Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

حكاية الإنسان المفقود، البحث في سيرة: “الحر قليل طه وعلي طاهر وسيد بشرى”

Yasir Arman

ياسر عرمان

ياسر عرمان 

ولدت الحر قليل طه وكل شيء حولها متواضع إلا جمالها، منذ الصغر الذي لا يشبه أي شيء حولها ويشعرها بالتميز، لقد كان معظم سكان قريتها وجلهم من الفقراء يعتمدون على الزراعة كسائر القرى حولها، والقلة منهم يمتلكون بعض وسائل النقل إلى المدنية وآلات زراعية (كالتراكتور) وحاصدة زراعية يملكها شيخ القرية، وبعضهم يمتلك المواشي والأغنام والضان، وكانت القرية تنام بالقرب من ضفاف النيل الأزرق، وبعضهم يمتلك جروف على النيل خاصة الميسورين من أهل القرية وبعض من فئات المتعلمين الذين يعملون في المدن ومازالت أسرهم في القرية لتقليل النفقات، ومعظمهم من الموظفين والمدرسين والعساكر والبوليس والممرضين والكتبة والمحاسبين وغيرهم من فئات، ومع ذلك فإن أغلبية أهل القرية من اُجراء الريف والعمال الزراعيين والبعض يعمل في المصانع القريبة من القرية.

ذلك الخليط خلق من سكان القرية مجموعتين وإن شئت طبقتين ملاك المزارع والجروف والثروة الحيوانية ووسائل النقل والزراعة والمتعلمين وهؤلا يمثلون الطبقة الميسورة، ومن جهة أخرى أُجراء الريف وفقراء المزارعين والعمال، ولكن هنالك صلات غير مرئية بين الطبقتين لا تظهر جلياً للوهلة الأولى من صلات الرحم والأسرة والقبيلة والتزاوج، كانت القرية تحل قضاياها الكبرى في الأفراح والمأتم على نحو جماعي وفِي تكافل جعل فقرائها محاطين بشبكة رعاية إجتماعية واسعة تشمل رمضان والأعياد.

كانت الحر قليل في المرحلة الابتدائية والتي سرعان ما اكملتها ولأن “البت على رأسها قرعة”، اي تكبر بسرعة كما تردد نساء القرية، ففي تلك السن المبكرة تبين جمالها واكتمل جسدها الذي أصبح يلاحق الضوء لأعلى بتفاصيله المستبدة على كل من حوله، وأصبحت سيدة لبنات جيلها في نظر الجميع، وحتى عبطاء القرية لم يفتهم النظر إلى النور المشع من عينيها فالعين مرآة الروح، ومع الزمن تكور صدرها وأصبح نافراً لا تخطئه العين، كانت الحر قليل قد تركت الدراسة وأصبحت تهتم بتطريز الملابس والحناء وتساعد في تجهيز العرايس وأحياناً كانت تغني في المناسبات الاجتماعية متى ما طلب منها ذلك وهي لم تتجاوز الرابعة عشر من عمرها وسرعان ما أصبحت محل نظر لذئاب القرية التي تحوم حولها، ولأن للقرية تقاليد صارمة تقدم لخطبتها العديد، الواحد تلو الاخر وكانت ترفضهم جميعاً، لقد كان داخلها منادي يهتف لها أن ترحل لمكان بعيد، ضاقت أسرتها من رفضها خاصة للشباب الميسورين ولكنها تمسكت بعبارة سحرية كانت مقنعة لأهل القرية (النصيب ما حصل) ومضى الزمن وانفتح نصيبها على شباب القرى المجاورة وتقدم لخطبتها أيوب من أسرة معروفة من أحدى القرى الكبيرة، لقد كان أيوب يعاني من عاهة في أحدى رجليه وأجمع أهلها بأن ذلك لا يعيبه طالما كان قادراً على كل شيء مع التشديد على جملة “كل شيء”، وأن رفضها لكل الشباب فيه قلة أدب وعدم إحترام وانطلاقة خصوصاً وانها تجاوزت الثامنة عشر من عمرها وأصبح الأخرين من خارج الأسرة خاصة الشباب الذين رفضتهم من قبل، يوجهون اللوم للأسرة ويعتبرون ذلك عدم مسوؤلية لا أكثر ولا أقل كانوا يرددون ذلك نكاية في رفضها لهم ويصبون الزيت على النار حتى تزداد اشتعالاً حولها وليفشوا غلهم واستمروا في تحريض أسرتها، ولم تجد من يقف معها سوى عمتها التي كانت تسكن في مدينة ود مدني، وكانت أمرأة ذات تعليم متوسط وعقلية متمدنة وتعرف أهل القرية جيداً، وقد شجعتها على عدم التسرع بالزواج في المرات القليلة التي قامت بزيارتها، كانت الحر قليل قوية الشخصية مثل عمتها تعلقت روحها بالمدينة واتساع فضائها، وكانت تشعر بأن مجتمع القرية لا يسعها ولا يلبي أشواقها ورغباتها وهي كالفراشة تجذبها أضواء المدينة للاحتراق.

كانت القرية بمثابة حذاء ضيق المقاس يسبب لها الاختناق ومنذ زيارتها الأولى لود مدني فتنتها المدينة، أما فكرة الزواج في القرية فقد كانت أسوأ من أحساس الحذاء الضيق، وقد رأت جاذبيتها في كل المنتديات وهي تلفت الأنظار وكانت نفسها امارة في إغواء الأخرين واكتشفت مع الوقت ان غواية الأخرين هواية وأحياناً احتراف مثل ابليس الذي احترف الغواية .

أكتشفت ان عدد ليس بالقليل غير معصوم عن الغواية الا من خشى ربه كل ما يحتاجونه هو الزمان والمكان والطريق المعبد، بعض نساء القرية كن من ذوات الشخصيات القوية واللاتي يقمن على إعاشة أسرهن، وبعضهن (قاهرات) كما يطلق البعض عليهم ولديهم جروف أو يقمن بشراء الخضار من الجروف ثم يذهبن إلى المدينة صباحاً للتجارة، وأدركت أحداهن معنى أن تذهب معها الحر قليل إلى السوق وتتولى البيع مقابل مبلغ من المال، وقد كثر زبائنها وكثرت مبيعاتها والبيع في الصباح مع الحر قليل رباح، كانت الحر قليل تكسب مبلغ من المال يساعدها في الإنفاق على نفسها وعلى أسرتها كما جعل لها صوتاً مسموعاً ولو قليلاً داخل الأسرة، وكانت تساهم في حل ضائقة الأسرة وتكحل عينها برؤية المدينة عند الفجر وتعمل عارضة للخضار مثلما تفعل فترينات العروض في المدن، أعجبتها طريقة رجال ونساء المدينة ولطفهم، وكان الزبائن من الرجال أسخياء ويتركون لها باقي النقود وأحياناً يضيف بعضهم من عنده مقابل غمزات ولمسات اليد التي وجدت عندها صدى مع أكثر من شخص وتسألت لماذا لا تستجيب لغمزات الجميع! وما هو الضرر في ذلك؟ ودخلت في حوار طويل مع الذات.

وفي أحدى أيام السوق التقت صديقة لعمتها وهي أمرأة شديدة الاهتمام بنفسها وهندامها (وبالكبرتة) والمكياج وكانت تلك المرأة تعلم رغبة الحر قليل في العيش في المدينة لذا عرضت عليها ان تدخلها سلك التمريض عن طريق أحد أقربائها وان تعيش في المدينة مع عمتها أو معها اذا رغبت في ذلك، شعرت الحر قليل ان أبواب السماء تُفتح لها، وكانت متشوقة للونسة المسائية مع أهلها حتى تعرض عليهم الموضوع وبالغت في شراء مستلزمات البيت على نحو خاص في ذلك اليوم لتسكت الأفواه الجائعة عن الحديث وتضع جرادة في كل فم يجهر برأي مخالف، وبعد الانتهاء من وجبة العشاء التي كانت في صينية مكلفة والكل يتناول شرائح البطيخ الحلوة الطازجة، طرحت عليهم العرض وأضافت أن عمتها رحبت بأن تسكن معها في منزلها، كانت المباغتة في توقيت جيد ونظرت إلى أكثر أخوتها معارضةً لها وكأنها تطلب منه البدء بالحديث ولم يتوانى وشرع في مقدمة لا صلة لها بالموضوع ثم أنهى حديثه ضاغطاً على الكلمات قائلاً…

كان سيد بشرى منذ بدايته الأولى فطناً نجيباً وقوي الملاحظة منذ الصغر يخشى الظلم ويحب الفقراء، هكذا جُبل صاعداً نحو الحياة وشاقاً طريقه وكلما شب عن الطوق كان يتفكر في التناقضات الاجتماعية التي حوله، واخذته خطاه وافكاره للانعطاف يساراً في المدرسة الثانوية كان يجيد الاستماع وواسع الإطلاع يستبق زملاءه وأبناء دفعته بمراحل لا يمكن أن تخطئها العين، ولم يخطئ قادة الحزب في تقييمه ولم يتوانى هو عن الانضمام إلى صفوفهم وادرك المسؤول الحزبي ميزاته العديدة وطلب منه أن يكرس نفسه للعمل التنظيمي وأن يبتعد عن العمل الجماهيري وكان ذلك يتفق مع طريقته في الحياة ومزاجه وسرعان ما أظهر مواهب تنظيميه عالية وعرف بين زملائه منذ المرحلة الثانوية بان ايمانه بالعمل من أجل التغيير قوي لا يتزعزع مثل ايمانه بالله.

كان سيد بشرى مربوعاً قوي البنية يعشق الرياضة وفي الفريق الأول لكرة القدم والكرة الطائرة، وشخصاً رئيساً في جمعية المسرح والمنتديات الفكرية في المرحلة الثانوية ولاحقاً في الجامعة، وقد وسع ذلك من تأثيره الاجتماعي والسياسي وأجاد إستخدام المنتديات لا ليظهر انتمائه الحزبي بل ليوسع شبكة علاقاته ونفوذه على المستوى العام تاركاً القضايا السياسية اليوميه لزملائه من قادة الحزب المعروفين بينما كان المسؤول التنظيمي لفرع الحزب بالمدرسة الثانوية، وشهد الفرع توسعاً كبيراً بفضل قدراته. سعت جماعة الأخوان لتجنيده وقد عرف بالتفوق الاكاديمي وتمت دعوته لأسر الجماعة التنظيميه ونشاطها الاجتماعي، وفِي وسط القهقهات والقفشات والمداعبات كان يضعهم أمام أسئلة حرجة يختارها بعناية حول برنامجهم، وقد اصطحبه شباب الجماعة للقاء أمراء الجماعة للاجابة على تلك الأسئلة بمن فيهم بعض أساتذة المدرسة الذين لا يعلنون انتماءهم على نحو واضح ويعملون بشكل موارب داخل الطلاب.

انتقل سيد بشرى إلى الجامعة وجد فيه فرع الحزب درة ثمينة، وأصبح مسؤولاً تنظيماً لفرع الحزب في الجامعة بعد عدة أشهر، وفِي عامه الأخير في كلية الاقتصاد أصبح مسؤولاً سياسيًا لفرع الحزب وهي أعلى مسؤولية ولم يتخل عن عاداته وطباعه القديمة بل أجادها في الرياضة وجمعية المسرح وقضايا الريف وجذب النساء وطلاب الهامش والمبدعين، كان سيد بشرى مبدعاً في كل شيء ويوزع زمنه بانضباط شديد بين الاكاديميات والنشاط السياسي والاجتماعي ودرب نفسه على التفكير خارج الصندوق ومكافحة روح القطيع والاطلاع المستمر وأصبح ذو سطوة وشأن حتى ان جميع معارفه الحزبيين كانت تبهرهم قدراته على المسك بكل هذه التوازنات والتواري عن انظار الأجهزة الأمنية والخصوم، كان معظم أصدقائه من غير الحزبيين مما أضفى عليه مزيد من التمويه، وقد سبقته سيرته إلى مركز الحزب، شارك في النقاشات في الكلية ومنابرها الفكرية والاكاديمية وتحدث كأكاديمي أكثر مما يردد الشعارات السياسية وتفوق على زملائه باطلاعه على العديد من القضايا الفكرية التي تثير أسئلة صعبة وحائرة حول انتمائه السياسي، كان شاباً انيقاً ينم مظهره المرتب على طبيعة شخصيته، وجعل الكثيرين من قادة التنظيمات السياسية يسعون للتعرف عليه وخلق صلات معه، وكذلك كان جاذباً للفراشات من من يحببن الأضواء وهو يحسن استقبال الجميع دون أن يتعدى الحدود التي رسمها لنفسه والتي تتطلبها مسؤولياته وهو يدرك انه تحت دائرة الضوء من عدة اتجاهات، وقد امتلك المزاج المرح والنكتة الحاضرة ويعض على شاربه الكث حينما يريد أن يتخلص من بعض المآزق وقد كانت زعامته لا تحتاج إلى إعلان أو دعاية أو قشور، وأخفى تواضعه الودود بأن أصبح إنسانًا يشد الأخرين ولازالت سيرته بعد سنوات تنداح عند من التقوا به طوال سنوات الدراسة، سيد بشرى كان إنساناً بمعنى الكلمة.

مع التزامه الحزبي العميق فضل سيد بشرى الابتعاد عن زملائه الحزبيين وفي أوقاته الخاصة سيما الأمسيات كان يحب الهواء النقي والأحاديث الجديدة والحقول البكر التي لم تدوس عليها قدم من قبل والقراءات الجديدة والقضايا غير المطروقة ولا يحب الاحاديث المحفوظة والمكررة في تراتيل يومية، تناول قضايا جديدة في مجال دراسته ولأول مرة تطرق أذان زملائه تلك القضايا التي مازالوا يذكرونها، وقد ادهشهم حينما تناول مع أستاذهم المحاضر قضية نمط الإنتاج الآسيوي، وفي مراتٍ أخرى اثار قضية مدرسة التبعية والامبريالية والتطور الرث، ولأول مرة سمع منه زملائه باندريا جندر فرانك وسمير امين وموريس دوب وبول باران وكتابه المشهور عن الاحتكارات وعن قضايا المركز والهامش العالمي، وحديثه عن بول سويزي عميد الاقتصاديين التقدميين الامريكيين خريج جامعة هارفرد، والذي يجد الاحترام من زملائه الاقتصاديين المحافظين، كان يجيد اعطاء المقاربات والإشارة الى ما هو رئيسي وثانوي وترك بصمة بينة على أبناء دفعته وجيله وتخرج ونال درجته الجامعية مع مرتبة الشرف.

كانت أسرته كانت في انتظاره، لذلك تقدم لوزارة المالية واحتفى به فرع الحزب في الوزارة حيث كان بعض منهم قد عاصروه في الجامعة، وجاء توجيه من مركز الحزب مغرزاً دوره منذ المرحلة الثانوية مما فتح له الطريق للصعود في فرع الحزب في الوزارة، خاض سيد بشرى منذ وقت مبكر معركة متصلة بأن لا يتماهى أعضاء الحزب وتنطمس الهوية الشخصية لكل فرد منهم وأن يحتفظ الكل بهويته وتكوينه الخاص، وتذكر صراعاته منذ المرحلة الثانوية مع الذين كانوا يرون ان اهتمامه بالرياضة والاجتماعيات وحتى لعب الورق في الاجازات في الداخليات ودخول السينما نوع من الترف البرجوازي، قاوم كل ذلك وأصبحت نظرته ونظريته أقوى وكان يرد لهم

“نحن لسنا قطع اسبيرات متشابه وأن أعضاء الحزب ليسو ببغاوات تردد البيانات أو كلمة الجريدة الرسمية وأن كل فرد يجب أن يكون له شخصية مختلفة ومتميزة” وكان يشجع زملائه للبروز في مختلف دروب العمل الاجتماعي وتطوير الهوايات التي تصقل شخصياتهم مؤكداً لهم ان الهوية الشخصية للفرد يجب أن لا يطمسها سلوك القطيع، وعلى كل فرد ان يضيف للمجموعة نكهة متميزة وان الاتفاق على رؤية واحدة لا يعني الغاء فردانية الانسان وحقوقه الشخصية وحريته الخاصة وأن يصبح مجرد بيدق في رقعة شطرنج وان قطع الشطرنج نفسها تلعب وظائف مختلفة، وان ما يطور الجماعة الحزبية هو تطوير قدرات أفرادها ومن ثم توظيفها وان البشر مثل بصماتهم غير متطابقين مما يجعلهم يضيفون للجماعة الانسانية، وتناول سيد بشرى قضايا الاغتراب وماركس الشاب والشيخ وعِلم الجمال، وأكد ان فهم شخصية الانسان وتميزه في اطار الجماعة هي قضية ذات تعقيدات نظرية وسياسية وانسانية وفي مقدمة قضايا بناء المجتمع الجديد الذي لا يستقيم الا بالاعتراف بحرية الفرد ومساهمته المتميزة وأن نسمح للافكار الفردية الجديدة بالنمو حتى نجيد الإمساك بقضايا العدالة الاجتماعية والحقوق، وان الحقوق تبدأ بالفرد لتشكل الإطار العام للجماعة، مما دعى البعض من زملائه بوصفه بأنه يحاول أن يغطي على امتيازات البرجوازية الصغيرة بنظريات لا تسمن ولا تغني الفقراء من جوع.

حينما ادار سيد بشرى ظهره للجامعة بعد التخرج وعمل موظفاً بوزارة المالية، استدارت حياته على نحو كامل بمرتب محترم وامتيازات مريحة، كانت حياة الستينيات نفسها مختلفة رغم ان مصاعب الدولة الحقيقية بدأت من هناك ولكن الدولة كانت فتية، والخدمة المدنية يافعة والطبقة الوسطى مزدهرة والنساء يقتحمن الوظائف العامة والبنية التحتية لا تقارن بما حدث بعد ذلك بعدة عقود، والعلاقة مع الريف شبه عضوية والزراعة تؤتي أُكلها، واثار ثقافة الاستعمار تطل من مكاتب الدولة في ربطات عنق انيقة وملابس افرنجية وانتظام الخدمات والمواعيد والمدينة تضج بالحياة عند الأمسيات ودور السينما تعرض افلامها بانتظام، والاندية والرياضة والمنتديات والنقابات حافلة بالحياة.

أعتاد سيد بشرى أن يأتي مبكراً للوزارة قبل مواعيد العمل بنصف ساعة يقوم بتجهيز قهوته بنفسه وباتقان ومتعة ويرتب برنامجه اليومي ويقرأ الوثائق والخطابات الواردة والصادرة وعناوين الصحف قبل مجيء سكرتيرته المعجبة بنظامه الدقيق والذي كان يسهل عليها القيام بواجباتها وهي تستغرب حينما تتركه في المكتب بعد انتهاء الدوام يعد في المذكرات ويضع الأولويات ويراجع قضايا المعونات الأجنبية التي تقع تحت دائرة اختصاصه وبعد القيام بكل ذلك يخرج من الباب الخلفي للوزارة وهو يتأمل الشمس تلامس النيل في غروبها في منظر بديع يأخذه يومياً للطريق المؤدي إلى حانة ومطعم سانت جيمس، وعندما يدلف إلى باب الحانة يستقبله النادل بابتسامة عريضة ويأخذه إلى مكان جلوسه المعتاد ثم يأتي بماء مثلج وبعدها ربع زجاجة من الكونياك التي يحتسيها وقد وضع النادل إلى جانبه فول سوداني وشرائح الجبنة وفي ظرف ساعتين يأتي النادل مرة أخرى بسمك النيل المحمر مع سلطة طازجة وخضروات ثم يغادر بعدها سيد بشرى إلى منزله، ويصحو مبكراً ليمارس رياضة العدو لثلاثة كيلومترات جيئةً وذهاباً، وبعدها يأخذ حماماً منعشاً ويغادر إلى مكتبه، كان برنامجاً ثابتاً لا يتغير الا يوم الجمعة الذي يكرسه لزيارة الأسرة، وكانت سان جيمس أكثر اوقاته متعة يتأمل فيها ما يجري في يومه وحياته كان يعشق ما يقضيه من وقت منفرداً مع نفسه دون أن يسمح لأحد بأن يقتحم وقته الخاص أو يقطع حبال تفكيره، درج على ذلك بانتظام حتى سافر لدراسة الماجستير.

إعتاد سيد بشرى السخرية من زملائه في فرع الحزب حينما يفنون وقتهم بالكامل في مناقشة اختيار عضو لشريكة حياته بدأً من هل هي تقرأ صحيفة الحزب ومستواها الفكري والنظري وهكذا من قضايا، كان يعتقد أن هذا أمر خاص يجب أن يناقشه الشخص مع أصدقائه أو أسرته ان شاء ، ويجب فصل الأمور الشخصية عن المواضيع الرسمية والعامة. حظي ببعثة لدراسة الاقتصاد في الولايات المتحدة الأمريكية في جامعة بيركلي بكاليفورنيا، حزم حقائبه وهو يقلب أفكاره عن الولايات المتحدة التي طالما سمع عنها وعن ما سيجده في الواقع، وصل إلى الجامعة وأخذ دراسته على محمل من الجد وبدا يتعرف على المجتمع من حوله من ثقافة مختلفة وتعقيدات واستهوته اللغة الاسبانية في تلك الولاية وقد كان في كل نهاية أسبوع يسهر في حانة اسبانية كما طاب له الطعام الاسباني ايضاً واستعاد عادته القديمة في احتساء الكونياك طوال فترة دراسته في بيركلي وكان على نحو راتب يأخذ ربع زجاجة من الكونياك، ويكرس بقية الاسبوع للدراسة على نحو جاد مع الرياضة واكتسب محبة الكثيرين ومن أكثر الأشياء التي أعجبته هو عدم تدخل الناس في حياته الخاصة، وقد لاحظ زملائه انه يجلس دائماً على نفس الطاولة في مكان مميز في الحانة الأسبانية كانت الطاولة تواجه حوض زجاجي للأسماك الملونة، وهو يجلس وحيداً يقرأ في بعض الاحيان كتاب ويحتسي الكونياك مع بعض المقبلات قبل أن يتناول عشاءه من طبق البيالا الأسباني الذي يحتوي على عدة أنواع من الأسماك، ودرج زملائه ومعارفه من الحضور على احترام خصوصيته ويرفعون ايديهم بالتحية اذا استدعى الأمر، وشوهد في بعض الاحيان يأتي مع أحد من أصدقائه أو صديقاته لتناول العشاء ولكنها كانت مرات نادرة ومتفرقة وشوهد ذات مرة يتناول طعامه مع انجيلا ديفيز السياسية الأمريكية من أصل أفريقي المشهورة، والتي كانت تأتي إلى الجامعة وهي تكرس طاقاتها في التدريس والاهتمام بقضايا المسجونين خاصة السود والملونين واهتمت بالاحصائيات واعداد السود في السجون والتي تعادل أحياناً ٨٠٪؜ من نزلاء تلك السجون، بينما نسبة السود في المجتمع الأمريكي لا تعادل اكثر من ٢٠٪؜ من السكان.

أكمل سيد بشرى دراسته للماجستير قبل المواعيد المحددة وحزم حقائبه رغم ان الجامعة قد عرضت عليه اكمال درجة الدكتوراة، لكنه أخذ ما تبقى من نقود المنحة وبعث بها إلى الوزارة فيما عدا ما تبقى له من مخصصات شخصية، قرر أن يشتري بها عربة عند عودته إلى الخرطوم، أقام له زملائه في الجامعة واساتذته حفل بهيج وبعدها غادر كالفورنيا إلى السودان.

عاد مشاركاً بعنفوان وطاقة جديدة للدفع في أزمنة الاكتوبريات، عند عودته قدم ندوة في النادي الذي يتبع لوزارة المالية على دفوف الاكتوبريات وكانت ذات حضور بهيج، ما يميز سيد بشرى انه كان يبحث عن الانسان داخله وظل يدقق في قضية احترام الخصوصيات والحريات الشخصية داخل إطار الحريات العامة بل أن الحريات العامة تستمد أهميتها من احترام الخصوصيات الفردية وظل سيد بشرى يبحث في مداراته المعادلة التي تريح الضمير الانساني في الربط بين الجماعة والفرد وبين الخاص والعام دون تغول من كليهما وأعتقد أن ذلك هو أصل المشروع الجدلي.

واختار أن يقضي امسياته في سان جيمس مثل عادته حينما تخرج من الجامعة وكما كان يفعل في حانة كالفورنيا مع ربع كونياك ودون تدخل أو ازعاج، لكن شيئاً ما قد حدث عكر مزاجه وقلب سان جيمس إلى جحيم!

تخرج علي طاهر من المدرسة الوسطى في عصر التعليم الذهبي وفي الداخلية التقى بالسودان كله بتنوعه الثقافي الجغرافي، كان لا يميل كثيراً إلى أبناء منطقته ويحب الفضاءات المتسعة ويقضي معظم وقته في المكتبة ويصدر مع مجموعة من زملائه جريدة حائطية ويساهم في أخرى مع أبناء داخليته، كانت الكتابة وجرائد الحائط تستهويه وكذلك اللغة العربية رغم ان لديه لغة الأم الخاصة به، وكان قليل الاهتمام بالرياضة واذا كانت داخلية النجومي التي ينتمي اليها ستحصل على الكاس يجد نفسه مهتم بالرياضة حينها، كانت لغته العربية جيدة ومقالاته ومشاركته في حصص الإنشاء وما يلقيه في الجمعية الادبية يلفت أنظار الأساتذة وزملائه كما كان يعشق الغناء والطرب، لم يكن في نيته مواصلة الدراسة بعد المتوسط وانما رغب في الانخراط في سلك التدريس أو الصحافة، كل ذلك كان متاحاً، ففي عام ١٩٥٨ وهو في نهاية العام الدراسي الاخير من المرحلة المتوسطة تحصل على شهادة تؤهله لمواصلة تعليمه ولكنه قرر أن يجد لنفسه وظيفة لأن أسرته في امس الحاجة اليه، واصر والده على تزويجه من ابنة عمه مخافة أن يأخذه عالم المدينة الواسع خاصة انه كان دائم التبرم من حياة القرية، حاول ايجاد بعض الاعذار لتأخير الزواج من ابنة عمه، لكن والده لم يترك له فرصة للتملص وجمع أهل القرية في اليوم الثاني بعد إعلان اسماء الناجحين عبر المذياع وأعلن زواجه على بنت عمه زينب، عندها ادرك ان كلمة والده المهاب لن تقع واطة وتوكل على الحي الذي لا يموت ومضى في دور العريس والناس يتقاطرون من القرية والقرى المجاورة وقد بدأت مراسيم الفرح ونحرت الذبايح، طلب منه والده دعوة بعض اصدقائه لكنه تحجج بضيق الوقت ودعا صديق واحد فقط وهو الاقرب اليه عثمان رجب من أبناء الخرطوم ليشاوره في مأزقه ويحلق معه بعيداً عن القرية وليحسم تردده بين التدريس والصحافه وكان كعادته هادئاً وحسم الموضوع لصالح الصحافة وطلب منه أن يجعل الخرطوم وجهته المقبلة والخيار الأوحد.

كان والد عثمان رئيس تحرير جريدة معروفة وعرض عليه صديقه أن يقوم بتقديمه لوالده ويتوسط له لديه وبالفعل قام صديقه بذلك، أهتم علي طاهر بالإثنين معاً الزواج والعمل ولم تقصر معه بنت عمه في الاخبار السعيدة وحبلت في الشهر الأول، اما في الوظيفة فقد ذكر له رئيس التحرير انه سوف يعمل في جميع الاقسام وسوف يبدأ بالقسم السياسي وسيقوم بتغطية الاضرابات العمالية والمهنية التي كانت لها مطالب نقابية والمطالبة بازالة الحكم العسكري، ومنذ اليوم الأول قام بالاتصال بقادة النقابات وكان شديد الحماس والاخلاص في عمله وقد كان رئيس التحرير دقيقاً وادرك بحسه انه أمام شاب ذو مواهب متعددة، وكان علي طاهر سريع البديهة في استيعاب ملاحظات رئيس التحرير الذي يتعاطف مع قوى المقاومة الشعبية سراً، وبدأ يكتب الاخبار بطريقة تمر على الرقابة العسكرية ويلتقط القاريء خيوطها المهمة وارتفع توزيع الجريدة واضحت الصفحة الأولى محورية في برنامج الصباح في دوائر المثقفين والأعمال والساسة، وقربه رئيس التحرير منه أكثر وأصبح يعتمد عليه في بعض التحقيقات والمصادر المهمة وكان متفانياً في عمله وخلق علاقات مع عدد كبير من أطياف المجتمع وساعدته علاقات الدراسة مع أبن رئيس التحرير أن يخلق صلة اسرية معه، كما ان أبن رئيس التحرير كان من سماره في المساء واستطاع من خلاله أن يتعلم كيف يتعامل مع رئيسه وتفادي موجات غضبه العاتية مما جعله يتعامل معه كابن اكثر من انه موظف، مضت فترة الدكتاتورية وجائت ثورة اكتوبر واستطاع علي طاهر أن يبرز كصحفي كبير ذو باع في القضايا السياسية وكانت مقالته مقروءة وأصبح له أسم وشارك في معارك سياسية كبيرة وتدرج في قسم التحرير حتى أصبح رئيساً للقسم السياسي وينوب عن رئيس التحرير في غيابه بإجازة منه، توطدت الصلة بينهما، جائته عروض من صحف أخرى رفضها جميعاً وقد انجبت زوجته ثلاثة ابناء وداوم على زيارتها في القرية واحتفظ لنفسه بحياة المدينة وجعل لها حرية التصرف في مملكتها في القرية ولم يقصر في واجباته الأسرية ومع اسرتها ومع أهل القرية وكل من جاء منهم إلى الخرطوم رجع شاكراً حُسن ضيافته، وأصبح علماً يفخر به أهل القرية عندما يتعلق الحديث بالمدينة.

قسم علي طاهر راتبه منذ البداية كالتالي الربع لزوجته والتزامات أهل القرية والربع الثاني للايجار وربع لاحتياجاته وتسديد الديون، أما الربع الأخير فكان من نصيب أحدى صاحباته في حي معروف بام درمان. سارت الحياة على أجود ما يكون حيث الطبقة الوسطى مزدهرة والريف منتعش والمشاريع الزراعية منتجة والرعاة يصدرون ماشيتهم للمدنية والخارج، وكان النقاش السياسي على اوجه وقضايا الاستنارة والتقدم في المقدمة، وكترياق لذلك من وجه نظر الأخرين جاء طرح الدستور الإسلامي لوقف كل هذا الانتعاش الذي سينقل البلاد إلى طريق جديد إن استمرت في احترام الحريات وعدم التدخل في خصوصيات الأفراد وان الدين لله والوطن للجميع والبلاد متنوعة ووحدتها في تنوعها، تعاطف علي طاهر مع ما يطرحه الجنوبيين على وجه خاص، فإن احترام التنوع يكمن في دولة لا تنحاز إلى دين وتحترم الحريات العامة والخاصة وإن الاخلال بذلك سيؤدي لعواقب وخيمة، وقد كان ذلك موضعه الأثير في حواراته المسائية مع زملائه.

في صيف عام ١٩٦٨ استلم علي طاهر مرتبه الشهري ووزعه بنفس الطريقة التي اعتادها منذ سنوات، وبعث برسالة مع ربع المرتب لزوجته مع سائق البص الذي يمر بالقرية، وقد كان علي طاهر في طريقه لزيارة صديقته في ذلك الحي الامدرماني كعادته عند بداية كل شهر وعند الوصول خلع بدلته وربطة العنق التي كان يرتديها في المكتب وبدلهم بالعراقي والسروال وسط ترحيب صديقته التي كانت في مزاج عالي ذلك اليوم وعلى احر من الجمر وهي ترتدي فستان قصير ضيق لا يستر الكثير وبرز كل شيء من فتحة صدر فستانها وسارت أمامه في غنج وتمايل، وأخذ موقعاً مريحاً في مجلسه وهو يرتشف من الكأس الذي أمامه وسط الحكايا والضحكات ودارت الكؤوس مع المرارة والشية، كان كل شئ كما قدر له منذ سنوات ولكن فجأة سمع طرقاً عالياً على الباب، ذهبت أحداهن للتأكد من الطارق وقالت أخرى، أراهن انه عمر السكران أو واحد غريب، لكن المفاجأة كانت!

أدركت الحر قليل المأزق الذي وجدت نفسها فيه، فمن جهة شباب القرية يريدون الانتقام منها لرفضها المستمر ومن الجهة الأخرى سئمت أسرتها رفضها وتريد شخصاً ميسوراً يستر الحال. وعندما طرحت ذلك العرض على أسرتها تلك الليلة وحينما رفض اخاها الأكثر معارضة لها تلك الفكرة وعدد لها أسباب الرفض، ولكنها كانت تعلم انها ستنجح لانها واقفت على الزواج من أيوب بشرط الانتقال والعيش بود مدني وهي تعلم أن الأمر أصبح بالنسبة لأيوب مسألة كرامة واثبات ذات، وراهنت على كسب القضية رغم صعوبة ترك أيوب للقرية وتوقعت حدوث مفاجأة من أيوب وهي تمني النفس بان يوافق على شروطها وهي تصارع الجميع.

تواصل الطرق على الباب بشدة مما ازعج علي طاهر وكانت المفاجأة أن الطارق لم يكن عمر السكران أو شخص غريب بل كانت الشرطة التي اقتحمت البيت وطلبت من جميع النساء التوجه إلى القسم وطلب ضابط الشرطة بكل أدب من علي طاهر بطاقته وبعدها قال له: يا أستاذ علي طاهر ما عندي اي حاجة عليك وانا من المعجبين بكتاباتك، طبعاً انت عارف الأيام دي الدستور الاسلامي وما الدستور الاسلامي ومخالفة هذه الأوضاع له وضرورة القضاء على ما يسمى بالظواهر الشاذة، أجاب علي طاهر : هل الحزب الشيوعي من الظواهر الشاذة وهل حله دستوري؟ ضحك الضابط وقال: يا أستاذ انا واحد مأمور والا نحن في الهوا سوا. ومنذ وقت مبكر في عام ١٩٦٨ كان علي الطاهر يرجح أن جميع ما تم من كوارث في البلاد بسبب المعركة الدائرة حول الدستور الإسلامي، وقد أعجبه سؤال الاب فيليب عباس غبوش، وقد كان حاضراً بنفسه في تغطية تلك الجلسة للبرلمان عندما تسأل الأب فيليب هل يجوز لمواطن سوداني غير مسلم الترشح لمنصب رئيس الجمهورية في ظل جمهورية اسلامية؟ وشاهد حديث النواب الجنوبيين الذين كانوا يطالبون منذ سنوات بحفظ حقوقهم في المواطنة وتذكر حينما ذهب إلى المحكمة التي كانت تباشر قضية فجلند في القضية المرفوعة ضد بونا ملوال وداريوس بشير والتي ذكرا فيها ان قتل أكثر من ٧٠ من المثقفين الجنوبيين في مدينتي واو و جوبا واعداد أخرى من المواطنين هي محاولة لإبادة الجنوبيين، وقد فتح بلاغ في مواجهتهم بتهمة التحريض على الدولة وقد صدرت فجلند في الفترة الزمنية بين عام ١٩٦٥ -١٩٦٩ وكانت ناطقة باسم جبهة الجنوب، وكيف أن القاضي الذي لا يُنسى ومثل جلال وعظمة القضاة السودانيين مولانا دفع الله الرضي وهو يسرد بلغة دقيقة وبليغة وفِي سابقة أصبحت مشهورة وتاريخية بأن فجلند بالفعل حرضت ضد الدولة وفعلت كذا وكذا… ولكن الدولة التي تفعل كذا وكذا فانها تستحق التحريض ضدها، وحكم بالبراءة على المتهمين ودافع عن المواطنة الحقة وياله من قاضي ذو ضمير حي.

طلب الضابط من علي طاهر أن يأخذ حاجياته ويذهب كمواطن محترم، عندها سأل علي طاهر عن النساء واخبره الضابط بانه سوف يتم فتح بلاغات ضدهن وأخذ تعهدات منهن بعدم العودة لمثل هذه الممارسات وبعدها يطلق سراحهن.

علي طاهر يؤرخ نهاية المشروع الوطني القديم بهذه الحادثة وان ما حدث كان بداية التعدي على الحريات العامة والخاصة وهو على استعداد للذهاب إلى درجة من الغلو في الحديث والدفاع عن الحريات الخاصة ولم يغير وجهة نظره بعد مرور سنوات طويلة وهو يحكي تلك القصة بعد ما يقارب ٣٠ عاماً في اديس ابابا ويرى ان ما حدث ذلك اليوم في ذلك الحي الامدرماني كان بداية النهاية.

كانت المفاجأة انه بعد كل تلك الشروط من قبل الحر قليل وافق أيوب عليها وأقام فرحاً كبيراً وأخذ المسؤولية عن والده في الجروف وأصبح يصدر الخضار للمدينة ويسكن مع زوجته في ود مدني ويأتي صباحاً لجروفه لأخذ الخضار إلى المدينة، بعد مرور ٤ سنوات أصبح يمتلك منزلاً ولديه أثنين من الأبناء، وكانت الحر قليل تعمل ممرضة في المستشفى ولها سمعة طيبة وتوسعت علاقاتها وأصبحت تعود متأخرة إلى منزلها بعض الأحيان وتضرب مواعيد في أوقات غريبة مع بعض الذين يحتاجون خدماتها، وتوترت علاقتها بزوجها وأصبح الحديث يمشي على رجلين للقرية وكثرت الهمسات من الشامتين، ومع كل ذلك حافظ أيوب على احترامه مدركاً لما يدور حوله وخيرها بين العودة إلى القرية أو أن يأخذ ابناءه ويتركها، واختارت الفراق وتركت له المنزل واشترت منزلاً أخر وسكنت مع عدد من صديقاتها وأشارت بيدها لكل من كان يتحدث عنها بالسؤ من كبار رجال القرية وأتت بهم واحداً تلو الأخر، وصارت تساهم في مناسبات القرية اتراحها وافراحها أكثر مما يفعل أي شخص أخر، وما سلب من سمعتها بيدِ عوضته بكرمها ومساهماتها باليد الأخرى وكانت أول من تصلها الدعوات للمناسبات، وأصبح كبار القرية يظهرون لها الاحترام مخافة أن تفضح زيارتهم السرية للمدينة وهي مقربةُ لكل زوجاتهم، عاشت حياتين مختلفتين في القرية نسخة وفي المدينة نسخة أخرى ولكنها كانت ترى أن حياتها نسخة واحدة.

بعد عودته للخرطوم من دارسة الماجستير أستأنف سيد بشرى عادته القديمة يعمل في الوزارة حتى وقت متأخر وأصبح الوزير يعتمد عليه في كل شيء، وبعد فراغه من العمل يتوجه إلى سان جميس ويطلب ربع كونياك ولكن شيئاً ما قد تغير ففي ذلك الوقت الذي أصبح فيه فرع الحزب يضم الموظفين والعاملين معاً طلب سيد بحجج قوية أن يتم فصل الموظفين عن العاملين وأن تكون هنالك لجنة قيادية للتنسيق لأن قضايا الفئتين مختلفة، ولكن اقتراحه قوبل بالرفض واشتم البعض رائحة برجوازية صغيرة في حديثه، وتم تكوين لجنة قيادية واحدة لفرع الحزب، وأصبح الوقت يحاصر سيد بشرى ولم يكن أمام الرفاق الا البحث عنه في سان جميس لمناقشة القضايا الحزبية حيث كان المكان يجمع بين العمل والبهجة وازدادت تكلفة ربع الكونياك إلى ربع أخر يقدمه للرفاق مع العشاء وسلب ذلك منه صفاء جلسته الأثيرة منذ سنوات، وقد عبر سيد بشرى عن آرائه في كثير من القضايا ولم تجد قبولاً بل تزايد الحسد والضغوط من حوله وأصبحت مساحته الخاصة مستباحة ورغم ذلك قد كان شديد الالتزام بالحزب وقضاياه، وفكر كثيراً قبل أن يقبل عرض جامعة بيركلي في عام ١٩٦٩ لتحضير الدكتوراة وقدر أن هذا سيعطيه عدة سنوات ينجز فيها الدكتوراة كما كان ينوي إصدار كتاب في الاقتصاد وان يحافظ على وجوده في الحزب وعلى نمط حياته الخاص، لازال بعد سنوات طويلة يؤمن بأن فردانية الانسان تتكامل مع التوجهات الجماعية لتطوير المجتمع وأن هذا هو أساس فهم العلاقة بين الفرد والجماعة ولا يمكن التضحية بأي منهما بل أن التضحية بالفرد تعني التضحية بالجماعة، وقد انجز كتاباً بديعاً في هذا الخصوص متغافلاً ذكر حكاية ربع الكونياك.

عادت الحر قليل طه من المدينة إلى القرية واكملت دائرة حياتها المتشابكة من جوع المدينة وسكون القرية بعد ان سكنت روحها المشرئبة إلى حيوية أضواء المدنية، كان ذلك قبل أن تظهر شبكة وسائل الاتصال الاجتماعي التي وحدت ضمير المدينة والقرية.

في سنواته الأخيرة كان علي طاهر يلهج بشيئين الحريات الخاصة والمواطنة وكان دائم الإصرار ان كل شيء قد بدا من هناك منذ عام ١٩٦٨ فهي بداية النهاية وكان لا يهتم إذا كان الأخرون يتفقون معه ام لا، تغير علي طاهر بعد سنوات امضاها في الصهيل والجموح وبعد ان انزوت ذئاب الشباب التي تشبه هياج المدينة وتقدمت به سنوات العمر وانحدر من قمم الصعود إلى مياه الحياة الراكدة، من المؤكد لو انه حضر أيامنا هذه بعد ١٥ أبريل ٢٠٢٣ داخل الخرطوم لآصر بان جذور كل ما يجري الآن ترجع إلى حادثة ١٩٦٨ وأن احترام الخصوصيات والمواطنة هو كل شيء وربما كتب في أحدى مقالاته ان صدى حروب الريف البعيدة قد سمع في الخرطوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣ أكثر من اي وقت مضى وان تدمير الريف سيؤدي إلى تدمير المدينة وإذا اردنا الحفاظ على المدينة علينا الحفاظ على الريف، وربما لحُسن حظه انه لم يحضر أيامنا هذه وأحداثها، رحل علي طاهر بعد أمسية قضاها مع أصدقائه وكان سعيداً في تلك الأمسية وهو يترنم بصوت عالي بأغنيته المفضلة،

كل طائر مرتحل عبر البحر قاصد الأهل

حملته أشواقي الدفيقة ليك يا حبيبي للوطن

رحل علي طاهر مثل طائر يحمل الاشواق الدفيقة في حياة كم تمناه ولم يعشها أبداً.

استطاعت الحر قليل رغم استهجان الناس لها في القرية وبسلوكها في المدينة، ان تكون سلطة مضادة وان تفرض نفسها في القرية كسلطة مقابل السلطة الرسمية، وعند عودتها إلى القرية عاشت حياتها في سلام وطمأنينة حتى رحلت.

عاد سيد بشرى من بيركلي بدرجة الدكتوراة وبخبرة واسعة وقد استطاع ان يوظف وقته في الجامعة بصورة جيدة، ووقت عودته كانت البلاد قد دخلت في شمولية ثانية ودخل الحزب الذي لم تنقطع صلته به وبلجنته الاقتصادية في صدام عريض مشهود، وكان سيد حينها يحمل طاقة عظيمة وروح وثابة ومنذ وصوله وبعد أخذ الاحترازات التقى قيادة الحزب وانخرط في العمل السري في قضايا في غاية الأهمية وتزوج من أحدى زميلاته في الوزارة التي التقى بها في السنة الأخيرة قبل تخرجه من الجامعة وقد كانت في سنتها الأولى، عرض عليه الوزير اكثر من مرة موقع سياسي وأنه يمكن أن يتحدث مع الرئيس لتعينه في منصب وزير دولة وكان في كل مرة يعتذر بلباقة مما ادهش الوزير ، وفي ذات مساء في منتصف السبعينيات كان سيد بشرى يقود عربته عائداً من إجتماع هام للحزب فوجئ بشاحنة نظافة مسرعة والتي فقد سائقها السيطرة عليها لتصطدم بعربته في حادث مروع أدى إلى تهشيم عربته بالكامل والتي تم اخراجه منها بصعوبة بعد ذلك، ونُقل إلى المستشفى وتم الإتصال بأسرته واُدخل إلى العناية المكثفة وتوافد العديد من الأطباء وقرروا إجراء عملية جراحية دقيقة وقد كان كبير الجراحين زميل له في المدرسة وصديقه ورفيقه في فريق كرة القدم وقد احرازا معاً كأس الدورة المدرسية، دخل سيد بشرى في غيبوبة، امتلأت أعين كبير الجراحين بالدموع عندما رأى حالته رغم انه معروف عنه الصرامة والجمود.

كان عثمان رجب فرحاً ذلك الصباح وهو يخرج من مطبعة النورس ويحمل كتاباً عنوانه (١٩٦٨ بداية النهاية) لمؤلفه علي طاهر، وقد كان على موعد مع أصدقاء علي طاهر الذين صمموا على تحقيق أحدى أمنياته بأن يرى كتابه النور ويتعرف الأخرين على أفكاره التي لبس يرددها في كل المنتديات والأمسيات، إن الإنسان يمضي ولكن الفكرة لا تموت.

انتشر الخبر وآتى العديد من زملاء وأصدقاء سيد بشرى إلى المستشفى في صورة تعكس حب الناس له في مختلف دروب الحياة، حتى العاملات بالوزارة حضرن في صباح اليوم التالي وهن يتحدثن عن مكارم سيد بشرى وانه هو من قام بتنظيم العاملات للمطالبة بحقوقهن منذ سنوات وقد رتب لهن مقابلة مع الوزير وقد حضرها بنفسه وأيد قضاياهم، عرضت الوزارة على أسرته التكفل بمصروفات علاجه بالخارج لكن الأطباء نصحوا بانه حالته لا تسمح بالسفر.

بعد أسبوع من تلك الحادثة أسلم سيد بشرى الروح إلى بارئها عند منتصف الليل، استدعى كبير الجراحين أحد أصدقائه المقربين وطلب منه إخبار أسرته وهو لا يستطيع أن يسيطر على دموعه الغزيرة وهو يقول: لقد عملت لسنوات طويلة في هذا المجال وشهدت موت الكثيرين لكن رحيل سيد بشرى محمد يونس الهميم أمر مختلف، وكانت هي المرة الأولى التي يسمع فيها أصدقائه إسمه بالكامل. لقد رحل سيد بشرى في أوج عطائه وفي نفسه شئ من إبداع ولازالت قضية الفرد والمجتمع وكيفية الوصول إلى سعادة الأفراد حتى تتحقق سعادة المجتمع، قضية اثيرة بالنسبة له ولطالما ردد انه لا سلام بدون عدالة اجتماعية، وبقدر ما نقترب من العدالة الاجتماعية نقترب من السلام.

الخرطوم مايو ٢٠٢٣ 

أزمنة الحرب