Friday , 29 March - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

تحولات المشهد السوداني (2- 6)

في انتظار العم سام

السر سيد أحمد

السر سيد أحمد
السر سيد أحمد
بداية ينبغي الاشارة الى مدى ونوعية الآهتمام الامريكي بالسودان. فالسودان كبلد لا يحتل مكانة متقدمة في الاهتمام الامريكي. وأي أهتمام يوجد، أنما ينبع في أطار أهتمام عام جغرافي أو بخصوص حسابات سياسية يكون السودان أحد أدواتها. وقد تكون ملاحظة السفير الامريكي الاسبق في القاهرة جيفرسون كافري في خمسينيات القرن الماضي أول اضاءة على النظرة الامريكية العامة تجاه السودان الذي كان يحبو في طريقه نحو الاستقلال. كافري كان مهتما بأستقطاب النظام الجديد في مصر الذي تولى السلطة في يوليو 1952 الى الترتيبات الامنية التي تخطط لها واشنطون في منطقة الشرق الاوسط في تلك الفترة ولذلك لم يفهم لماذا تصر بريطانيا على حشر القضية السودانية في تعاملها مع الحكام الجدد في مصر، اذ قال لرصيفه البريطاني:” لماذا تنشغلون بمصير بضعة ملايين من الزنوج.”

فبالنسبة لكافري المهم ارضاء مصر وسحبها الى المعسكر الغربي. وبعد أكثر من عقدين من الزمان لخص شيستر كروكر مساعد وزير الخارجية للشؤون الافريقية أبان فترتي رئاسة رونالد ريغان أهتمام واشنطون بالسودان في أطار مساندة السودان وقتها لاتفاقية كامب ديفيد وكذلك بسبب مناخات الحرب الباردة اذ يجاور كلا من ليبيا وأثيوبيا المعاديتان للغرب وقتها وبدعم من المعسكر الشرقي، والخوف أن تتمكن الدولتان من أسقاط نظام النميري بما يحقق لهما وجودا في منابع النيل يمكن أن يؤثر على مصر.

في العام 1983 وصل السفير الآمريكي الجديد هيوم هوران الى الخرطوم وأوضح في أفادات لاحقة ان أهم عنصر في مهمته المساعدة في نقل اليهود الفلاشا، وهي قضية أصبحت في صدارة اهتمامات الادارة الامريكية بسبب ضغوط اللوبي الاسرائيلي. وهكذا فالسودان ليس مهما في حد ذاتها وأنما لجواره لبلدان تهم الادارات الامريكية المتعاقبة، أو في أطار حسابات سياسية داخلية.

وهذا ما ينقلنا الى مجال الاهتمام الاخر المتمثل في اللوبيات مثل مجموعات الضغط المسيحية والامريكان من أصول سوداء الى جانب تلك المجموعات المهتمة بقضايا حقوق الانسان، وكلها نجحت في فرض القضية السودانية على المشهد السياسي خاصة على أدارتي جورج بوش وباراك أوباما وذلك لآنها أصبحت قضية داخلية تهم هذه اللوبيات ولما لها من انعكاسات أنتخابية، مع ملاحظة تراجع أهتمامات اللوبي الكنسي والمجموعات السوداء أثر أنفصال جنوب السودان.
أما مجموعات الضغط العاملة في مجال حقوق الانسان التي بقيت فنشاطها أفضل ما يكون في مناخات العقوبات، لكن قدرتها تظل محدودة في التأثير الايجابي لصالح السودان بدليل عجزها عن تأمين مجرد لقاء لعبد الله حمدوك مع وزير خارجية ترمب مايك بومبيو في أول ظهور لحمدوك في الساحة الدولية عندما خاطب الامم المتحدة في سبتمبر 2019 رغم وجود الاثنين في قاعات الامم المتحدة. ويقارن هذا العجز بنجاح هذه المنظمات وفي أجواء العقوبات في تأمين مقابلة للرئيس جورج بوش مع شخصية مغمورة من دارفور هي حليمة بشير وتسليمها بوش نسخة من كتابها “دموع الصحراء” في العام 2006 وكذلك مقابلة دكتور مضوي أبراهيم الناشط السوداني في مجال حقوق الانسان لبوش في نفس العام. ويضاف أيضا الفشل في تحقيق أختراق لزيارة حمدوك الى واشنطون في ديسمبر 2019 اذ كان أعلى مسؤول قابله وزير الخزانة ستيفن منشين ولم ينتج عنها شيء يذكر في مختلف الملفات التي تهم الوضع الانتقالي الجديد في السودان.

وهناك أيضا عجز هذه المنظمات أو عدم رغبتها في العمل على تسهيل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للأرهاب رغم مطالبة العديد من الدول من أصدقاء الولايات المتحدة بذلك، بل وحتى عدم بذلها جهدا يذكر لآقناع أدارة ترمب العودة الى الاتفاق الذي توصلت اليه مع أخر وزير خارجية الانقاذ الدرديري محمد أحمد في أواخر العام 2018 والبدء في اجراءات رفع أسم السودان من القائمة كان يفترض أن تنتهي في نهاية أبريل 2019، وهو الاتفاق الذي علقته واشنطون اثر أندلاع المظاهرات المنائة للبشير. وكان يمكن الضغط في أتجاه العودة الى ذلك الاتفاق بعد التغيير، هذا اذا لم نضف الدفع في أتجاه مكافأة الشعب السوداني بعدم الاصرار على التعويضات كونه ضحية لممارسات نظام لم يختاروه بداية.

لكن بعد انفصال جنوب السودان تراجع هذا الاهتمام المرتبط بقوى سياسية داخلية، وعاد تركيز الاهتمام بالسودان في أطاره الجغرافي، وهو ما يظهر في تعيين جيفري فيلتمان مبعوثا لآدارة بايدن الى منطقة القرن الافريقي كلها وليس السودان وحده، ولهذا فأن نظرته الى السودان تتم في هذا الاطار وتحت العنوان الاساسي وهو تحقيق الاستقرار في المنطقة عموما وفي السودان بشكل خاص وهو الذي يجاور سبع دول أهمها أثيوبيا الى الشرق أصبحت مهددة بالتفكك والى الغرب تشاد التي تعيش انتقالا قلقا يمكن أن يمتد على مختلف دول الساحل التي تعاني من تصاعد في وجود الجماعات الاسلامية المتطرفة، ولذلك فأن أخر ما تحتاجه واشنطون أن ينفرط الوضع في السودان.

ومن هنا جاء الترحيب بالاعلان السياسي بين البرهان وحمدوك من قبل المجموعة الدولية بقيادة الولايات المتحدة، رغم ان ذلك الاعلان يتجاوز المعادلة التي وضعها فيلتمان وهي ضرورة العودة الى الشراكة بين المدنيين والعسكريين والا يطغى أي طرف على الآخر. الاعلان السياسي أستبدل الحرية والتغيير أو المدنيين بشخص حمدوك، كما أن كل الفترة الانتقالية أصبحت تحت أشراف العسكريين من واقع قبضتهم الفعلية على مقاليد السلطة بدليل غض النظر عن مجلس السيادة الذي شكله البرهان وعين نفسه وحميدتي قائدين له بدل نقل الرئاسة الى المدنيين، وأهم من ذلك أن العسكريين سيسيطرون على الفترة الانتقالية وبالتالي يمكنهم التحكم في عملية الانتقال والانتخابات المتوقعة، الامر الذي وضع حدا نهائيا وعمليا للعبارة الاثيرة: “الحكومة التي يقودها مدنيون”. فالعسكريون أكثر قدرة على تحقيق قدر من الاستقرار أكثر من المدنيين، كما ان عودة حمدوك الى المشهد السياسي يمكن أن تعطي الحديث عن الاهتمام بالتحول الديمقراطي قدرا من الصدقية.

في الاستراتيجية المؤقتة التي اعتمدتها ادارة بايدن في مارس الماضي تم تحديد ثلاثة أولويات بالنسبة لآمنها القومي: حماية المواطنين الامريكيين ضد تهديدات الدول الآخرى وتلك العابرة للحدود، الاهتمام بالرفاه الاقتصادي وأتاحة الفرص لهم والاستفادة من الانتعاش الاقتصادي لصالح المواطنين وكانت ثالثتها دعم القيم الديمقراطية التي تحتل مكانا محوريا في المجتمع الامريكي والعمل على توحيد الديمقراطيات حول العالم لمكافحة التهديدات الموجهة للحرية.
وهكذا يبدو واضحا أن نشر الديمقراطية في دول أخرى مثل السودان ليس من ضمن أساسيات مشاغل الامن القومي. وأذكر أني سألت السفير الامريكي الاسبق شاس فريمان عن تجربة بلاده لآستعمال القوة لآخراج صدام حسين من الكويت وان ذلك تم لآن الكويت دولة نفطية. وكان رده ان السياسة الخارجية تقوم على عامل المصلحة أولا والاعتبارات القانونية والاخلاقية ثانيا واذا حدث تعارض فأن الاولوية تذهب الى المصلحة ولو انه في حالة الكويت هذا أجتمع الاثنان، فهاهي دولة مستقلة تتعرض الى عدوان من دولة أخرى جارة، وهي في نفس الوقت تمثل مصلحة مباشرة.
وهكذا يبدو السودان مرشحا في النظرة الامريكية الى ترتيب يكون للعسكريين فيه اليد العليا مع هامش للحريات لتحقيق قدر من الاستقرار والسماح لواشنطون الادعاء برعاية التحول الديمقراطي، وفي أطار أعادة تركيز أهتماماتها في منطقة الباسفيكي ومتابعة التحدي الصيني، فلن يكون لديها مانع في تولي حلفاءها الاقليميين أمر الملف السوداني. فالسودان في نهاية الامر لن يكون أعز على واشنطون من دولة جنوب السودان حيث رعت الادارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة أموره حتى بروزه دولة مستقلة على الخارطة العالمية، لكنها نفضت يدها عنه بعد دخول قيادات الحركة الشعبية في صراع عبثي سدت الافق أمام أي أصلاح، وأتبعت ذلك بعدم تعيين سفير لها في جوبا ولا مبعوث خاص بعد تقاعد دونالد بووث الذي كان مبعوثا خاصا للسودان وجنوب السودان، كما ان الاموال التي بحوزة وزارة الخارجية الامريكية للآنفاق منها على محكمة جرائم الحرب أعيد معظمها الى وزارة الخزانة في واشنطون.

(غدا: السودان ملف أقليمي؟)

Leave a Reply

Your email address will not be published.