Saturday , 27 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

ثورة 1924 .. رائدة التأهيل في قضايا السودانوية واللاعنصرية والمقاومة المدنية

ياسر عرمان

 ياسر عرمان

 اهداء ضد الذاكرة المثقوبة ولوقف عدوان مائة عام علي ثورة 1924:

 

(إلى المناضلة الحاجة نفيسة سرور احمد عضوة جمعية اللواء الأبيض، اليها وقد زعل منعها أهلها والي اخاها عبدالعزيز الذي لم يزعل منها حينما انضمت الي جمعية اللواء الأبيض لأنه كان يفهم وفاهم على حد قولها) والي الشهيد ثابت عبد الرحيم والذي اتي من شندي لزيارتها قبل اعدامه.

(الي طلبة الكلية الحربية الذين خرجوا في مظاهرة شاهرين سلاحهم وهتافهم وتم سجنهم في الوابورات بحري لمدة شهر في بابور انجليزي وآخر مصري ثم سيقوا الي سجن كوبر واعتقلوا كل ثلاث منهم في زنزانة وخلدهم شيخ المبدعين إبراهيم العبادي في اغنية شهيرة حرمها الانجليز، يا حليل الطير الرحل لو قريب في زحل التلامذة السكنوا البحر).

كل بلد لها ثروتان، ثروة من صنع الانسان وتاريخه الذي يشكله عبر الحقب فوق الأرض وثروة تشكلها الأرض التي يسمر فوقها الانسان اقدامه. والأرض ليست من صنع الانسان بينما التاريخ الانساني من صنع الانسان والشعوب التي تفرط في تاريخها ستفرط في ارضها ولو بعد حين والانتقاص من التاريخ ينتقص من الأرض والجغرافيا وأكثر الثروات التي لم نحسن استخدامها في السودان هي تاريخنا.

نحتاج تاريخنا مثلما نحتاج ارضنا بل للتاريخ والأرض روابط جدلية ولكي نستطيع ان نوحد بلادنا لابد ان نربط ارضنا بمراسي التاريخ فالذاكرة المثقوبة لا تحيي الروابط الوطنية، والجغرافيا التي لا يسندها التاريخ والثقافة قابلة للزوال وأخطر ما طرحته سياسات الدولة والحروب التي خاضتها في الريف إنها تجاهلت التاريخ والتنوع والانسان، وحاولت توحيد الجغرافيا فانتقصت من الاثنين معا فكل جغرافيا يجب أن يسندها تاريخ لصناعة وجدان وطني مشترك.

السودان يحظى بتنوع تاريخي يمتد اليما يزيد عن ثمانية ألف عام مما يجعله منطقة فاعلة في حضارات العالم القديم ومساهم رئيسي في تطور الحضارة الإنسانية كما حظي السودان بتنوع معاصر داخل المليون ميل مربع التي قامت عليها الدولة الحديثة في الأول من يناير 1956 حينها ضمت تلك الدولة أكثر من (570 قبيلة) و(أكثر من 130 لغة) وهي لغات وليست (رطانة) كما يطلق عليها البعض وبعضه أقدم من اللغات الحية في عالم اليوم، وقد نبه السير روبرت جورج هاو آخر حاكم بريطاني للسودان(1947-1951) نبه لأهمية الوحدة في التنوع ففي خطابه الذي القاه في حفل الوداع المقام علي شرفه في الخرطوم قبل مغادرته السودان وعشية الاستقلال وقد تولي حكم السودان لمدة ثمانية أعوام وكأنه كان يقرا في صحف الغيب والمستقبل ولكنه كان يدرك محتوي السياسة الاستعمارية وجوهر سياسة فرق تسد التي استندت علي التنوع والانقسامات التي يحفل بها المجتمع السوداني والتي يمكن استخدامها سلبا وإيجابا ومن المؤكد انه كان علي دراية واضطلاع تام سيما الاحتقان بين شقي السودان شمالا وجنوبا، وقد ذكر في ذلك الحفل ان الحفل شعبي وان الخرطوم وام درمان والخرطوم بحري قلب السودان النابض وقال انكم أيها السودانيون شعوب مختلفة في شمال البلاد وجنوبها وفي غرب البلاد وشرقها وان السودانيين شعوب ذات أصول مختلفة وعادات متباينة وان التنوع يولد حيوية عظيمة  وقد يمثل عقبة كأداة اذا افضي الي نزاعات مدمرة، وان هذه الاختلافات قد تمثل نقطة قوة وقد تمثل في ذات الوقت نقطة ضعف ودعا الي تنمية شاملة للجميع وقد كان خطابه جرس انزار مبكر من شخص ملم بتفاصيل السودان وتضاريسه الاجتماعية وقد ذكر بانه قد قام بزيارة جميع انحاء السودان ماعدا منطقتي الناصر والبيبور ولذلك فهو شديد الإدراك لتعقيدات السودان ويمتلك عين فاحصة ومدربة في استغلال التناقضات لتثبيت الحكم الاستعماري ولقد لخص تجربته برؤية واضحة وسديدة وربما كان يدرك أن زعماء الحركة الوطنية لا يمتلكون هذه الرؤية ولن يهتموا بخطابه وملخص تجربته بقدر اهتمامهم بإكمال مراسم الوداع وتسلم الحكم والصراعات التي دارت حوله.

التنوع التاريخي والمعاصر شكل ملامح الشخصية السودانية المعاصرة وطبعها بطابع فريد ساهم في الحفاظ على الروابط الإنسانية بين مختلف الاقوام الوطنية رغم عجز الدولة واحتقان المجتمع وتصاعد خطاب الكراهية والنظرة الاثنية الضيقة هذه الايام.

 

1924 الأهمية والمكانة:

منذ نشأتها في 16 مايو 1983 اهتمت الحركة الشعبية تدريجيا ولامست بطرق مختلفة الإشارة الي أهمية ثورة 1924 فقد أطلق جون قرنق على إحدى كتائب الجيش الشعبي كتيبة علي عبد اللطيف ثم حاول أن ينشئ وكالة للأنباء من رئاسته المتحركة عن طريق الراحل على ميان الذي استشهد معه في رحلته الأخيرة، وكان يساعده في كل ما يتعلق بقضايا الاتصالات الإلكترونية وقد أطلق على تلك الوكالة علي عبد اللطيف.في القاهرة حينما التقينا بالدكتورة اليابانية يوشيكا كوريتا  صاحبة المساهمة العظيمة في تسليط الأضواء مرة اخري علي ثورة 1924 في بحثها الهام الذي صدر في كتيب من مركز الدراسات السودانية بعنوان علي عبد اللطيف و ثورة 1924 بحث في مصادر الثورة السودانية وقد بحثت في مفهوم الوطنية عند جماعة اللواء الأبيض وعن دور العناصر الزنجية المنبتة قبليا في المجتمع السوداني بين عشرينيات و اربعينيات القرن العشرين وبحثها الثالث عن حياة الزعيم علي عبد اللطيف وقد التقيناها و الدكتور منصور خالد وبرفقتها المؤرخ الراحل الدكتور محمد سعيد القدال في القاهرة وقد اهتم الدكتور جون قرنق بهذا اللقاء حينما حدثته عنه وطالب بالحصول علي بحثها باللغة الإنجليزية عن ثورة 1924 ولأن التاريخ يبتسم لصانعيه فإن المفارقة والحظ قد ابتسم لعلي عبداللطيف حتي أتت باحثة من اليابان البعيد للمساهمة في ارجاعه للذاكرة السودانية بإضافة ابعاد جديدة في مساهمته التاريخية مثلما حدث في نيويورك حينما التقي الكس هيلي بمالكوم اكس وقام بتسجيل مذكراته.

منذ نهاية الحرب بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة السودانية باتفاق نفاشا وحينما آتينا للخرطوم وفي محاولتنا المستميتة في التحول من حركة كفاح مسلح الي حركة مدنية ديمقراطية ٢٠٠٥ قمت بإدراج ثورة١٩٢٤كقضية رئيسية للخطاب السياسي للحركة الشعبية لتحرير السودان وصممت عدة ملصقات ولافتات تضم علي عبد اللطيف وجون قرنق وقد طلب مني الدكتور جون قرنق أن احضر له اللافتة الضخمة التي تضم

صورته مع علي عبد اللطيف وقد قمنا بتثبيتها في واجهه فندق الهيلتون الخرطوم الذي امضي فيه الدكتور جون قرنق الثلاث أسابيع الأخيرة من حياته في الخرطوم قبل رحلته التي شهدت تحطم طائرته ومقتله في حادث مقصود ومتعمد سوف تكشف عنه الأيام مهما طال الزمن،وقد حضر الدكتور جون قرنق الي خارج الفندق وألقى نظرة عليها وقد كان سعيدا بها.

وحينما قمنا بالاحتفاء بالذكري الاولي لتأبين الدكتور جون قرنق في استاد المريخ كانت ضيفة الشرف وسط عشرات الآلاف هي السيدة خديجة عبد الفضيل الماظ وحينما قمت بتدشين حملتي الانتخابية في المنافسة على رئاسة الجمهورية في عام 2010 اخترت منزل الزعيم علي عبد اللطيف وحاجة العازة محمد عبد الله بحي الموردة بأم درمان أن يكون مقرا لتدشين تلك الحملة وهي إشارة للصلات العميقة بين رؤية السودان الجديد و ثورة 1924 واعترافا وتمجيدا وأحياءً لذكري تلك الثورة العظيمة، وفي مدينة واو بجنوب السودان قمت مع إدارة المدينة وحاكمها مارك نبوج بترميم قبر الشهيد الزعيم عبيد حاج الأمين الذي استشهد ودفن في مدينة واو وقد كان معتقلا بها ووضعنا باقة زهور علي قبره وقد زرنا سجن واو الذي اعتقل به زعماء ثورة 1924 وطالبنا إدارة السجن بالاحتفاظ بكتاباتهم علي جدران السجن. وقد قامت الدكتورة اليابانية يوشيكا كوريتا بمرافقتي الي مدينة ود مدني وحضرت الندوة التي اقمناها كجزء من الحملة الانتخابية لرئاسة الجمهورية في المدينة وقد رافقنا كذلك الدكتور دومنيك أكج محمد، الصديق الحميم لدكتور جون قرنق وقد ربطتهما صلات تعود الي سنوات الدراسة الاولي في الولايات المتحدة الامريكية في نهاية الستينيات ولقد كان دومنيك أكج محمد اول ممثل للحركة الشعبية 1983 في الولايات المتحدة الامريكية ولقد اهتمت الدكتورة كوريتا طوال الرحلة من الخرطوم الي مدني بالنقاش مع زوجتي أوور دينق عن تجربتها في الحركة الشعبية.

ومنذ سبعة سنوات مضت كتبت مقالات داعيا للتحضير والاحتفاء بالذكري المئوية لثورة 1924وان ثورة 1924 ثورتان ثورة معلومة للجميع وهي ضد المستعمر وثورة اخري داخل تلك الثورة اتسمت بالطابع الثقافي والاجتماعي والسياسي وكانت ترياقا ضد العنصرية وضد ارث تجارة الرقيق وقيمها وثقافتها حينما اختار زعماء تلك الثورة علي عبد اللطيف زعيما لتنظيمهم وللثورة وهي إشارة قوية في صلب المشروع الوطني السوداني.

بعد ثورة ديسمبر دعوت أكثر من مرة وفي حوار مباشر مع قادة الجهاز التنفيذي والسياديقبل انقلاب ٢٥ أكتوبر للبدء في الاحتفاء بالذكري المئوية وإطلاق حملة واسعة شعبية ورسمية للاحتفاء بالثورة وبقادتها لأن ديسمبر 2018  هي امتداد لثورة 1924 في كثير من ملامحها وسنتطرق لبعض جوانبها في هذه المحاضرة التي قدمتها في منبر طيبة برس مع بعض الإضافات وإعادة ترتيب.

استدعاء ثورة 1924 هو استدعاء لعملية شاملة من النهوض عبر مشروع وطني جديد وربطه ببعد ومنظور تاريخي بغية الوصول لتقييم سليم وموضوعي لثورة 1924 وإزالة آثار السنين وعدوان النسيان والغبش والتغبيش والأهم عدوان البشر المقصود والمتعمد علي ثورة 1924وقادتها، فهذه الثورة قد تحدت التركيبة والبنية التقليدية للمجتمع السوداني واجترحت طريق جديد في اختيار قيادتها وفتحت كوة من الضوء للاحتفاء بالتنوع السوداني ووفرت فرصة ما للنساء وللمفاهيم الحديثة وتكوين المنظمات والعمل الجماهيري وأسست لتقاليد سياسية جديدة وتحدت الفكر الموروث للطائفية والقبلية وارث تجارة الرقيق وانفتحت علي مفاهيم المواطنة والسودانوية كمفاهيم كبيرة للبناء الوطني، وثورة 1924عبرت عن المفاهيم الحديثة للقوي الاجتماعية الجديدة الصاعدة التي نشأت في خضم مؤسسات الدولة وفي وسط المتعلمين والموظفين والمثقفين الذين يتطلعون الي بناء مجتمع حديث يقوم علي مفاهيم اقرب للمدنية والمواطنة، والعمل الجماهيري السلمي خرج من معطف ثورة 1924.

الأهمية والمكانة الحقيقية لثورة 1924تكمن في أنها حركة جماهيرية ذات مشروع للبناء الوطني ذو صلة بمفاهيم المواطنة أكثر من أي مشروع آخر في ذلك الوقت، وقد عملت على تأسيس مفاهيم السودانوية وقد رفض قادتها منذ البداية الإجابة على سؤال الانتماء القبلي وقد حكم الاستعمار البريطاني بالجلد على كل من رفض الإجابة على هذا السؤال والغريب ان أجهزة الدولة الوطنية لا تزال تسأل المواطنين نفس السؤال حتى يومنا هذا بعد أكثر من 60 عاما من خروج المستعمر من بلادنا انهم يشربون من نفس الكأس.ان التأكيد على الانتماء الوطني هو ما نحتاجه اليوم ولاتزال الأسئلة التي طرحتها ثورة 1924 حاضرة تحتاج لإجابة بعد مرور ما يقارب المئة عام على ثورة 1924.

نحن على مشارف مائة عام على قيام اول حركة جماهيرية حديثة، وياء لها من حركة شديدة التعقيدات السياسية والتنظيمية، فقد كان لها امتداد عضوي في المجتمعين المدني والعسكري فزعيمها مع آخرين  ينتمون الي السلك العسكري ويتحدثون بطلاقة سياسية ولديهم اتصالات عميقة بالمجتمع المدني وقد شكل المدنيون الاغلبية ففي الصورة الفوتوغرافية التاريخية التي ضمت قادتها، كما كان لها امتدادات في الريف والمدن وشملت افرع تنظيمها مدن هامة كالعاصمة وشندي وبورتسودان والأبيض ومدني وقد انتشرت خلاياها في مناطق عديدة وضمت بعض النساء والتجار والموظفين بالإضافة للعسكريين وقد ساعد ظهور القطاع الحديث وأجهزة الدولة في توسع دائرة انتشارها وبعض زعمائها كانوا يعملون في السكة حديد والبوسة والتلغراف.

التيار الوطني داخل القوات المسلحة المنحاز للحركة الجماهيرية ترجع جذوره لثورة 1924فبعد القضاء علي الثورة واعتقال بعض زعمائها واستشهاد بعضهم والحكم بالإعدام علي بعضهم تبقي عدد كبير من العسكريين من الأعضاء السريين لثورة 1924 داخل قوة دفاع السودان بعد حل الاورطة المصرية ودمج قواتها في قوة دفاع السودان بقرار مباشر من البريطانيين وبذلك انتهت ازدواجية الجيشين و لعل ازدواجية الجيشين قضية قديمة في بلادنا، ومعركة النهر الثانية التي قادها الملازم اول عبد الفضيل الماظ في يومي الخميس والجمعة الموافق 27/28 نوفمبر 1924 قد خلفت اثر عميق داخل وخارج قوة دفاع السودان وقد انتشرت الأغاني والاهازيج التي مجدت الماظ وزملائه الشهداء وثورة 1924.

 

العلاقة بين المدنيين والعسكريين:

هذه العلاقة التي تشهد تعقيدات هائلة بعد ثورة ديسمبر 2018 والتي لم تحسمها كل الثورات الماضية بإيجاد مشروع يستديم التحول المدني الديمقراطي ويجعل المؤسسة العسكرية تتطبع علاقتها مع المجتمع المدني والحكم المدني في اطار صيغة دستورية تجعل من الجيش جيش مهني تحت إدارة الدولة المدنية، والالتباس في العلاقة بين المدنيين والعسكريين ليست حالة سودانية بل حالة ذات امتدادات عالمية ففي اوروبا مثلا اخذ بلدان مثل اسبانيا والبرتقال واليونان عقود من العمل للوصول الي صيغة ديمقراطية تنهي سيطرة المؤسسة العسكرية علي الحكم المدني وتنهي الانقلابات مرة واحدة والي للابد، كذلك ما تم في أمريكا اللاتينية والجنوبية من مسيرة طويلة للنضال الشاق في انهاء الدكتاتوريات العسكرية وإقامة الحكم المدني مثل ما هو الحال في شيلي والارجنتين وكولومبيا والبرازيل والسلفادور والاكوادور وغيرها وكذلك تجارب الكثير من البلدان الاسيوية التي خضعت لحكومات شمولية لسنوات طويلة ولعل التجربة الكينية في العلاقة بين المدنيين و العسكريين و توطين الديمقراطية ذات نفع لبلادنا.

لإصلاح العلاقة بين المدنيين والعسكريين في السودان، فان ثورة 1924 نقطة هامة ومرجعية في قبول العسكريين الكبار لثورة 1924 بصيغة صحيحة للعلاقة بين المدنيين والعسكريين وبمشروع نهضوي أوسع،وإن الزعيم علي عبد اللطيف استحق مكانته كمفكر ومثقف عضوي ركل امتيازات السلطة بوصفه ضابطا في العشرينيات من القرن الماضي حينما كانت رتبة ضابط تعني الكثير من الامتيازات وبدلا عنها  بحث عن( مطالب الامة) في رسالته الشهيرة بل في افادة اللواء عبداللطيف الضوء للجنة التي شكلها الرئيس جعفر نميري وقد اخذت الروايات الشفهية لثوار 1924 وأصدرتها في عدة أجزاء 1974 تحت رئاسة الدكتور يوسف فضل والدكتور محمد إبراهيم أبو سليم،فقد ذكر اللواء المتقاعد عبداللطيف الضوء انه حينما التقي الملازم اول علي عبداللطيف في يوليو 1922 وقد كان برتبة ملازم ثاني وكان علي عبد اللطيف في الإيقاف الشديد فقد ذكر له الزعيم علي عبداللطيف ان يبلغ اليوزباشي احمد عقيل ومأمور مركز كوستي بانهم قد كونوا حزب باسم اللواء الأبيض برئاسته ومعه صالح عبدالقادر وعبيد حاج الأمين وحسن صالح المطبعجي وأعطاه رسالة لعدد من العسكريين وعلي الرغم من أن علي عبد اللطيف عسكري لكنه لم يحدثه عن تنظيم عسكري بل عن حزب مدني وهو العسكري في نفس الوقت مما يعني اهتمامات علي عبد اللطيف العميقة بإنشاء منظمة سياسية مدنية واشارته الواضحة للقادة المدنيين كقادة لذلك التنظيم مما يعني بان ثورة 1924 التي لعب فيها العسكريين دورا مميزا كان طابعها مدني والأكثر من ذلك انها قامت وأسست العمل الجماهيري السلمي كأول ثورة حديثة طبعت بميسمها ثورات السودان القادمة وعلي القادة العسكريين اليوم ان يأخذوا دروس الفداء والتضحية والإيثار من علي عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ وثابت عبدالرحيم وسليمان محمد وفضل المولي وزملائهم.

تواصل التأثير العميق لثورة 1924 علي المؤسسة العسكرية والذي ظهر واضحا في مظاهرة طلبة الكلية الحربية الذين لبسوا لبس خمسة وتظاهروا وطالبوا بإطلاق سرح الزعيم علي عبداللطيف وقاموا بزيارته في السجن وزيارة منزله والتقوا بزوجته حاجة العازة محمد عبدالله التي نصحتها والدتها كما ورد في احدي الروايات للخروج لمقابلة طلبة الكلية ومشاركتهم بالزغاريد ولقد كانت مشاركتها كأول مشاركة نسائية في نضالنا الحديث في العمل الجماهيري و لقد ضم تنظيم ثورة 1924 عدد من النساء بين صفوفه، وبعد وساطة كبار الزعماء آنذاك تخلي طلبة الكلية الحربية عن استعدادهم و تم تجريدهم و ايداعهم السجن  في وابور عائم ببحري عند منطقة الوابورات وخلدهم العبادي في قصيدة كانت تغني في حفلات الاعراس ضد رغبة الانجليز وتقول احد ابياتها (يا حليل الطير الرحل لو قريب في زحل التلامذة السكنو البحر) وهم تلاميذ الكلية الحربية وقد استفادت التنظيمات الوطنية التي انحازت للثورات السودانية في أكتوبر 1964 وابريل 1985 من ارث ثورة 1924 في العمل السلمي و انحياز العسكريين للثورات ، والدجي يشرب من ضوء النجيمات البعيدة كما قال تاج السر الحسن فقد شرب دجي اليوم من نجميات 1924.

 

الحاجة نفيسة سرور احمد إفادات هامة في مساهمة النساء والعلاقة مع العسكريين:

في افادتها امام لجنة البروفسور يوسف فضل الواردة ضمن الافادات المنشورة من تلك اللجنة في عام 1974 بمناسبة مرور(50) عاما علي ثورة 1924 وعلي الرغم من مضي وقت ليس بالقصير الا ان الحاجة نفيسة سرور احمد وزملائها من ثوار 1924 ادلوا بإفادات مثيرة للانتباه وعميقة المحتوي في فهم وتقييم ثورة 1924  كرائدة تأهيل نظري وعملي في رسم وفتح مجاري العمل الجماهيري المدني السلمي وتعتبر من وجهة نظري ثورة 1924 هي ثورة المقاومة المدنية الاولي وما اعقبها من ثورات وانتفاضات جماهيرية سيما في أكتوبر 1964و ابريل 1985 و ديسمبر 2018 تدين بالفضل لتلك الثورة رغم ان المؤرخين والمثقفين والقوي السياسية والذين تصدوا للعمل المدني المقاوم لم ينتبهوا او اغفلوا تأثير 1924 علي العمل السلمي المدني وحركة المقاومة الجماهيرية.

ربما أيضا يصح القول ان اول مقاومة عسكرية في داخل المدن وفي العاصمة تحديدا وفي المدن هي معركة النهر الثانية التي قادها الملازم اول عبد الفضيل الماظ في نوفمبر 1924.

قالت الحاجة نفيسة سرور ان ادريس عبد الحي جاءها مع جماعة  وكلفوها بخياطة العلم الذي ستتخذه جمعية اللواء الأبيض شعارا لها وطلبوا منها إجراءات احترازية حتي لا يعلم احد بذلك لدرجة ان والدتها قد تركت لها البيت واكملت المهمة عند منتصف الليل او عند الواحدة صباحا وذكرت انها كانت تجتمع مع حاجة العازة محمد عبدالله وبخيتة ام عبد الحميد خير السيد واخريات و انهم كانوا يسعون لقلب الحكومة وذكرت دور الطلبة ومجيئهم لاجتماع في بيت ادريس عبد الحي في الخرطوم بالقرب من منزل علي عبد اللطيف وهذا يدل علي آثر ثورة حركة 1924 في قطاع الطلاب وفي بدايات بلورة الوعي الوطني داخل حركة الطلبة الحديثة.

وذكرت في نفس الإفادة ان واحد من المخابرات أراد اعتقالها ولكن مدير المخابرات الإنجليزي رفض اعتقال النساء ولعلهم كان يدرك حساسية اعتقال النساء وذكرت في افادتها المهمة ان الشهيد ثابت عبدالرحيم الضابط في قوة دفاع السودان عضو التنظيم السري لحركة 1924 جاء من شندي ليقول لها حمدالله علي السلامة لأنها لم تعتقل مع علي عبداللطيف وهذا يعني ويؤكد علي الترابط و التنظيم والمعرفة بين أعضاء التنظيم المدنيين والعسكريين واهتمامهم ببعضهم البعض والدور المفتاحي الذي لعبه الزعيم علي عبداللطيف الذي يمثل الرابط بين المدنيين و العسكريين ووضوح رؤيته السياسية وطوبي لروح الزعيم علي عبد اللطيف بعد مئة عام لمئة عام آتية وطوبي للسودانوية التي تجمع ولا تفرق.

ذكرت الحاجة نفيسة ان المؤيدين لثورة 1924 كثر والخايفين كثر وان المظاهرة كان فيها كتير طلعن ومن المهم أيضا إدراك بصمات ثورة 1924 في التكوين الجنيني للحركة النسائية الحديثة وسبق للأستاذة الراحلة محاسن عبدالعال ان اجرت مقابلات مع حاجة العازة محمد عبد الله لمجلة (صوت المرأة) التي كان يصدرها الاتحاد النسائي بقيادة الرائدة فاطمة احمد إبراهيم، كل ذلك لم يكن بالمصادفة بل لأن لثورة 1924 دور في الصحوة المبكرة للحركة النسائية السودانية الحديثة،كما ان مشاركة  النساء قد تشكلت ملامحها في تلك الثورة وربما جاز القول إن ثورة 1924 اكثر عمقا من حركة مؤتمر الخرجين وإنها نشأت بالكامل خارج البني والتكوينات التقليدية وتميزت عزيمتها وتضحياتها بالجسارة والصلابة والجراءة في تكوين منظمة حديثة بديلة للقيادات والتكوينات التقليدية.

تذكرت الحاجة نفيسة بصعوبة بعض رفيقاتها مثل بتول عبدالنور وتحدثت عن حسن شريف وعبيد حاج الأمين وعنتر من نمرة 3 وحامد حسين ومزمل علي دينار، وذكرت انهم لم يكونوا خايفين وكتموا السر (وقالت الحق ما كنا بنخاف اصلوا السودانيين شجيعين من زمان ولكن هدفنا حكومتنا تتغير) وهو نفس هدف المقاومة اليوم، ان البذور التي تم زراعتها قبل مئة عام تنموا في الحقول نساء وطلاب وموظفين و تجار وعسكريين ومفاهيم وحداثة ووطنية وتنظيم ان حركة 1924 كانت حركة للاستنارة توسلت بمفاهيم حديثة ولم تلجأ للبني التقليدية و استخدمت خطابا جديدا في إرساء دعائم المقاومة ، انها كانت حركة للوطنيين والثوار ولم تكن حركة للمنبتين بل ان المنبتين الحقيقين هم الذين قاموا بالمحاولة البائسة و اليائسة لدفن ثورة 1924 و اهالة التراب علي تاريخها و تراثها الوطني المجيد و الفريد، و قد آن الأوان ولو بعد مئة عام ان نزيل العدوان الذي استمر علي مدي قرن كامل عن ثورة 1924، وان تدخل هذه الثورة المجيدة المجري الرئيسي للذاكرة الوطنية والاعتراف بفضلها وعبقريتها و تأثيرها غير المنكور وغير المذكور في حركة النضال الوطني الحديث.

في عبارات مؤثرة قالت الحاجة نفيسة سرور عن الشهيد ثابت عبد الرحيم قالت (ثابت وجماعتو كانوا بعملو اجتماعات في شندي وان ثابت حينما جاء للخرطوم جا يعني خلاص متسلح للموت عارف نفسو يعني، يعني هم التلاتة الانضريو سليمان وثابت وحسن فضل المولي).

ومعلوم ان شندي قد شهدت مظاهرات جماهيرية وتم اعتقال الشيخ الطيب بابكر والد الأستاذ التجاني الطيب بابكر المناضل المعروف. واذا أخذنا صعوبة الاتصال و العمل التنظيمي قبل مئة عام مقارنة بيومنا هذا لادركنا مدي تقدم وحيوية جماعة اللواء الأبيض، وشهادة الحاجة نفيسة أولا لأنها هي امرأة قامت بما قامت به قبل مئة عام و حديثها المؤثر يدخل شقاف القلب سيما حديثها عن تشتت حركة 1924 بعد هزيمتها و عن طلبة الكلية الحربية و إصرار النساء التابعات لثورة 1924علي زيارتهم في السجن وجمع الأشياء لهم حتي افرج عنهم وسافر بعضهم الي مصر، كل تلك إشارات مهمة عن الأثر السياسي و الاجتماعي و التنظيمي لثورة 1924، قد اكدت ان الاجتماعات السرية لم تكن تتسرب للمخابرات البريطانية، وهذا يعكس صميميه الانتماء داخل صفوف الحركة، و ذلك في وقت صعب وبدايات العمل التنظيمي والتأمين.

وقد ذكرت الحاجة نفيسة ان الاجتماعات لم تكن بحليفة او أداء قسم ولكن علي حسب الضمائر وهذا أيضا يلقي أضواء كاشفة على الحداثوية والاستنارة في تنظيم 1924، وقد اشتكت الحاجة نفيسة من تجاهل الحكومات الوطنية لثورة 1924.

ومن المهم التساؤل في يومنا هذا عن دوافع الصمت حيال ثورة 1924 هل هي سياسية ام عنصرية ام الاثنين معا ولماذا بذلت محاولات لتغييب ثورة 1924 من المجري الرئيسي للتاريخ الوطني ولماذا اكتفينا بالنظرة السطحية لها؟ ولماذا لم تدخل كراسات المدارس؟ ولماذا لم يتضمنها مشروعنا الوطني القديم او الجديد منذ عام 1956وحتى قبله؟. ان ثورة 1924 أعمق وأقرب الي مفاهيم المواطنة والتنوع السوداني من حركة مؤتمر الخرجين التي انتزعت الاستقلال من الاستعمار البريطاني.

ذكرت الحاجة نفيسة بعد خمسين عاما انها حينما تتذكر ثورة 1924 (تجينا صدمة وعشان ما كان في نتيجة ويعني الزعل شديد عشان الناس يئسوا كل حد راح في حالو يعني دا السبب الخلانا زعلنا) والي روح المناضلة الكبيرة الحاجة نفيسة نقول بعد ما يقارب المئة عام لا تحزني لم يمضي كل شخص في طريقه وان الطريق مازال سالكا وهنالك نتيجة وبصمات لما تم في 1924حتى مجيء ثورة ديسمبر.

ذكرت حاجة نفيسة ان السبب المباشر لثورة 1924 هو المطالبة بخروج الانجليز والتغيير، ان الانجليز قد خرجوا اما التغيير فهو العبد والمعبود والمعبد لابد منه ولو بعد مئة عام وأجيال اليوم تبعث بوافر الحب والشكر لجيل الحاجة نفيسة سرور وثوار 1924 وتردد اهازيجهم (يا دولة مالك لي عزالك زهجنا منك روحي في حالك – يا دولة مالك انت ظلومة زهجنا منك يادي حكومة) وهي زهجة (100) عام لم تنتهي ولم تفك بعد.

 

1924 السودانوية ترياق العنصرية وآفاق جديدة للبناء:

ان ثورة 1924 هي ثورة سودانوية لحما ودما والرابطة بين أعضائها وقادتها هي السودان أولا وأخيرا وتعد نقطة مرجعية من مراجع السودانوية. فقد جمعت تلك الثورة التنوع السوداني في طرح نظري اقرب الي المواطنة بلا تمييز من أي طرح آخر، فان قادتها الشهداء والراحلين الكبار من لدن علي عبد اللطيف، عبيد حاج الأمين، حسن صالح المطبعجي، صالح عبد القادر،حسن شريف،عبدالفضيل الماظ،ثابت عبد الرحيم، سليمان محمد،فضل المولي،الي سيد فرح،فومو اجم،مزمل علي دينار،مدثر البوشي، حسين إسماعيل المفتي،أبا يزيد احمد حسين الشلالي، سيد شحاتة، إبراهيم سعيد عثمان، عبدالعزيز عبد الحي، محمد منعم زايد، احمد عبد الفراج، عثمان عبد العظيم خليفة، قسم السيد خلف الله، باخريبة، علي السيد احمد رخا، علي ملاسي، عبد المولي يوسف مخير، زين العابدين عبد التام، جلاب بشير جلاب، الشيخ الطيب بابكر، محمود بخيت احمد، العازة محمد عبدالله، فوز، امينة بلال رزق، مصطفي بابكر الشيخ، الحاجة نفيسة سرور احمد، احمد سعيد محمد، حاج الشيخ عمر دفع الله الذي قاد اول مظاهرة في تاريخ السودان الحديث في ام درمان، عبدالله مبروك خليل، احمد سعيد محمد، موسي الله جابو، محمد صالح احمد، محمد صالح المك، يا لهذه المنظمة البديعة التي حوت التنوع السوداني قبل ما يقارب المائة عام بشكل لا تستطيعه بعض الأحزاب السياسية وبعض حركات الكفاح المسلح بعد مائة عام، كل هؤلاء السودانيين والسودانيات اختاروا علي عبد اللطيف زعيما لهم وقد يعجز البعض عن هذا الاختيار ولو بعد مائة عام من حدوثه، فإن التنوع السوداني سمه لا تخطئها العين المجردة عن الغرض، وقد قال لاحقا المبدع الكبير المتعدد جوانب الابداع إبراهيم العبادي متأثرا بفسيفساء 1924 قائلا(جعلي ودنقلاوي وشايقي ايه فأيداني غير خلقت خلاف خلت اخوي عاداني نبقي ولاد رجل يسري نبأنا على البعيد والداني) ان السودانوية والنيل ماركة مسجلة لثورة 1924.

1924 ثورتان في ثورة واحدة:

الذي ظهر من جبل الجليد ثورة 1924، انها ثورة ضد الاستعمار ولكن لثورة 1924 أوجه آخر فهي ثورة ضد العنصرية ودعوة من اجل السودانوية فقد نهضت على خلفية الاختلاف في جمعية الاتحاد السوداني وفي وإحدى الروايات المعتمدة فإن الخلاف قد حدث بين سليمان كشة وعلي عبداللطيف او الرواية الأخرى المعتمدة كذلك فإن الاختلاف كان حول بيان بمناسبة المولد النبوي الشريف والذي تم استهلاله بعبارة أيها الشعب العربي الكريم وقيل ان علي عبد اللطيف قد قال ان السودانيين ليس كلهم من العرب!.

ان اختيار علي عبد اللطيف قد تجاوز ارث تجارة الرقيق وقدم لها صفعة موجعة وهزمها هزيمة ماحقة في ذلك الوقت على الأقل،ولامس حق المواطنة المتساوية في وقت مبكر، فعلي عبداللطيف الذي ترجع جذوره الي قبيلة الدنيكا من والدته والي منطقة ليما في جبال النوبة من جهة الاب وهي منطقة من مناطق قبيلة الميري والتي ينحدر منها الشيخ علي الميراوي وهو مقاتل آخر ضد الاستعمار ويوسف كوة مكي الباحث عن المواطنة بلا تمييز. وتجدر الإشارة الي ان عبد الفضيل الماظ ترجع جذوره الي قبيلة النوير والدته من قبيلة المورو في غرب الاستوائية، وعبد اللطيف والماظ يشكلان رأس مال معنوي وانساني في الربط بين دولتي السودان حتى العودة الي اتحاد سوداني بين الدولتين.

ان ثورة 1924 قد استخدمت الوسائل الحديثة في توصيل رسالتها مثل البريد والبرق وخرجت من ثنائيات التكوين التقليدي للسودان بين عرب وأفارقه وغيرها من ثنائيات ووحدت الوجدان الوطني.

وقد عجزت شخصيات عديدة في استيعاب كنه الثورة وقواها الاجتماعية الحية والجديدة التي صعدت الي السياسة السودانية وهددت مصالح التكوينات التقليدية والطائفية مما دفع ببعض كبار الزعماء لكتابة مذكرة كرام المواطنين ضد ثورة 1924 بل في الشهادات التي قدمت للجنة الدكتور يوسف فضل، ورد في تلك الشهادات ان بعض الفئات تصدت بغضب للمظاهرات كما ان بعض كبار المثقفين مثل الأستاذ حسين شريف قد تساءل عمن هو علي عبد اللطيف الي أي القبائل ينتمي وشك في قدرة شخص مثله من القيام بثورة.

ان ثورة 1924 حملت ملامح جنينية لمشروع وطني جديد وتحدت التركيبة التقليدية للمجتمع آنذاك وقدمت رؤية وقيادة جديدة،وبعد هزيمة الثورة بذلت تعمية ايدولوجية و تغبيش حتي لا تدخل مفاهيم ثورة 1924 الي عمق الحياة السياسية وحتي ينطفئ وهج القضايا التي اثارتها بل كانت هناك محاولات لدمغها بانها حركة تابعة لمصر في محاولة لقبر جذورها العميقة في تربة الواقع السوداني ولأن علاقة ثورة 1924 كانت مع مصر ثورة 1919 انها كانت مع مصر الثورة لا مصر الدولة ومع ذلك فإنما ماتبقي من وهج قادتها الافذاذ سيما علي عبد اللطيف وعبدالفضيل الماظ كان عصي علي النسيان وقد جذب باحثة من اليابان البعيد لتنقب في سيرة هؤلاء الاوفياء الذين ما استبقوا شئيا في التضحية من اجل السودان.

ثورة 1924 كانت سباحة ضد المستعمر وضد المكونات التقليدية للمجتمع السوداني في آن معا وشكلت قيادة من القوي الاجتماعية الجديدة الصاعدة وقد اثارت الفزع في وسط المستعمر، وكانت ثورة ضد الكولنيالية في وسط تصاعد المد العالمي ضد الكولنيالية في جميع القارات وكانت كذلك ضد التكوينات التقليدية وبعد هزيمتها جرت محاولات لأسدال الستار على سيرتها وبريقها المضي والذي استطاع تجاوز الازدواجية الأثنية وقدم السودانوية بديلا لها وتجاوز ارث تجارة الرقيق وقد ظل في رمادها وميض نار لم ينطفئ بعد حتى بعد مئة عام.

1924 حلقة وصل بين الثورة المهدية والحركة الوطنية الحديثة:

من تلال الغبن التي خلفتها هزيمة الدولة الوطنية في كرري علي يد كتشنر في 1889 ومن رماد الهزيمة تخلق شعور وطني جديد علي يد المتعلمين والمثقفين والموظفين في أجهزة الدولة الحديثة التي أنشأها الاستعمار وبعد ربع قرن  من تلك الهزيمة استخلص الجيل الجديد دروس ما جري وبني رؤية جديدة في مقاومة الاستعمار وقد عبر المقدم احمد عبد الفراج في افادته الشفوية للجنة البروفسور يوسف فضل حسن وفي انتباهه قوية وملاحظة جديرة بالتأمل وهو يتحدث و يؤرخ لمشاركته في ثورة 1924 بان الغبن الذي تولد من هزيمة الدولة الوطنية قاد الي ثورة 1924 ومن المؤكد ان هناك عوامل اخري جديدة ولكن في اعتقادي إن 1924 تشكل حلقة اتصال وصلة بين الثورة المهدية و الحركة الوطنية الحديثة وانها اول حزب سياسي سوداني حديث مكتمل الأركان والقيادة والرؤية والمطالب السياسية الواضحة وإن علي عبد اللطيف زعيم الثورة قد استخدم عبارة حزب في رسالته لليوزباشي عقيل والتي نقلها الملازم عبد اللطيف الضوء ووردت في افادته لاحقا وقد ذكر الشهيد عبد الخالق محجوب في مرافعته امام محكمة النظام العسكري بقيادة الفريق عبود بأن ثورة 1924 قد خلفت تأثير عميق علي جيلهم وهم الذين آتوا بعد ربع قرن من هزيمة ثورة 1924 والتي بدورها قد شكلت وعيها من هزيمة الثورة المهدية قبل حوالي ربع قرن من هزيمة المهدية و التأثيرات السياسية سلسلة مترابطة وكل بذرة في الأرض تنمو شجرة زاهية ولو بعد حين.

ولم يقتصر تأثير 1924 على الفضاء السياسي فقط، بل ان مثقفين ومبدعين كبار كخليل فرح وعرفات محمد عبد الله والعبادي قد كان لثورة1924 تأثيرا على أبداعهم وقد أطلق عرفات محمد عبد الله علي اصدارته اسم مجلة الفجر ولاحقا أصدر عبد الخالق محجوب مجلة الفجر الجديد وصلا واتصالا مع فجر عرفات محمد عبد الله وهكذا يمضي التأثير المتبادل لمسيرة الحركة الوطنية.

وجدير بالتأمل إن علي عبد اللطيف في سنوات سجنه المديدة قد امضي سنوات شارفت السنوات التي أمضاها نيلسون مانديلا وكذلك الأمير عثمان ابوبكر دقنه الذي عاش في سجنه زمانيين، زمان الثورة المهدية وزمان ما بعد هزيمة الدولة الوطنية حتى فارق الحياة في سجن وادي حلفا ونقلت رفاته لاحقا الي شرق السودان وقد اخذ علي عبدالليف الراية من عثمان دقنه. وكتبت مقالة من قبل عن ثلاثية سجن عثمان دقنه وعلي عبد اللطيف ونيلسون مانديلا ولكم نحتاج ان نجسد بطولة الأمير عثمان دقنه وعلي عبد اللطيف كإحدى ايقونات الحركة الوطنية الحديثة وعلينا كما قال الأمير عثمان دقنه ان لا نبيع بالرخيص (يا ود على انا انقبضت علك ما تكون بعتني رخيص).

ومحاولات البعض اخراج ثورة 1924 من سكة التاريخ الوطني وبانها احدي محطاته الهامة  ناتج في كثير من جوانبه من التحيزات الاثنية وجراءة ثوار 24 في اختيار قيادتهم علي أساس السوداناوية وضد ارث تجارة الرقيق وفي مقاومة للفكر والبنية التقليدية السائدة في ذلك الوقت وبهذا الاختيار فإن ثوار 1924 قد فتحوا آفاقا جديدة للبناء الوطني وبذل البعض محاولات مستميتة في تغبية الاتر وتجاوز الجديد الذي اجترحته ثورة 1924 والحاقه بالقضايا المسكوت عنها حتي لا تبرز المعاني العميقة لثورة 1924 وتكون نقطة مرجعية في قضايا البناء الوطني الحديث والحقيقة إن ما حدث في ثورة 1924 من ضمن قضايا اخري يستدعي إعادة كتابة تاريخ السودان وقد آن الاوان لتأخذ ثورة 24 مكانها الحقيقي في المجري الحقيقي للتاريخ السوداني الحديث ليس انصافا لقادتها واسهاماتها الجليلة وحسب، لكن ايضا لبناء مستقبل وضاء لشعبنا.

ثورة 1924 والعمل المدني السلمي الجماهيري:

ثورة 1924 جماهير وعساكر ومدنيين وعسكر ولكنهم عسكر في سياق مغاير فقد أدركوا في وقت مبكر أهمية الجماهير وعملوا على بناء جسور مع الحركة الجماهيرية الحديثة وضمت الصورة الشهيرة والانيقة لقادة الثورة مدنيين كبار وزعيمهم عسكري ببدلة مدنية انيقة وهندام حداثوي يتماشى مع فكر الثورة والقوي الاجتماعية الصاعدة التي تمثلها.

انفتاح الزعيم علي عبد اللطيف المبكر علي العمل السلمي المدني والأهمية التي اولاها للعمل مع المدنيين وهو انسان ذو خلفية عسكرية تستحق امعان النظر لا سيما ان هذه الصلة قد أتت ثمارها بتوسع الحركة الجماهيرية واستخدام أدوات جديدة في التنظيم الحديث وفي التظاهر وفي المقاومة المدنية وربما ترجع نشأة الانسان المدني المقاوم التي تطورت لاحقا في معارك الاستقلال وما بعده الي ثورة 1924 لا سيما أن الحراك الجماهيري في تلك الثورة قد انتظم في مدن ومناطق جغرافية لا تزال فاعلة في كل الثورات التي تلتها مثل ما حدث في الخرطوم وام درمان والأبيض وبورتسودان وشندي ومدني.

إن بداية العمل المدني الحديث ونشأة حركة ذات امتدادات في الريف والمدنوذات قيادة متنوعة تدين بالفضل لثورة 1924 ، وقد شمل التنوع السوداني قادة الحركة المدنيين والعسكريين. إن الثورات التي اسقطت الشمولية في أكتوبر 1964 وابريل 1985 وديسمبر 2018  استخدمت الشعار والبيان والصورة كأحد ادوات العمل الأدوات والدعاية السياسية.

في الندوة التي أقيمت احتفاءً بمرور 50 عاما على ثورة 1924 في عام 1974 ذكر العقيد محجوب عبد الله عبد السيد ان الاعلان الرسمي عن جمعية اللواء الأبيض قد تم في 15 مايو 1924 ومن المعلوم ان جمعية اللواء الأبيض قد تكونت في عام 1923 علي اثر خروج علي عبد الليف و آخرين من جمعية الاتحاد السوداني وهي اول منظمة حديثة سبقت اللواء الأبيض ولكن اللواء الأبيض تميزت برسم خطوط فاصلة كمنظمة كفاحية وثورية قادرة علي تقديم التضحيات و ذات مطالب سياسية واضحة ومصادمة للاستعمار وقد حوكم قائدها علي عبد اللطيف مرتين وآخرها لمدة عشرة سنوات بالسجن ونقل علي اثرها الي سجن مدينة واو حيث استشهد عبيد حاج الأمين في ذلك السجن وامتد اعتقال علي عبد اللطيف من واو الي القاهرة حتي رحيله في عام 1948  في معتقله و هي فترة توازي مدة سجن الزعيم نلسون مانديلا تقريبا كما ذكرنا من قبل، وعلي عبد اللطيف هو أبو الدعوة للسودانوية في تاريخنا الحديث ومؤسس حركة المقاومة المدنية الحديثة مع زملائه قادة ثورة 1924 .

 

1924 ترياق ضد العنصرية:

في ظل عجز الدولة الحالي واحتقان المجتمع وتصاعد خطاب الكراهية فإن بعض الدواء الجيد يأتي من التاريخ ومن الحاضر الذي شكلته ثورة ديسمبر. إن ثورة 1924 تشكل وصفة ممتازة للاحتفاء بالتنوع السوداني والقبول بالآخر وحق الاخرين في أن يكونوا آخرين.

إن قضية المواطنة بلا تمييز هي قضية السودان الأولى المتصلة بالديمقراطية والعدالة والتنمية والثقافة وبالوصول الي مشروع وطني جديد يحقق استدامة الحكم المدني وهيكلة الدولة والتوزيع العادل للثروة والعدالة الاجتماعية واحترام التنوع الثقافي، وهذه القضايا سيما قضية المواطنة والوحدة في التنوع والقبول ببعضنا البعض ونبذ العنصرية والتحيزات الاثنية، فإن لثورة 1924 والتشكيل البديع لقيادتها التي ضمت التنوع السوداني لا تزال بذرة صالحة من بذور المشروع الوطني الجديد.

ان ثورة 1924 نقطة مرجعية في النضال المستمر من اجل المواطنة بلا تمييز وفي البحث عن مجتمع لا عنصري وفي تبديل خطاب الكراهية بخطاب المحبة وعدم تبديل الضحايا بضحايا آخرين وفي ذات الوقت حق الآخرين في ان يكونوا آخرين والوصول الي سودان يسع الجميع، ان ثورة 1924 من وجهة نظري تمثل التشكل الجنيني للبحث عن مشروع للسودان الجديد متكامل مع مكافحة الاستعمار الكولنيالي ان تصميم ملصقات ولافتات في عام 2005 تحمل صور الزعيمين علي عبداللطيف وجون قرنق فذلك  الترابط العضوي بين (ثورة 1924 ) و (ثورة السودان الجديد) لا تخطئها العين علي الرغم مما لحق برؤية السودان الجديد من تشوهات تجعل من اعمال التفكير النقدي لرد الاعتبار لتلك الرؤية العظيمة، و نحو ميلاد ثانٍ لها و ليتزامن ذلك مع الدعوة لوقف العدوان والتناسي والتجاهل لثورة 1924 ولنهتف من وادي النسيان وندعو جميع السودانيات والسودانيين و الديسمبريات والديسمبريين للاحتفاء الواسع بالذكري المئوية لتلك الثورة العظيمة في السودان وفي دولة جنوب السودان.

أخيرا ان ثورة 1924 ورؤية السودان الجديد هي رأسمال معنوي للوصول لاتحاد سوداني بين دولتي السودان برضا وتوافق شعوب الدولتين والبحث عن مشروع واسع للتكامل الإقليمي افريقيا وعربيا في ظل اضطرابات ومهددات واسعة يشهدها عالمنا الحديث سيما البلدان التي في مثل حالتنا والتي تدافع عن سيادتها ومواردها دون ان تنعزل عن العالم الفسيح.