كان هناك اشتراطات وشروط تعيين شخص محايد فهذا لن تجده إلا خارج السودان ).
الحكومة الإنتقالية ليست مجالاً للتجريب، فقد عرفناها في أعقاب ثورتي أكتوبر وأبريل، وعلى الرغم من الخلافات – وهى أمرٌ طبيعي – إستطاع السودان الإنتقال عبرها لحكومات ديموقراطية كاملة الدَّسم وبدرجة عالية من الوفاق. أمَّا التساؤل عن “الضمانات” فيصح الإشارة إليه في الصفقات “التجارية” وليس “السياسة” لأنَّ الاخيرة ليس بها ضمانات في مختلف شئونها، وماذا كانت ضمانات الإنقلاب العسكري في يونيو 1989؟
لا يملك حزب المؤتمر الوطني حُججاً مقتعة يرفض بها موضوع الحكومة الإنتقالية خصوصاً وأنَّ من يطرحونها لا يدعون لإستبعاده منها، بل يسعون لفك إحتكاره للدولة المستمر منذ ربع قرن وجعل كل القوى السياسية في مسافة واحدة منها حتى يتسنى صياغة دستور جديد وإقامة إنتخابات يرضى عنها الجميع.
وعندما سُئل الأستاذ سيِّد : كيف تتحدث عن حوار وتصادر صحيفة ؟ فأجاب بالقول ( الصحيفة دي ماعارفها ولا أعلم ملابسات ايقافها لكن نتحدث عن حرية التعبير أقول ليست هناك كوابح ).
قول الأستاذ سيِّد أنه لا توجد “كوابح” على حرية التعبير يناقض الدعوة الواردة في الخطاب لإتاحة الحريات، ويقع في دائرة “الإنكار” للأمور البديهية التي يعلمها كل مواطن، فالإغلاق المتكرر ومصادرة الصحف وإيقاف الصحفيين عن الكتابة أمرٌ لا يحتاج لكبير برهان، وقد إشتكى منهُ الجميع بمن فيهم “المجلس القومي للصحافة”.
قال الاستاذ سيِّد في إجابته عن السؤال حول موقف الحكومة من الحلف الذي بدأ يتشكل في مواجهة الإسلام السياسي بدول المنطقة (والحكومة السودانية والحزب توجههما نحو هذه المسألة غير متعجل وغير عاطفي ويمكن العمل على إبراز امكانية المصالح المشتركة ).
هذه الإجابة تنطوي على موقف عقلاني صحيح كونها تضع “المصلحة الوطنية” وليس الإنتماء الآيديولوجي هدفاً لتوجهات الحكومة وسياستها الخارجيَّة، وتعبِّر عن إنتقال الإنقاذ من مربع “الأمميّة الإسلاميَّة” لمربع “الوطنية”، وقد بدأت ملامح هذا الإنتقال تظهر في الموقف تجاه الأحداث في مصر، والزيارة الأخيرة لوزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين للقاهرة والأخرى المرتقبة لوزير الخارجية على كرتي.
في حديثه حول موضوع الهُويَّة قال الأستاذ سيِّد الخطيب أنَّ البعض تعجّل واعتبر ( أنَّ مسألة الهُويَّة اتحسمت وهؤلاء تعجلوا وأخطأوا والخطاب قال ذلك ).
هذا “البعض” الذي تعجَّل و اعتبر أنَّ مسألة الهوية قد حسمت هم رهط الأستاذ سيَّد، هم جماعته في الحزب والحكومة، ومع ذلك فإنّه يُحمد له الإعتراف “بالخطأ” لأنَّه يمثل الخطوة الأولى في سبيل الإصلاح.
صحيح أنَّ الإنقاذ لم تخلق مشكلة الهُويَّة في السودان، ولكن الصحيح أيضاً أنها لعبت أكثر الأدوار التي أثرَّت سلباً عليها حين إعتبرت أنَّ هُويَّة السودان “إسلاميَّة” فحسب، ثم شرعت في تبني سياسات عميقة عمدت إلى توظيف القوانين و مناهج التدريس والإعلام و اللغة والرموز و حتى المعمار وغير ذلك لتأكيد هذا المعنى بجانب القتال في جنوب السودان تحت رايات الجهاد والإستشهاد.
الدِّين يعتبرُ مكوناً رئيسياً من مكونات الهُويَّة ولكنه ليس المكوِّن الوحيد، ولو صحَّ أنَّ الهويَّة تقتصر عليه إذاَ لصحَّ القول أنَّ هوية جميع الدول الغربية “مسيحية” فقط، وهذا غير صحيح لأنَّ هوية الألماني ليست كالإيطالي أو البريطاني على سبيل المثال، ممَّا يعني أنَّ الهُويَّة تتركب من عناصر أخرى عديدة معقدَّة .
الوضع الأمثل بالنسبة لنا هو الإعتراف بكافة مكوِّنات الهُويَّة، والإبتعاد عن محاولة قسرها في هُويَّة واحدة، وهذا هو التوجه الأحدث في دراسات الثقافة والإتصال الإجتماعي، وهو التوجه الذي تجاوز حتى نظرية “بوتقة الإنصهار” التي تلغي مكونات الهوية لصالح هُويَّة جديدة تنبني في الغالب على الهُويَّة الطاغية إلى ما يعرف ب “فروت سالاد بول” أو طبق سلطة الفواكه، حيث تحتفظ كل فاكهة بوجودها الخاص داخل الطبق.
آيديولوجيا الإسلام السياسي تعتبر أنَّ الدَّين هو “الهُويَّة”، كل الهُويَّة، ولذا فهي تسعى لإلحاق وإدماج كافة المُكونات الأخرى في هذه الهُويَّة الأحادية، وهذا أمرٌ سيخلق بالضرورة صداماً يحولها “لهُويَّة قاتلة” كما يقول أمين معلوف.
لفت نظري إستدعاء الأستاذ سيِّد في إجاباته على أسئلة الأخ الطاهر لأغاني “أبو صلاح” (أجسامنا ليه جسمين، روحنا واحدة واتقسمَّت قسمين)، وكذلك “خليل فرح” ( يا بلادي كم فيك حاذق، غير إلهك ما أمَّ رازق، من شعارو دخول المآزق، يتفانى وشرفك تمام)، وأيضاً “بادى محمَّد الطيب” ( بدخُل في المحاصة أم جُلة بتفور، قاهر صمد البجن طابور) فتساءلت : أين ابن تيمية و الشوكاني والمودودي، بل أين الغزالي ؟!