Sunday , 24 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

مدائن السودان تَمْضغ مرارة جينات الحقد

حسين اركو مناوي

حسين اركو مناوي

قلنا قولا قبل ست سنوات نكرره اليوم ونقتبس منه مقدمة لهذا المقال القصير: ” وقد سبق ان ذكرتُ فى موضع آخر أنّ للتاريخ ميزة تشبه ميزة علم الوراثة عند الكائنات الحية التي تنتقل جيناتها عبر الأجيال وكذلك عيوب التاريخ تتكرر عبر الأجيال، حيث إعتاد التاريخ أن يطل على البشرية بجيناته فى دورات تشبه دورة الحياة وسوف تتحمل البشرية كل عيوب التاريخ في مرحلة ما…” حسين اركو مناوي 11/9/2018.

علي امتداد التاريخ البشري اُحرقت مدائن علي يد غزاة بوحشية منقطع النظير وارتكبت فيها جرائم حرب ضد الإنسانية ولم تكن حروب قائمة وفق قواعد الحرب المعهودة إنما كانت حروب عرقية واليوم مدن السودان تتلقى ضربات موجعة من جينات الحقد في الفاشر والعاصمة ومدنها وفي مدني وبابنوسة والجنينة ونيالا وهكذا تتكرر عيوب التاريخ على نمط تجارب معروفة حدثت في مواقع وأزمان مختلفة غاياتها استهداف مدنيين على أسس عرقية.

بالأمس القريب سوءات التاريخ أطلت على مدينة الفاشر وارخي الذهول ذيله حينما فاجأ غلاة الجنجويد ،البرابرة، التتر أهل الفاشر والعالم أجمع بقسوة عجزت اللغة عن وصفها بالرغم توفر ذخيرة لغوية من مرادفات لا حصر لها في وصف جرائم تتولد بسبب الحقد.

في ساحة الحرب بالفاشر اليوم، جرائم من فداحتها تعجز مفردات مثل، الغل والكراهية والضغينة والبغضاء عن وصفها. . قسوة خلقت ظروفاً مطابقة أو أكثر للجرائم التاريخية في طروادة ، عمورية ،بغداد، معسكرات اوشفيتز بالمانيا، سربرنيتشا في حرب بوسنة وهرسك، الإبادة الجماعية في رواندا، وما يجري الآن في غزة .
نعم التاريخ يعيد نفسه بجيناته في دورات مختلفة ويفعل بالمجتمعات أفاعيل ومَنْ يحملون هذه الجينات هم الفئة المنحرفة من بني البشر ، يقومون بادوار شبيه بتلك الأدوار التي تقوم بها الحشرات والجراثيم والفيروسات التي تنقل امراضاً فتاكة.

التجربة الإنسانية أثبتت أفضل طريقة للقضاء على الأمراض هي مواجهة من يحملون وينقلون تلك الاوبئة الفتّاكة وإنقاذ مدينة الفاشر بل وكل مدن السودان مرهون بالتعامل الصارم والناجع مع مَنْ يسعي لتدمير هذه المدن العريقة بدافع الحقد والكراهية وهؤلاء حقاً هم حملة جرثومة الجريمة التاريخية ضد الإنسانية.
صمود الفاشر اليوم يعيد شريط الذاكرة إلى الجرائم التاريخية في مدينة طروادة حين عاشت تحت الحصار لمدة عشر سنوات ولم يدخلها العدو إلا عبر خدعة حصان خشبي يحمل مقاتلين واليوم هناك عدة أحصنة طروادة تتخفي بذرائع مختلفة وتوفر معلومات حساسة لمليشيات الدعم السريع من أجل اختراق خطوط المقاومة الشرسة .
البلاغة عادة تقدم لنا تحفة رائعة من صيغ لغوية ترسم لنا رسماً دقيقاً لحالة معينة وهنا في هذا السياق، البلاغة خلقت لنا رابط بين الغل والنار فقالت، نار الغل أو نار الحقد وعلى مدي التاريخ البشري ، نار الحقد هي التي حولت مدن باكملها إلى رماد.

والفاشر اليوم تذكرنا دمار مدينة بغداد. اُحرقت بغداد ومكتبتها الغنية بواسطة هولاكو المغولي بدافع الحقد على الميزة الحضارية لبغداد التي تتفوق بها على المغول البرابرة الهمج. إن وضعنا في الاعتبار الخراب الذي لحق في المواقع الأثرية والتراثية والثقافية في العاصمة الخرطوم ومدنها امدرمان وبحري ، الفاشر اليوم تقف انموذج للمدن المستهدفة بدافع الحقد لأنّ الفاشر ثقافة وتاريخاً وارثاً هى القلب النابض لدارفور وأهم رافد يضخ الدماء في عروق تاريخ وثقافة السودان، ومن يسعى لدمار هذه المدنية لا تمت باي صلة الى السودان وأهله.

يعجز الشخص أن يقدم وصفاً دقيقاً لوحشية الاعتداء على الفاشر ولكن يجوز أن نقول الفاشر اليوم تذكرنا هول مدينة عمورية التي قال فيها الشاعر أبو تمام:

غادرتَ فيها بهيمَ اللَّيلِ وهوَ ضُحىً
يَشُلُّهُ وَسْطَهَا صُبْحٌ مِنَ اللَّهَبِ.

حتَّى كأنَّ جلابيبَ الدُّجى رغبتْ
عَنْ لَوْنِهَا وكَأَنَّ الشَّمْسَ لَم تَغِبِ.

ضوءٌ منَ النَّارِ والظَّلماءُ عاكفةٌ
وظُلمة مِن دخانٍ في ضُحىً شحبِ.

للأسف المليشيا اليوم تستهدف أحياء سكنية في الفاشر يسكن فيها اثنيات محددة بشكل انتقائي. الفاشر اليوم تذكرنا فظائع هولوكوست بمعسكرات اوشفيتز بالمانيا، وكانت جرائم ضد الإنسانية من منطلق عرقي بحت.
الفاشر اليوم تذكرنا بالابادة الجماعية في رواندا التي وقعت لا لشئ إنما فقط عرقية معينة تريد أن تنفرد بحكم البلاد .
الفاشر تذكرنا بجرائم سلوبودان ميلوشيفيتش ورادوفان كرادتش في سبرينتشا بحجة التفوق العرقي باسم الصرب.
الفاشر اليوم تقدم نموذجاً حياً لصمود أهل غزّة الذين صمدوا أمام صلف وجبروت نتنياهو.

أرى كل هذه الجرائم اليوم تتلخص في استهداف مدينة الفاشر بدوافع الحقد والكراهية إلا أن أمر آخر يجب تذكيره في هذا الظرف التاريخي الحرج الذي يمر به السودان، وهو أمر في غاية الخطورة واقصد بذلك الأيدي الخارجية التي تزكي نار الحقد وتقدم مدداً لا حدود له لمليشيا الجنجويد وحاضنته السياسية قحت وامتداداتها بما يعرف بتقدم من اجل تدمير السودان وأهله وقد سبق ان ذكرنا انّ الأيدي الخارجية تلعب هذه اللعبة القذرة من مبدأ انتهازية التقاء المصالح بين من يقومون بارتكاب الجرائم في الفاشر او بقية المدن السودانية وبين أصحاب المطامع الخارجية الذين يحلمون في سيطرة القرار السوداني والسيادة السودانية وهذا الحلم بصمود الفاشر واهلها سوف يتلاشى إن شاء الله، وسينطبق في الذين يتآمرون على السودان وأهله، قول المتنبي : ” أعيذها نظرات منك صادقة **** أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم”