Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

مواريثنا السلبية ؛ من أين وإلى أين ؟

محمد عتيق

محمد عتيق

لماذا؟ لماذا ؟ .. تمتد الأسئلة وتتناسل ، لكن اختصارها يكمن في التساؤل عن “سوء الحظ” هذا المُرافق لحياتنا ، حياة السودان والسودانيين ، إذ أن كل ما حاق بنا ، ولا زال ، يندرج تحت “سوء الحظ” .. يقولون عَنَّا وعن وطننا :
– أننا من أكثر الشعوب طيبةً وأمانةً وتواضعاً ووعياً سياسياً و…و.. الخ
– أن وطننا (السودان) يذخر بكذا وكذا في ظاهر الأرض وباطنها .. وآراء حديثة تضيف :
– أننا أصل البشرية وأن بلادنا جذر حضاراتها ومن مهاد دياناتها وأنها أرض الأنهار .. وغيرها من حقائق التاريخ الممزوجة بالتفاخر والأمنيات الفردية والجماعية ..
كان “سوء الحظ” هذا قد أصاب السودان في التاريخ المعاصر بعهودٍ عسكريةٍ (في الحكم وفي السياسة) امتدّت لأكثر من نصف قرن من مجموع نيفٍ وستين عاماً هي عُمر استقلالنا الوطني .. كل عهد من عهود ذلك الحكم العسكري جاء أسوأ من السابق له من حيث البناء ألإنساني والوطني ، ومن حيث الحريات العامة والبرامج الاقتصادية .. التراجع في الأداء الوطني الشعبي والسياسي العام ارتبط دائماً بالتراجع ألذي ظلّ يُصيب مناهج التربية والتعليم في كافة الأوجه ..
كل عهدٍ من تلك العهود العسكرية جاء بجريمة وطنية وإنسانية كبيرة طبعت عهده وزمانه فكانت عنواناً له وظل الثابت هو التراجع في التأهيل الذي ينعكس سلباً على الأداء السياسي والوطني العام ..
بدأنا العهد العسكري الأول (١٩٥٨-١٩٦٤) بالإتفاق مع مصر على تقديم وادي حلفا – عروس المدن السودانية وعمقها الحضاري والآثاري – هديةً لتقيم عليها السد العالي ، واختتمناه بتنفيذ تلك الاتفاقية على أهلها في أكبر هجرةِ تيهٍ يشهدها السودان ..
ثم العهد العسكري الثاني (١٩٦٩-١٩٨٥) الذي ، وبعد أن شهد التراجع الواضح على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية والتعليمية ، وتعميق حكم الفرد الدكتاتوري ، إنتهى بالاعتداء الأكبر على ألدين الإسلامي عندما أقدم الدكتاتور نميري على إعلان قوانين سبتمبر تحت اسم الشريعة الإسلامية واقام بها محاكمَ تفتيشٍ في خواتيم القرن العشرين ..
أما العهد العسكري الثالث (١٩٨٩-….) فقد جاء محمولاً على أكتاف الحركة الإسلامية السودانية التي اعتقدت أنها ستكتب الصفحة الأخيرة في تاريخ السودان ولكنها كتبت مسيرة ذُلٍّ وتفريطٍ وطنيّ عايشنا جميعاً فصولها وتطوراتها ..
الملاحظة الأساسية أن كل طغمةٍ عسكريةٍ حكمت البلاد كانت قد وجدت بين المتعلمين من التفُّوا حولها وتنافسوا على المناصب ومراكز النفوذ في حكوماتها ، جزء من المتعلمين في إطار التنافس السلبي الذي كان قد تَوَلَّدَ من فلسفة المستعمر البريطاني في تأسيس التعليم المدرسي الحديث ، فقد كان هدفها الوحيد هو رفد الإدارة البريطانية بالموظفين والفنيين (معلمين ، إداريين ، محاسبين ، أطباء ، قانونيين ، مهندسين ..الخ) .. ورغم وعي السودانيين الذي تجلَّى في قيام مؤتمر الخريجين ومناشطه خاصةً في تأسيس التعليم (الأهلي) والتوسُّع فيه ، رغم ذلك ، إلا أن “فلسفة” التعليم كما أرادها المُستعمِر قد استمرت ليتحوَّل التنافس على الترقيات في المصالح المختلفة والبعثات إلى روحٍ سلبيّةٍ انتقل بها متعلمو البلاد ( الأفندية) إلى ميادين العمل العام .. وإن لم يقصدوا ، فهي جرثومةٌ التصقت بهم على كل حال ..
وذلك ما يتجلّى الآن في المشهد العام : بينما كل الدلائل والرؤى تشير إلى أن وحدة قوى الثورة (بدرجةٍ ما) هي الطريق لهزيمة انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ والقضاء على تحالف البرهان / حميدتي واستعادة مسار الثورة نحو أهدافها في الحرية والسلام والعدالة وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية ، رغم ذلك نجد أن روح التنافس السلبي ، الاستعلاء والدسائس هي التي تسود بين القوى السياسية ..

رغم قيمة الوقت الذي يمضي على عمر شعبنا ، وعمق الموروث السلبي في علاقاتنا الوطنية ، إلّا أننا نأمل أنّ ذلك الموروث السلبي (في نهاية الأمر ) سيحترق كما طائر فينيقٍ ينهضُ على رماد حريقه السودان الذي يستحقه الجيل الجديد