حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (2 -19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
حين تمَّ إلغاء الرِّق في الأمم التي كانت تمارسه كسلع رائجة وتجارة رابحة، سنَّت هذه الأمم القوانين التي تمنع استخدام عبارات مسيئة تعكس أوضاعهم الاسترقاقيَّة السابقة، ومجتمعاتهم التعيسة التي أُجبروا على العيش فيها. ففي بريطانيا – على سبيل المثال لا حصريَّاً – يجرم القانون الإساءة إلى الأفارقة بعبارات الزنجي العبد، بالمعنى الحقير لكلمة الزنجي، أو في كاريكاتير كون الذي يستظهر الرجل الأسود بأنَّه كسول وجاهل، وله شيء من الانغماس الذاتي في الشهوات كثير. أما كاريكاتير بروت فإنَّه ليجسِّده بأنَّه غضوب، وذو جسد ضخم، ويملك من السلوك ما هو حيواني، وقابل لتعمُّد العنف. وفي العام 1963م ألغى المجلس الأمريكي من المواقع الجغرافيَّة كل أسماء الأمكنة التي تحمل الأسماء العنصريَّة. وفي العام 1974م تمَّ إلغاء كل الإيحاءات العنصريَّة ضد الشعب الياباني. وفي أيلول (سبتمبر) 2020م قدَّم عضوا الكونغرس الأمريكي ديب هلاند (ممثلة الحزب الديمقراطي في ولاية نيومكسيكو)، وآل قرين (ممثل الحزب الديمقراطي في ولاية تكساس) مشروع قانون للكونغرس لإسراع عمليَّة تغيير الأسماء المسيئة في الأراضي العامة. فعلى سبيل المثال تمَّ حذف كلمة زنجي من وادي إدوارد الزنجي، وتمَّت إعادة تسميته وادي إدوارد. وفي ولاية يوتاه أقرَّ المجلس تغيير اسم وادي بيل (وليام) الزنجي إلى وادي قراندستاف العام 2017م، ووليام قراندستاف كان من الخلاسيين في المنطقة التي أخذ منه الوادي الاسم. وما زال المواطنون يفتخرون بالشخص الذي أخذ الوادي اسمه في بادئ الأمر، ولكن بطريقة لا تسيء إليه بشيء.
تجدر الإشارة إلى أنَّ بحثاً أُجري العام 2015م بواسطة شركة فوكاتيف لتعدين المعلومات قد وجد أنَّ 1,441 اسماً من أسماء المناطق الفيديراليَّة المعروفة يحتوي على الأقل على واحدٍ من العبارات العنصريَّة في كل ولاية، وأكثر الحالات قد وُجِدت في الولايات الغربيَّة والجنوبيَّة. وتوصَّلت فوكاتيف في بحثها إلى أنَّ 558 منطقة في أرجاء الولايات المتَّحدة تحمل أسماءً مسيئة للشعب الأسود، منها الزنجي العبد، والعم توم (الشخصيَّة المحوريَّة في الرواية الشهيرة للكاتبة هارييت ستو، والتي تحمل هذا الاسم كعنوان)، وجيم كرو. كذلك عثرت فوكاتيف على أسماء القصد منها احتقار الأمريكيين من أصول آسيويَّة، وإنَّ أسوأ عبارة تستخدم لاحتقار نسائهم من ذوات الأصول الهنديَّة الحمراء عبارة (Squaw)، واليهودي القذر، والروسي الخنزير.
وفي جمهوريَّة جنوب إفريقيا بعد إلغاء سياسة الفصل العنصري، التي كانت تُعرف ب”الأبارتهيد” (Apartheid)، تمَّ حظر ألفاظ عنصريَّة كان يستخدمها البيض في ازدراء واحتقار السُّود؛ ومن هذه الألفاظ عبارة “كافر”، وهي مأخوذة من العربيَّة، وتعود أصولها إلى العرب الذين كانوا يغيرون على السواحل الشرقيَّة للقارة الإفريقيَّة والتوغل إلى مداخيل القارة لاصطياد الرَّقيق. وبما أنَّ هؤلاء الأرقاء كانوا غير مسلمين كان العرب يزدرونهم وينعتونهم بالكفر، وكذلك أفتت لهم الديانة الإسلاميَّة باسترقاقهم. ومن بعد العرب حلَّ محلهم البرتغاليُّون في الاسترقاق في سواحل إفريقيا الشرقيَّة والغربيَّة، وتبنوا هذه اللفظة، ومن بعدهم جاء المزارعون الهولنديُّون (البوير)، واستوطنوا في جنوب إفريقيا، وشرعوا في استخدام الكلمة للانتقاص من قيمة الشخص الأسود، ثمَّ أدخلوها في قاموس لغتهم التي استحدثوها من الهولنديَّة القديمة، أي أفريكانا.
لا سبيل إلى الشك في أنَّ الثورة الصناعيَّة بالكاد لم تكن لتنجح لولا الأرباح الطائلة التي أغدقتها العمالة غير مدفوعة الثمن التي كان مصدرها العمال الأرقاء، ولم يستطع أحدٌ أن يجادل بغير ذلك تجاه هذه الأطروحة. عند استقراء علية السبَّب والسببيَّة في فلسفة التاريخ نجد أنَّ الماضي يمكن أن يشكِّل حضوراً ماثلاً في أحداث اليوم. مصداقاً لما نقول قدَّم البروفيسور المتخصِّص في التاريخ ديفيد أولوسوقا شهادة خبير في المحكمة التي كان يتحاكم فيها أربعة أشخاص بتهمة التخريب الإجرامي، وذلك بعد أن نزعوا التمثال البرونزي لتاجر الرقيق إدوارد كولستون، الذي نُصب في القرن السابع عشر الميلادي. جرى اقتلاع النُّصب التذكاري إيَّاه في أعقاب تظاهرات “حياة السُّود تهمُّ”، وألقوه في النهر وسط مدينة بريستول البريطانيَّة في 7 حزيران (يونيو) 2020م. إذ حدث ما حدث إبَّان التظاهرات التي عمَّت أرجاء العالم احتجاجاً على مقتل المواطن الأمريكي من أصول إفريقيَّة جورج فلويد في مدينة مينيابلس في ولاية مينيسوتا من قبل رجل شرطة أبيض (ديريك شوفين) في 25 أيار (مايو) 2020م.
ففي شهادته للمحكمة الموقَّرة ذكر البروفيسور أولوسوقا أنَّ قضيَّة الرِّق أمر حسَّاس بالنسبة للشعب الكاريبي من أصول إفريقيَّة. فقد كان الرِّق عصرذاك يمثِّل 20% من تجارة مدينة بريستول، والتي نقلت 500,000 شخصاً أكثر من سكانها الحاليين. كما أوضح أولوسوقا كيف كان يتمُّ اختطاف الفتيان والفتيات من القرى الإفريقيَّة، وفي الأثناء ذاتها تتم مذبحة الأطفال والعجائز. كان يتم فصد العبيد بواسطة حديد ساخن قبل تقييدهم وحشرهم في سفن ذات مساحات ضيِّقة، ومن ثمَّ يتم نقلهم بواسطة هذه السفن التي كانت تمخر عُباب البحر إلى الجزر الكاريبيَّة. كان لمالك العبيد الحق المطلق في تعذيب وقتل عبده عند اقتراف أتفه الهفوات، أو من يحاول التمرُّد، ومن ثمَّ يتمُّ تثبيت جثمانه بالمسامير على أعمدة خشبيَّة حول المزارع كتحذير للآخرين الذين قد تسوِّل لهم أنفسهم بالمغامرة أسوة بما فعل العبد الضحية. ثمَّ مضى البروفيسور أولوسوقا متحدِّثاً عما أسمَّاه عمليَّة سعي كولستون إلى تبييض سمعته خلال حياته، ووهب كميَّات ضخمة من أمواله إلى الأعمال الخيريَّة في مدينة بريستول. أما هيئة الاتهام فقد زعمت أنَّ محاكمة كولستون ليست هي القضيَّة، لكن هيئة الدفاع رأت أنَّ تاريخه يمثِّل عنصراً هاماً في إقرار القضيَّة قيد المحاكمة.
في نهاية الأمر، أقرَّ المتهمون الأربعة بفعلتهم، لكنهم أنكروا اتِّهامهم بالقيام بعمل تخريبي، زاعمين أنَّ التمثال نفسه كان يمثِّل جريمة الكراهيَّة لشعب مدينة بريستول. وقد اختاروا طوعاً أن تتم محاكمتهم في المحكمة الجنائيَّة بواسطة المحلِّفين في بريستول، حيث كان بالإمكان محاكمتهم في المحكمة الجزئيَّة. وبعد أسبوعين من جلسات المحكمة أمام إصرار هيئة الاتهام بأنَّ القضيَّة ببساطة تتعلَّق بالتخريب الإجرامي، تمَّ إطلاق سراحهم كلهم أجمعين أكتعين بالبراءة. الجدير بالذكر أنَّ المحكمة قد استمعت إلى حملات سابقة في سبيل إزالة هذا النُّصب التذكاري، ويعود تاريخ الحملة إلى العشرينيَّات من القرن المنصرم، وذلك لأنَّ كولستون كان فعولاً في استرقاق وترحيل أكثر من 800,000 إفريقيَّاً – بما فيهم 10,000 طفلاً – حيث لقي 19,000 حتفهم على متن السفن التي كانت تمخر عُباب المحيط الأطلسي إلى البحر الكاريبي والأميركتين.
فلا مراء في أنَّ المجتمعات القديمة والحديثة ظلَّت تعامل السُّود ليس كبشر سواء يستحقون كل الحقوق الإنسانيَّة، ولكن كأدوات ووسائل لإسعاد ورفاهيَّة الإنسان الأبيض، وتمتُّعه بالحياة. إذ لم يقتصر هذا السلوك الاستغلالي ضد السُّود في المجتمعات الغربيَّة فحسب، بل كان الأمر سائداً عند الأمم الشرقيَّة كذلك، وفي كلتا الحالتين كان الأفارقة وقودها. لعلَّ هناك قائلاً من يقول إنَّ الطبيعة لتصنع الضعفاء والأقوياء، وهي تمنح كل واحد مقداراً ما من الذكاء، لكن لا ينبغي أن يختلط علينا الأمر حيال معنى تلك الاختلافات، وبالتالي مقاصد الطبيعة، فهي لم تبعث إلى هذا العالم السفلي بالنَّاس الأقوى والأشد يقظة كأنَّما هم قطَّاع طرق مسلَّحون في غابة ليتولوا ترويع الضعفاء. ويظهر من استقراء عصر الرِّق في ذلك الحين من الزمان أنَّه ارتبط بأربعة عوامل رئيسة متشابكة مع بعضها بعضاً، ومؤثِّرة وذات صلة بطبائع الأحوال، وهي: الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد وعامل الاجتماع البشري، وما يتفرَّع عنه من مباحث العصبيَّة والدولة، وعامل الأيديولوجيَّة والدِّين وما يتفرَّع عنه من مؤثِّرات في توجيه أمور المجتمع والدولة. إذ يقول ديورانت: “تتألف الدولة من الطبائع البشريَّة بداخلها، وتستمد الدولة شكلها وأحوالها من مواطنيها، فهي صورة طبق الأصل لهم، لذلك يجب أن نتوقع إيجاد دولة أفضل، حتى يكون لدينا مواطنون أفاضل، فستذهب كل محاولات التغيير عبثاً ما لم يتغيَّر المواطن الفرد، “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد: 13/11).
إزاء ذلك نهجت الدول الأوروبيَّة، بعد انقضاء الحلم القروسطي والجمهوريَّة المسيحيَّة وبزوغ الدولة الحديثة نهج التسامح الدِّيني، وتجسَّد ذلك النهج في استقدام السلطة السياديَّة مقرَّاً للسلطة السياسيَّة. وفي أمر هذا التسامح كان نيكولا دو كوز قد تعرَّض لمشكلة التسامح بطريقة توضيحيَّة في مؤلِّفه “سلام الإيمان”، وعبَّر توماس مور في كتابه “يوتوبيا” العام 1516م عن أهميَّة تلك الفضيلة، وكتب جون لوك في نهاية القرن السابع عشر رسائله حول التسامح، وأعاد فهرسة العديد من النصوص من القرن السابق، مثل كتاب بيك دو ميراندول “الخلاصات”، وتفحَّص تلك المشكلة الشائكة. وتوافق الكتَّاب كافة في ذلك العصر على أن يعثروا في الكتب المقدَّسة على ملاحظات عديدة في مصلحة التسامح، تعارض الإرغام في قضيَّة الإيمان.
علي أيَّة حال، إذ يقدِّم الكتاب المميَّز، “اليعاقبة السُّود” (The Black Jacobins)، للكاتب سيريل ليونيل روبرت جيمس (1901-1989م) سرداً ماتعاً عن الثورة الهاييتيَّة، وهي قضيَّة التمرُّد الناجح الذي قام به الأرقاء في العالم الجديد. هذا الكتاب يؤكِّد أنَّ التاريخ لم يكن صنيعة الرجال العظماء وحدهم لا شريك لهم، ولكن من خلال الحركة الجمعيَّة للشعب؛ ثمَّ إنَّ قيم المساواة والحريَّة التي ألهمت الثورة الفرنسيَّة هي نفسها التي استعان بها العبيد في تلك المستعمرة الفرنسيَّة لإشعال الثورة. إذ يورد الكاتب في الكتاب أعلاه صورة معقَّدة ومعبِّرة عن قائد الثورة توسان لوفرتور Toussaint L’Ouverture، الذي لُقِّب ب”نابليون الأسود”، وهو الذي أفلح في محاربة الفرنسيين، وبزَّهم لأكثر من حقبة من الزمان. مهما يكن من أمر، فقد اتَّخذت تلك الثورة مفهوماً إنسانيَّاً، وأنكرت الرِّق أشد الإنكار، وضاقت به أعظم الضيق، ورأته مخالفاً أشد المخالفة لما ينبغي للإنسان من الكرامة والاستمتاع بحقه في الحريَّة. هكذا استطاع الأرقاء في هاييتي من هزيمة الفرنسيين وإعلان الاستقلال. هذا ما كان من أمر الرِّق في العالم الغربي. فماذا كان من أمره في العالم العربي حتى ولو اختصاراً؟
وللمقال بقيَّة،،،