Monday , 2 December - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

جنوب السودان: هل من سياسة سوى السلاح؟

مجدي الجزولي

25 اغسطس 2011 — لم يمنع الاسم المركب الجماهير التي احتشدت في جوبا صبيحة 9 يوليو هذا العام من تكرار وإعادة “جنوب سودان ويي” كلما عن لعريف الحفل ووزير السلام، باقان أموم، الحفاظ على مستوى الحماس الوطني. تنادت الجموع لحضور مراسم إعلان دولة مستقلة ذات سيادة في الشطر الجنوبي من السودان بعد عقود من الحرب الأهلية بين الحكومة المركزية القائمة في الخرطوم والجيش الشعبي لتحرير السودان انتهت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في العام 2005.

باستثناء النشيد الوطني الذي تم ابتكاره خصيصا لشرف المناسبة انتقلت رموز وأعلام الجيش الشعبي إلى جمهورية جنوب السودان لم تنافسها غيرها، فالجيش ومنظمته السياسية، الحركة الشعبية لتحرير السودان، قد حقق خلال سنين الحرب الطويلة وأعوام الفترة الانتقالية الستة تفوقا عسكريا وتنظيميا على جميع منازعيه في الاقليم لا يكافئه أحد. تجلى تفوق الجيش الشعبي وحركته في انتخابات العام 2010 إذ لم يبرز سواه لاعبا وحكما في ساحة سياسية انعدم فيها التمييز أو كاد بين البندقية وصندوق الانتخابات. لا غرو إذن أن انطلقت بنادق مناوئة لسلطة الجيش الشعبي من داخل صفوفه، فما من لغة للسياسة سوى لعلعة الطلقات، أشدها وقعا ما شهر جنرال ولاية جونقلي، جورج أثور، ضد رفقاء السلاح السابقين. إذا كان القياس بالسبق فأثور علم في الجيش الشعبي إذ انضم إلى صفوف جيش التحرير أول نشأته في العام 1983 وظل على ولاءه متنقلا في الخدمة حتى ترقيته إلى رتبة الفريق وتنصيبه نائبا لرئيس هيئة الأركان فرع التوجيه السياسي والمعنوي بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل. ظلامة أثور الأساس ظنه أن الحركة الشعبية قد حرمته الفوز بحكم ولاية جونقلي وقد ترشح للمنصب مستقلا عنها بعد أن رفضت تسميته لسباق انتخابي خاضته وحدها تقريبا مفضلة عليه الحاكم القائم كوول مانيانق جوك.شهدت ولاية الوحدة تنافسا شرسا كذلك بين صاحب المنصب تعبان دينق والمرشحة المستقلة أنجلينا تيني انتهى بفوز الأول. من مخرجات فوز دينق خروج المرحوم قاتلواك قاي على الجيش الشعبي وإعلانه التمرد المسلح. قاي، بحسب مصادر مستقلة، كان يرنو إلى منصب متواضع، معتمد مقاطعة كوج، الأمر الذي تعذر بتسمية تعبان دينق حاكما لولاية الوحدة عام 2008، ولذا سارع إلى مساندة ترشيح انجلينا تيني ضد دينق عام 2010. بينما لم تخسر تيني، إن لم تكسب، بفوز دينق، حيث عادت صاحبة النفوذ في جوبا من معركة انتخابات ولاية الوحدة إلى صفوف الحركة الشعبية العليا، بدى لقاي أن فرص ترقيه قد انعدمت وشهر السلاح هو الآخر في وجه الجيش الشعبي. توصل حاكم الوحدة، تعبان دينق، إلى اتفاق سلام مع قاي بعيد إعلان استقلال جنوب السودان يعود بحسبه الأخير إلى صفوف الجيش الشعبي برتبة فريق ويتم استيعاب جنوده كما هي رتبهم. الاتفاق لم ينتظر جفاف حبره لينهار، فقد هاجمت قوة غير معلومة الهوية، ظنها غالب المراقبين من الجيش الشعبي، هجوما على قاي وعدد من مرافقية ناحية قرية باكور في مقاطعة قوج صباح 23 يوليو الماضي فقتلته ومن معه. أكثر من أفزعه مقتل قاي متمرد آخر على سلطة الجيش الشعبي، بيتر قاديت، صاحب إعلان ميوم، الذي انضم إلى ركب الخارجين على سلطان جوبا في مارس الماضي بهدف معلن هو اسقاط حكومة الحركة الشعبية التي دمغها في إعلانه بالفساد والمحاباة القبلية. أعلن قاديت أوائل أغسطس وقفا لإطلاق النار إثر عفو أصدره رئيس الجمهورية الجديدة، سلفا كير، عن زمرة المتمردين على سلطته عند إعلان الاستقلال؛ أما غالب قواته فقد جاهرت برفض التسوية مع حكومة جنوب السودان واتهمت قائدها بقبول رشوة مقدارها 3 مليون دولار أميركي بالإضافة إلى فيلا فخمة في ضاحية من ضواحي نيروبي نظير تقديم العون للرئيس سلفا كير في مواجهة مؤامرة انقلابية مزعومة. بذا فإن ثلاث ولايات رئيسة على الأقل من ولايات الجمهورية الجديدة، جونقلي والوحدة وواراب، ما زالت تشهد نزاعات مسلحة منخفضة الوتيرة يتم دمغها في دارج النقل الإعلامي بالنزاعات “القبلية” ويتراكم ضحايها أرقاما في سجلات توثيق القتلى والنازحين.

يفضح استمرار التحدي المسلح للسلطان المركزي في الجنوب المستقل حديثا، أيا كانت دوافعه المباشر، سمة ملازمة للدولة في شطرى السودان منذ تشكلها الحديث على يد السلطة الكولونيالية البريطانية أول القرن العشرين فهي شديدة الطموح إلى السيطرة وشديدة العجز عن تحقيق ذلك، لذا فإن خيلاءها السلاح ووسيلتها المفضلة إلى تعزيز وجودها الهش الحرب. لربما جاز هنا، قصد المقارنة، سرد فصل من فصول المغامرة البريطانية في جنوب السودان أول اختراق الاستعمار لديار الدينكا آقار نواحي رمبيك، عاصمة ولاية البحيرات الحالية. استغرب الآقار مطالب ممثلي سلطة الخرطوم الجديدة، أي التسليم لسطان الدولة المركزية ودفع أتاوة معلومة، على ضعف شوكتهم واقتصارها على محطة رمبيك، لكنهم كظموا الغيظ من أول حملة حكومية إلى ديارهم عام 1901 في انتظار اللحظة المواتية. في فبراير من العام 1902 هب الآقار ثائرين على الحكومة في رمبيك بعد أن أصدرت إليهم أمرا بإعادة أبقار كانوا قد نهبوها من فصيل آخر للدينكا يجاورهم فهاجموا رتلا حكوميا وقتلوا قائده الكابتن سكوت باربور وكل مرافقيه لم ينج منهم سوى أربعا. أمرت الحكومة بشن حملة “تأديبية” لعقاب الآقار جماعة على فعلتهم. هاجمت فرقة من الجنود السودانيين (المقصود بعبارة ذلك الوقت جنود من جنوب السودان وليس من “عرب” الشمال) يقودها الكابتن و. ه. هنتر نزل الآقار فحرقت القرى وصادرت الماشية وقتلت وأسرت كيفما اتفق مخلفة وراءها بلقعا اقتلعت منه الحياة بطول عشرة أميال. تبعت هذه الحملة أخرى أشد بقيادة لي ستاك حتى لم يبق في ديار الأقار بحسب تقرير حكومي سوى درزينة من المساكن قائمة على حالها. أما قائد ثورة الآقار، ميانق ماثيانق، فقد لاحقه عسكر الحكومة حتى قضوا عليه وزمرة من أنصاره الأقربين. ما إن أخمدت الحكومة تمرد الآقار حتى تبعهم الدينكا آتووت. مرة أخرى كان رد الحكومة فرض “هيبة الدولة” بعبارة شاعت منذها. شهد العام 1919 أكبر ثورات الدينكا المبكرة على سلطان الدولة تذمرا مما تطلب، أتاوة أو سخرة، واحتجاجا على ابتزاز البوليس. هاجم ثلاثة آلاف من مقاتلي العالياب في 30 أكتوبر من ذلك العام مركزا للبوليس فقتلوا ثمانية جنود، ثم أعادوا الكرة أول نوفمبر، وبلغت بهم الحماسة أن باغتوا معسكرا للفرقة الاستوائية بقيادة الميجور ر. ف. وايت في 16 نوفمبر فقتلوا سبعة جنود. انضمت إلى فرقة وايت أخرى أعظم بقيادة س. ه. ستيقاند حاكم منقلا، لكن تفوق العالياب على الإثنين معا وقتلوا كل من وايت وستيقاند بالإضافة إلى ضابط مصري وعدد من الجنود. عليه، دفعت الحكومة في العام 1920 بحملة كبري تعززها البنادق الرشاشة والمدفعية والطائرات الحربية دون نجاح يذكر في المبتدأ إذ تفادى العالياب الرتل الحكومي هاربين بماشيتهم، فأعادت الحكومة السيناريو المعلوم، الأرض المحروقة، حتى لم يبق من قرى العاليات واحدة سالمة. انتهت الحملة بالقبض على أهم قادة الثورة،كون أنوك، والحكومة أرخت لانتصاراتها برصد عدد قتلى “العدو” والماشية المصادرة.

والسنة هكذا لم تتبدل علاقة الدولة الحاكمة و”الأهالي” المحكومين خلال سني الحكم الوطني والسودان بلد واحد فهي لا تقدم شيئا يذكر بينما تطلب الطاعة والعمل والضريبة وسيلتها إلى ذلك القوة المسلحة. لا غرابة إذن إن انعدم التمييز أو كاد بين السلطة المدنية والعسكرية فالحكومة هي الجيش والعكس صحيح. اليوم وقد استقل جنوب السودان عن مركز الخرطوم يواجه جيش التحرير – الحكومة الجديدة – تحدي أن يتحرر هو الآخر من هذا التراث الفج، ويتحول من قوة احتلال إلى قوة حماية دونما تغول على المؤسسات المدنية والبيروقراطية النابتة. في هذا الخصوص عد المراقبون معضلات التحول من قوة عسكرية إلى قوة مدنية أكثر ما يستعصي على الحركة الشعبية لتحرير السودان، الحزب الحاكم لجنوب السودان. الحركة بما عركت خلال العشرين عام الماضية ويزيد وبما توفر لها من دروس للتأمل في مصائر دول تحكمها حركات تحرير مماثلة، لا سيما ارتريا بيد الجبهة الشعبية للديموقراطية والعدالة ويوغنده تحت سلطة حركة المقاومة الوطنية، مؤهلة من حيث المبدأ أن تقاوم العادة، فهل فعلت؟

اعتمدت في هذه الكلمة على تقارير تعريفية عن الحركات المسلحة في جنوب السودان صادرة عن منظمة (Small Arms Survey)، وبشأن الحقبة الاستعمارية على كتاب م. دالي “امبراطورية على النيل: السودان الانجليزي المصري 1898 – 1934” الصادر عن دار كمبردج الجامعية (1986).

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *