“تراجيديا “الحرب السودانية”.. خازوق الدعم السريع و كوميديا دولة “العطاوة”- (3)
ترايو احمد محمد علي
1. قبل اشتعال هذه الحرب اللعينة في الخامس عشر من ابريل (2023) كان قادة الدعم السريع قد ظلوا يلوحون باستمرار بتهديد الشعب لغرض إدخال اكبر قدر من الخوف و الرعب علي النفوس ، وكان الجنرال “حميدتي ” يردد بمناسبة (او من دون مناسبة) بأنه قادر و مستعد ان يحول بيوت الخرطوم الي مأوي للكدايس (القطط). و كان البعض من قادة الدعم السريع يقولون بانهم في استطاعتهم ان يحولوا الخرطوم الي “صرة رماد” في رمشة عين!!!.
2. كل هذا التهديد و الوعيد قد اصبح صحيحا و واقعا عمليا على الارض. العمارات و فلل الخرطوم قد هجرها اهلها و سكنتها الكدايس. الخرطوم اصبحت مدينة أشباح بين ليلة و ضحاها و القتال ضد المدنيين كان منذ بدابة اندلاع الحرب قولا و فعلا.
3. مواطن الخرطوم الذي كان يسمع عن روايات فظائع الجنجويد في دارفور و يشاهد مناظر حريق القري و القطاطي و قصص القتل و النهب و الحكايات المروعة عن الاغتصاب و التعذيب و الترويع و إذلال المدنيين و اهانتهم وتهجيرهم القسري و روايات دفن الناس احياء قد وجد نفسه فجأة و في لحظة دراماتيكية يواجه كل هذه الفظائع و اصبحت الخرطوم مستباحة و اصبح المواطن تحت رحمة هذا السلوك المرعب و الجرائم التي لا حدود لها و ظلت قوات الدعم السريع تنشر جرائمها التي ترتكبها علي الملأ وتبثها مباشرةً وبكل اريحية ضمير. و من دون اي استحياء من العواقب و ذلك لغرض بث الرعب في النفوس.
4. يصعب جدا (ان لم يكن مستحيلا) ايجاد تفسير موضوعي يبين منطقية هذه السلوكيات التي تمارسها قوات الدعم السريع والنظر اليها عبر استخدام أدوات تحليل علم النفس (السيكلوجي).
5. وفقا لنظرية “سيكلوجيا الحرب war psychology” فان جوهر أهداف الحرب هو الدافع الحقيقي الذي يتحكم في طبيعة تصرفات و سلوك المقاتل (فردا او جماعة). بمعني إن الجوهر الاجرامي لاهداف الحرب هو العنصر الذي يتحكم في تحديد طبيعة تصرفات المقاتل. بمعي، كلما كانت دوافع الحرب شريرة (اساسها الطمع و الجشع و الهيمنة و الغنيمة او الشعور بالتعالي نحو الخصم *(superirty complex)* أو سيطرة نفسية الاستهتار بقيمة الحياة…الخ)، كلما ارتفعت درجة السادية و التقرب الي طبيعته الحيوانية لدي الفرد المقاتل و تصبح سلوكه اكثر وحشية و أكثر فوضوية و أكثر غلواء و اكثر دمويا و يصبح حاله مثل حالة *(الثيران الاسبانية Tamador)* الذي ترتفع درجة الهياج فيه عندما يشم رائحة الدم و هكذا يصبح هذا المقاتل اكثر ميلا واستعدادا نحو ارتكاب الجريمة و الرغبة في الافتراس بالخصم و الاستمتاع بمعاناة الضحية و في النزوع نحو التوحش و البربرية في ممارسة السلب و النهب والاعتداء علي الممتلكات العامة (بما في ذلك علي المدنيين).
6. و العكس صحيح، اي كلما كانت أهداف الحرب نبيلة و شريفة و شرعية، كلما ينعكس ذلك في سلوك وتصرفات المقاتل من حيث درجة الانضباط و ضبط الذات و في الالتزام بمراعاة قواعد القانون الدولي الإنساني و في حسن التعامل مع الاسرى و في الاحجام من استهداف المدنيين او الحاق الأذى أو الاضرار بهم و كذلك في القدرة علي كبح جماح شهوة النزوع الي ارتكاب جرائم الاغتصاب او أهانة كرامة المدنيين.
7. هذا ما يجمع عليه كل علماء علم النفس الحربي ( war psychologists) و خبراء علم الجريمة (Crimilogists)
8. من هذه الزاوية يمكن النظر الي الفرق النوعي و الشاسع بين سلوك المقاتل لدي جنود الدعم السريع و بين سلوك و ممارسات المقاتل في حرب استقلال جنوب السودان او في سلوك المقاتل في جبال النوبة أو النيل الأزرق أو في سلوك المقاتل في دارفور. السبب من وراء هذا الفارق هو ان هؤلاء تحركهم دوافع نبيلة مثل نيل الحرية و تحقيق المساواة للجميع و رفع الظلم و في الاعتقاد بمبدأ المواطنة المتساوية و في الرغبة في التعايش السلمي مع الآخرين.
9. هكذا نري الحضور الطاغي للعوامل النفسية (المدفوعة بدوافع شريرة للحرب) في توجيه السلوك الاجرامي لمقاتلي الدعم السريع و هو ما يستدعي ضرورة الاستعانة بأدوات تحليل علم النفس (خاصة من زاوية نظر الفسيوسايكولوجي physiopsychology ) في فك طلاسم هذه السلوك البربرية و في ارتفاع في وتيرة ديناميكبة الاضطراب السلوكي و ألفكري و المشاعري و الاحاسسي والرغباتي والانفعالي (الظاهرة منها أو الباطنة) لجنود قوات الدعم السريع التي تتسم بالغرابة (بما فيها الرغبة في دفن الناس احياء) !!!
10. لذلك، ان هذه الحالة السلوكية (المتوحشة) لمقاتلي الدعم السريع يصعب استيعابها الكامل الا بالنظر اليها من خلال المنشور “الفسيوسيكلوجي” حتي نستطيع ان نري كيف تؤثر مجموع هذه العوامل “الفسيوسيكلوجية” من فسيولوجيا الاحاسيس (Sensory psychology) و “فسيولوجيا” الاعصاب (Neuropsychology) و سايكلوجيا تعاطي العقاقير الدوائية (Psychopharmacology) علي الادراك (Perception) حتي يتسني للمشاهد و المحلل كشف تداخل هذه العوامل “الفسيوسيكلوجية” بصورة جماعية في توجيه درجة الانحراف السلوكي لدي المقاتل.
11. الارهاب و بث الخوف والهلع و الرعب: لك أن تتخيل درجة الهرج و المرج و الشعور بالرعب و الهلع و الفزع التي تصيب اهالي قرية صغيرة و نائية و وديعة تقبع في فيافي دارفور او في سهول كردفان او في كنابي الجزيرة حينما يصلهم خبر (حتي لو كانت مجرد إشاعة) عن قدوم مليشيا الدعم السريع !!! السكان سوف يفرون كفرار الصيد من هجوم الضباع و السباع المفترسة. الجميع يتملكهم الخوف و يطير صوابهم لانهم يعرفون جيدا ان قدوم هذه القوات (الدعم السريع) يعني ان يصيبهم الشر المستطير (اطفالا و نساءا و رجالا علي حد سواء). الجميع يعرفون ان قوة غاصبة قادمة لنهب ممتلكاتهم و اغتصاب بناتهم و سبي نسائهم و اهانة رجالهم. هكذا يحسون ان لعنة الشقاء قد كتبت عليهم.
12. هكذا استقر هذا السلوك الهمجي و هذه الطبائع الجنجويدية و اصبحت السمة الموسومة في قاع وجدان مقاتلي الدعم السريع من امتهان للنهب و السرقة و الاغتصاب و التخريب و التدمير لكل شئ و قلبوا بها كل قيم القتال حتي اصبح لسان حالهم يقول: *(ليس منا من لم يقتل المدنيين و ليس منا من لم يغتصب و ليس منا من لم يسرق او ينهب او يعتدي علي الابرياء….)*.كل هذا السفر الاجرامي مسجل و مدون لدي الإعلام الدولي (من نيويورك تايمز و واشنطن بوست الامريكية و القارديان البريطانية. و اللوموند الفرنسية و كل قنوات التلفزة الدولية من قناة الجزيرة و قناة العربية و السي.ان.ان و ايرها كثيرة) . أما في المواقع الاسفيرية فحدث و لا حرج. كما أن هذه الجرائم كلها مدونة بدقة شديدة لدي المنظمات الحقوقية و المدنية و حقوق الانسان (بما فيها محكمة الجنايات الدولية).
13. الملاحظ في سياق هذا المسرح الوحشي هو مواقف بعض الافندية و بعض المثقفاتية الذين هرولوا الي ترحيب و تاييد و احتضان هذه الثقافة الفوضوية من القيم الجنجويدية و التماهي معها و التطبيل و التهليل بها و التنظير التبريري لها (و بين يديك نموزج من كتابات الدكتور النور حمد من ضمن اخريات) الذي داس برجليه و بصق علي كل ما كتبه سابقا من نقد لاذع عن ((مخاطر العقل الرعوي)) و اصبح فجاة يبرر لاكبر و اخطر و اثقل و ارعن ((عقل رعوي)) يشهده التاريخ المعاصر ضد قيم الحضارة و التمدن و قيم الحداثة.
ثلاثة نقاط قبل الختام
النقطة الاولي:
كلما أصرت قوات الدعم السريع علي مواصلة اسلوبها في الوحشية و السلب و النهب و الترويع و الاغتصاب و التهجير القسري و الارهاب ضد المدنيبن، كلما زاد نفور الشعب منها و كلما اتسعت الهوة بينها و بين الشعب و كلما انكشف لصوصية تنظيم “تقدم” الذي ظل يجاهر (من دون خجل) بانه يمثل الحاضنة السياسية لقوات الدعم السريع. هذا بالتأكيد خطأ استراتيجي يرتكبه تنظيم “تقدم” لان هذا لم يبعده فقط من الجماهير و انما ايضا يجعله شريكا يتحمل للجرائم التي ترتكبها الدعم السريع.
■ النقطة الثانية:
بات من الواضح جليا الي درجة لا يمكن أن تنطلي علي اي مراقب ان هذه القوة “الاثنو-سياسية “ethno-political force” و بما تحمله من سمات سلوكية و اهداف اثنية و انتماء و وشاج نفسي و مزاجية ، سوف تتحول (عاجلا ام عاجلا) و بصورة اوتوماتيكبة الي مشروع خصب و طينة و خميرة جاهزة الي قوة (اسلامو-عروبية) متطرفة و تتنكر و تركض بارجلها علي كل شعاراتها الكاذبة الزائفة (من ديمقراطية و وطنية و علمانية) لتصبح وكيلا اقليميا لمنظومة التطرف (الاسلامو-عروبي) و رافدا خصبا يصب في المجري الرئيسي العام لذلك المشروع المتطرف الذي ظل يقوض استقرار منطقة الشرق الأوسط و خازوقا يهدد منطقة الساحل الافريقي في استقرارها و تنميتها و ينتهي بها الي رماد. و مثلما يقال ان الخطاب يقرأ من عنوانه يكفي ان صناع هذا التنظيم قد هندسوا اسم هذه القوات و أطلقوا عليها (بكل وعي تام) اسم قوات الدعم السريع ((ق.د.س)) حتي يصبح المختصر ق.د.س. هذا الامر لم يأتي اعتباطا او صدفة و انما قد تم هندسته عن قصد ومع سبق الاصرار. لتكون صنو كل الحركات التي تدعي القتال من أجل تحرير القدس امثال حماس و جهاد و القاعدة و داعش و غيرها.
■ النقطة الثالثة:
أعتقد جازما ان من أكبر و اخطر التحديات التي سوف تواجه السودان مستقبلا (طبعا ان كتبت لها البقاء موحدة كدولة و تمكنت من الرسو الي بر السلام) لم ينحصر التحدي فقط في كيفية تاسيسها (او بنائها) كدولة علي اسس الحرية و الديمقراطية و المدنية المنشودة و لكن في يقيني ان التحدي الاكبر يكمن في كيفية تدريب و تهذيب هؤلاء البشر و كيفية تحقينهم و تشريبهم بجرعات من القيم الإنسانية و انتشالهم و انقاذهم من قاع بالوعة هذا (العقل الرعوي) المستشري الذي يهيمن و يتحكم علي نفسياتهم و مزاجهم علي نحو طاغي و تلك مسؤولية جسيمة و عمل شاق و لابد علي قيادات الدعم السريع ان يفهموها قبل غيرهم حتي يساهموا في انتشال انفسهم الي مرافئ الإنسانية و مقتضيات اوتوكيتات التعامل البشري.
ختاما، من الضروري ان نشير الي ان تشريح سلوك الدعم السريع لا يكتمل الا بعد تشريح سلوك اصل نسب الغول (غول الكيزان) و لذلك سوف نتناول في مقالنا القادم ميكانيزم التقاطعات الجدلية بين السلوك “الكيزاني” و بين السلوك “الجنجويدي” و كيف ان الغول قد اورث سلوكه هذا الي مولوده (الجنجويد).