نقض مركزيّة المركز: حول حوار لجان المقاومة
مأمون التلب
تابعتُ حواراً ديموقراطيّاً حرَّاً، حقّاً، خلال الأسبوعين الماضيين، بين لجان المقاومة في ما يلي توحيدها تحت ميثاقٍ واحد. في حياتي التي تجاوزتُ نصفها لم أشهد أمراً مماثلاً، إذ يُثيرُ وجود حوارٍ كهذا أملاً منسيّاً في الوعي البشريّ المتصاعد رغم عدميّة المستقبل في جميع أنحاء العالم.
إن أردنا أن نسمّي ما يجري من حوارٍ فهو: “نقض مركزيّة المركز”*، ومن المثير أن يخرج صوت “المركزيّة السودانيّة” شفافاً من منابعه عبر بيانات “لجان أحياء بحري” و”لجان مقاومة أمدرمان القديمة”، وأن يأتي نقدها من جهة “برّي”، بل ويسبقهم خطيب صلاة العيد باعتصام أمدرمان القديمة ذاتها، وتغرق، في خضمّ الحوارات المستقبليّة والبنّاءة، تهديدات العسكريين والساسة الموالين لهم بـ”انجراف البلاد نحو حربٍ أهليّة”. هذه التهديدات، مرفقةً مع مخاوف “النظام العالمي”، عمليّاً وبراغماتيّاً، من حدوثها؛ تُشكّل المخلب المشترك ليأس العالم من حدوث تغييرٍ وشيكٍ حقيقي في معادلاته المبنيّة على الاستماته لأجل “الاستقرار” في عالمٍ تدمَّرت موازينه، وانفلتت مكابحه.
تابعتُ حواراً حُرّاً حقّاً، شَتَرَ الإيقاع الرتيب لعمليّات إعادة التاريخ المؤلمة، وبشَّر بأن البشر ربما لا يزالون بالنّار يتعلّمون؛ الكتابة والخطابة في المقدّمة، الحجّة أمام الحجّة، ثمّ هنالك الحلم بالوحدة الذي يُوضع سقفاً ظليلاً لما يحتدم أسفله من آراءٍ مُعتبرة، تُؤكّد بروز الوعي الذي تُنتجه التجربة. قال الشاعر الأصمعي باشري معلقاً على الحوار: (دي السياسة الدايرنها.. إنو الصراع يكون من داخل اللغة)**.
تُعتبر كلمات -تافهة حسب عالمنا- مثل الحلم والأمل والخيال والمثاليّة والشعر.. إلخ؛ تُعتَبر خالية من أيّ معنى، وهذا صحيح، فـ”السحر قد هَجَر عالمنا منذ أمدٍ بعيد”، حتَّى أنّ تمثّلاته في أفعال مقاومة هذه اللجان، بل وحدوثه أمام العين، يدفع للفرح العابر به في عيون المؤمنين يديمومة عالم الماضي، وربما يستطيع انتزاع دمعةٍ حيّة، ولكنه يندثر أمام أذرع الأخطبوط العالمي، متعدد الرؤوس، والذي يريد أن يؤكّد لنا أن عالم العبيد سيستمر، الأمر الذي لا تدعمه أمثولة واحدة من واقع أي أمةٍ أو بلدٍ يُعمّر هذا الخراب. لقد بدأ النظام العالمي بالانهيار منذ أمدٍ بعيد، وما لجان المقاومة هذه إلا شامة عزيزة وجميلة تُكثّف ما كان يسمّى بإرادة الإنسان، وشعوبه.
ــــــــــــــــــــ
هوامش:
* من اسم كتاب بذات بعنوان.
** في ما تبقَّى من حديث الأصمعي: (شتان ما بين صراع الانقلاب، وصراع المقاومة، ففي الوقت الذي يقدم الانقلابيون فيه خطابهم لحماية طموحهم، بالعنصرية، والحرب، والسرقة والقتل؛ كانت صراع الضفة الأخرى من لجان المقاومة حول وحدة ميثاق سلطة الشعب من داخل اللغة، في التفريق بين الدمج، والتعديل، والإضافة، والحذف، ومن داخل المعنى واللفظ، من عمق الاستعارات، والتأويل).