حكايتي مع حمدنا الله (2)
عادل الباز
1
تهب الأمكنة للناس مشاعر وأحاسيس شتى، للعاشقين عبيرها وللأدباء سحرها وللأثريين حقيقتها كما تهب للأنثربولجيين كنوز معارفها المستودعة في كل شيء، شعرها، قصصها، حكاياتها البسيطة، وإلفة ناسها. لحكمة يعلمها الله وحده وهبت الأمكنة حمدنا الله كل تلك الأحاسيس وأكثر، فهو عاشق للأمكنة التي عاش فيها وأمضى عمرا في دهاليزها من عديد البشاقرة إلى القاهرة إلى تشاد إلى الخرطوم وأم درمان، إلى الطائف شارع 19، من المعهد العلمي إلى الأزهر إلى وزارة الشئون الدينية ثم واخيرا جامعة افريقيا العالمية، وهبته تلك الأمكنة أجمل ما فيها، عبيرها وحكمتها وكنوز معارفها وقصصها وحكاياتها الأثيرة. وللحقيقة ما فتئ هو يرد جمائلاها في كتاباته وأحاديثه وذكرياته، وكما تركت بصماتها في روحه، وضع هو بصمته في كل مكان حل فيه. بادلها وفاءً بوفاء.
2
شقي جسد حمدنا الله المنهك بالترحال من الخرطوم لعديد البشاقرة، القرية الوادعة شمال الجزيرة، تعلقت روحه بتلك البقعة التي شهدت ميلاده وصباه في خواتيم أربعينيات القرن الماضي، كان وفياً للناس الذين هم أهله وعشيرته. ما رأيت مثقفا مرتبطا بأرضه وأهله مثل حمدنا الله. كثير من المثقفين ما أن يغادر قريته أو وطنه، يغادره الوطن وينسلخ عن جلده ويترك كل شيء خلفه، الأماكن والناس والذكريات والأهل، ويسعى لتشييد عالمه في المدن القصية منبت الجذور.. وهيهات.
كلف وفاء حمدنا الله لأهله ما لا يطيقه بشر. كنت دائم التضجر من تنقله ورحلاته المستمرة بين الخرطوم والبشاقرة إذ كثيرا ما تحرمنا من لقائه. ليس هناك حدث سعيد بالبشاقرة لم يشهده، وليس البشاقرة وحدها بل كل القرى والنجوع المحيطة بها، وليس هناك دافنة في تلك الأنحاء لم يلحق بها سريعا…. كانت أعراس ومآتم، هل ذكرت كتاب (أعراس ومآتم) …. أتذكرون الأمين علي مدني، الثائر والناقد والشاعر..
يـا غزالاً رأيـتهُ يـــــــــــــــومَ أمسِ
يحتسـي الكأسَ رافلاً فـي الــــــــــدِّمَقْسِ
يـتهـادى فـي مشـيِهِ كقطـــــــــــــــاةٍ
أو كـمشـي العـروسِ لـــــــــــــيلةَ عُرس
أنـا عفتُ الـمدامَ مـنذ زمـــــــــــــانٍ
فشـرابُ الرُّضـاب للجــــــــــــــرح يَأْسِي
من باب الاستطراد الذي كان يعشقه، يقول حمدنا الله في كتاباته إن الأمين علي مدني من نفس أسرته، فجدته طيبة بت أحمد ودحاج مدني شقيقة الأمين علي مدني، ويعتبره أول مفكر سوداني غير تقليدي. طبعاً لا أستطيع الآن مغالطته وقد فعلت من قبل، فأعطاني دروسا في الأنساب ومحاضرة في المدارس الفكرية… وشكك في نسب السناهير..).
3
كنت دائما أشن هجوما على من أسميهم أصنام الثقافة السودانية (عشري الصديق والعشرة الكرام) بغرض استفزازه ليخرج جواهره ويفيض علينا بعلمه، فيفعل بعد أن يصفني بالظالم والجاهل، وكنت أضحك مستمتعا بمزيد من المعلومات والحكايات التي تتدفق من ذاكرته المدهشة والحاضرة دوما. أذكر ذات مرة حرض عليّ صديقه الشاعر خالد فتح الرحمن، وأظنه قد دفع له ليهجوني ففعل كعادة الشعراء، لكني سارعت بشراء القصيدة من خالد فلم تنشر في ديوانيه (قصائد ليست للتصفيق وغير هذا البريق لك). كتب خالد رائعته في رثاء حمدنا الله في محاولة كما قال لمغافلة الحزن الكئيب
فكم قَولةٍ مِنكَ استطالَ دويُّها
على إثرِها الدنيا تقومُ وتقعُدُ
وكم فكرةٍ بالأمسِ خُضتَ بها اللظى
لها كُلُّ يومٍ وامضٌ يتجَدَّدُ
نوادرُ كُنَّا نستَظِلُّ بدَوْحِها
إذا اجتاحَنا وَقدُ الهجيرِ المصَهَّدُ
تُواعِدُنا: عندَ المساءِ لِقاؤنا
فتَبسِمُ أسمارٌ و يُورِقُ مَوعِدُ
فيا أُنسَهُ الرَّاقي أَعِد ذلك النَّدَى
على ليلِنا.. فاللُّيلُ بالحُزنِ مُجهَدُ
4
نعود من الاستطراد لمسارنا، قلت ليس هناك مناسبة، عرساً أو دافنه بـ(البشاقرة وما حولها) لم يلحق بها، فالمناسبات تمنحه فرص للقاء الأهل والأصدقاء، وإظهار الوفاء للأمكنة والناس. وبغير المناسبات،حين تضيق روحه بالخرطوم يسرع إلى فضاء تنفسه الطبيعي فيعود بألقه القديم المتجدد. كان فضاء الأمكنة هو الوقود الحيوي لأفكاره ولكنه يفعل ذلك من باب الوفاء للأمكنة والناس، الوفاء الذي شكّل جوهر انسانيته ومنح روحه طلاقتها وهو الذي وسم كل حركاته وسكناته وظلل كل حياته، كما سنرى.