Friday , 26 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

سيناريوهات الثورة المضادة في السودان

العبيد مروح

العبيد مروح

العبيد أحمد مروح

يستسهل الكثيرون من المحللين والناشطين العرب ومن “الديسمبريين” السودانيين، إسقاط النموذج المصري في انتكاسة التحول الديمقراطي على ما يحدث في السودان الآن، ويرون أن كل شواهد تلك الانتكاسة تتطابق مع ما يجري في بلادنا لدرجة العبارات المستخدمة في خطابات القادة العسكريين حين بداية الانحراف عن مسار الثورة. وعلى الرغم مما في هذا الاستنتاج من وجاهة ظاهرية إلا أن المتعمق في المقارنات سيجد الكثير من الاختلاف كما سنحاول تبيانه في هذا المقال.

وقبل أن أذهب بعيداً في تتبع مآلات الأوضاع في السودان، أود أن أنبّه إلى أنني لن أضيع وقت القارئ الكريم بالخوض في جدل أكاديمي لتعريف معنى “الثورة المضادة”، وإنما سأكتفي بشرح ما أقصده باستخدام المصطلح، فهو يعني بالنسبة لي (القوى الإقليمية والدولية التي رأت في تحركات الشعوب العربية لتحول بلدانها نحو الحكم المدني الديمقراطي خطراً على أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية، فتحالفت مع الجهاز القديم للدولة لوقف ذلك التحول أو التحكم فيه)، ومن المهم كذلك أن نلاحظ أن ما انتهت إليه الأوضاع في البلاد التي شملتها ثورات الربيع العربي، ليس نموذجاً متطابقاً على الرغم من أوجه الشبه العامة!!

نستطيع القول أن السياق الزماني الذي أتت فيه ثورات الربيع العربي (نهاية العقد الأول من بداية القرن الحادي والعشرين) كان سياقاً مشوشاً دولياً، فقد جرت في بداية  ذلك العقد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأت في إثر ذلك ما يسمى بالحرب الدولية على الإرهاب وتم ربط تلك الحرب بشكل وثيق بالإسلام، وشكلت الولايات المتحدة وقادت حلفاً دولياً لهذا الغرض كان أول ما بدأه هو الإطاحة بحكم طالبان في أفغانستان ثم غزو العراق وإسقاط نظامه، والبدء فيما زُعم أنه سياسة تجفيفمحاضن الإرهاب ووقف مصادر تمويله، وبدأ حديث عن فرض القيم الديمقراطية وإطاحة الأنظمة الشمولية أو حتى الوراثية، فانخرطت أنظمة مختلفة في المنطقة في سلك الطاعة خوفاً من هيجان الثور الأمريكي الجريح،وحاصرت تبرعات المحسنين للعمل الخيري وأعادت النظر في عمل المنظمات والجمعيات الأهلية التي يمتد نشاطها لخارج تلك الدول وفرضت رقابة مباشرة على البنوك المركزية.

وحينما بدأت نسمات الربيع العربي تهب على المنطقة، كانت سياسة ربط الإسلام بالإرهاب والتي تبنتها الدول الغربية قد رسخت أقدامها، وكانت إسرائيل – التي هي ربيبة أمريكا وصنيعة الغرب في المنطقة –  ما تزال تعاني من صدمة فوز حركة حماس بانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في  2006 ، فكيف والحال كذلك إن فاز الأخوان المسلمون بالانتخابات في بلدٍ ذي ثقل النوعي كمصر بعد أن فاز تحالف الإسلاميين والقوميين في تونس؟

وهنا تحركت الآلة الإسرائيلية وبمعاونة آليات الأنظمة الشمولية في المنطقة لإقناع الحليف الأمريكي بعدم صلاحية الديمقراطية لشعوب هذه المنطقة من العالم ومن ثمّ بدأ التحضير للانقضاض على الربيع العربي، لأنه– بنظرها – سينتج في المحصلة معادلة سياسية تحيي أشواق الملايين من المسلمين للعيش في أوطانهم بحرية وكرامة، وسيجعل من التيارات الإسلامية (أسموها الإسلام السياسي) جزءا من المعادلات المستقرة للحكم.

ومن يقرأ مذكرات الرئيس الأمريكي وقتها، باراك أوباما، ومذكرات وزيرة خارجيته هيلاري كلنتون، سيكتشف مدى الحرج الأخلاقي الذي وجد “دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان” أنفسهم فيه، وكيف أنهم فضلوا – في نهاية المطاف – مصالح الأمن القومي الأمريكي والمصالح الاقتصادية على ترسيخ القيم الديمقراطية في المنطقة، وسمحوا بعرقلة التحول الديمقراطي بل بالانقضاض عليه على النحو الذي يعرفه الجميع!

في السودان، كانت عناصر المعادلة مختلفة، فقد كان النظام الحاكم وقتها محسوباً على “الإسلام السياسي” وبالتالي لم يكن هنالك خوف إقليمي من أن يثور الناس عليه، بل إن الغرب والأنظمة المتحالفة معه شجعوا ذلك، ولذا تم تسخير الآليات التي ثبتت نجاعتها في إثارة الجماهير، لمزيد من التحريض على نظام الإنقاذ، وجرى اعتماد المزيد من سياسات وآليات الخنق الاقتصادي ومحاصرة النظام سياسياً ودبلوماسياً، حتى نجحت تلك الجهود بعد ثماني سنوات من بداية الربيع العربيفي الإطاحة بالنظام، ووقتها كان التحالف الإقليمي، الذي يضم إسرائيل أيضاً، قد ترسخ في المنطقة ونجح في إقناع الغرب بأن مصلحته الإستراتيجية وأمنه القومي يقتضي عدم الحماس لموضوع التحول الديمقراطي، خاصة إذا كان هذا التحول سينتهي إلى وصول التيارات الإسلامية إلى مراكز صنع القرار ومؤسسات الحكم.

لقد شكل هذا الوضع المستجد، محلياً وإقليمياً ودولياً، اختباراً جديداً لمقولات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي تدعي أن تشجيع التحول الديمقراطي هو ضمن قائمة أولوياتها في السياسة الخارجية، وربما لهذا السبب اعتقدت أنها وجدت ضالتها في السودان، فالإسلاميون المستهدفون بالإبعاد تم إقصاؤهم من المشهد بحكم أن النظام الذي تمت الإطاحة به كان محسوباً عليهم، وبالتالي فلا حرج في مَن سيتولى السلطة، أو هكذا بدت الأمور لأول وهلة، لكن هذه الفرضية ثبت أن فيها تبسيطاً مخلاً للأمور، فأوضاع السودان ،وامتداداته الإقليمية، أكثر تعقيداً مما ظنه الكثيرون، والتحول الديمقراطي فيه يحتاج لجهود متعاضضة حتى يقوى على القيام والمشي، خاصة وأن الحصار الاقتصادي والسياسي الذي فُرض على النظام السابق لما يزيد عن ربع قرن لم يترك مجالاً حيوياً لم يمسه ويؤثر فيه سلباً.

لم يمض وقت طويل من إسقاط النظام في أبريل 2019 وتولي تحالف قوى الحرية والتغيير مقاليد السلطة،حتى ثبت أن أهلية هذه القوى “الثورية”في مجال الأخلاق السياسية وكفاءتها في مجال الحكم متدنيتين للغاية، وأنها لا تحسن إدارة أوضاع الانتقال حتى لو وقف الغرب خلفها ظهيراً، لأنها ببساطة تعجلت النتائج واعتمدت أسلوب تعميق جراحات الوطن وفتق نسيجه الاجتماعي، وإثارة خطاب الكراهية والبغضاء بدلاً من تضميد الجراح ورتق النسيج وإشاعة قيم العدل والحرية، وبدلاً من أن يصبح السودان مؤهلاً للتنافس على نموذج ناجح لتحقيق سلام مستدام وتحول ديمقراطي ونهوض اقتصادي يفاخر الغرب برعايته له، أصبح مهدداً بفقد هذا كله، وأن يصبح نموذجاً للفشل كما حدث في أفغانستان. وفي هذه المحطة يقف السودان الآن !!

في أواخر أغسطس من العام الماضي كتبتُ مقالاً قلت في مقدمته إن هنالك “ثلاثة سيناريوهات تتسابق على الظفر بمستقبل السودان القريب، ومن أسف أن أقلها حظاً هو سيناريو التحول الديمقراطي، في الوقت الذي تزداد فيه فرصة رجحان خياري الشمولية المحدّثة أو الحرب الأهلية”، واليوم وقد مضى على ذلك الرأي خمسة أشهر، وعلى الثورة السودانية قرابة الثلاث سنوات، أرى أن الصورة أضحت أكثر وضوحاً، وأن قوى الثورة المضادة التي أشرنا إليها في مقدمة هذا المقال نجحت في ترويض “الحالة الثورية” في السودان، وأننا مقبلين على نوع مختلف من مآلات الثورة المضادة عمّا حدث في مصر، أو إن شئت سمّه بنموذج التحول الديمقراطي المُتحكَّم فيه!!

لا أحد في الخارج البعيد أو في الإقليم أو في الداخل حتى، يرغب في ترجيح سيناريو الحرب الأهلية، على الأقل وفق المعطيات الراهنة، ولا أحد من هؤلاء يرغب في عودة النظام القديم أو الإسلاميين إلى واجهة المشهد، على الأقل خلال الفترة الانتقالية التي ما زلتُ أرجح فرضية تمديدها، لكن أصواتاً في الخارج البعيد وفي الإقليم حتى، ترى أنه ليس من مصلحة الاستقرار في السودان إقصاء الإسلاميين بالكلية واستهدافهم سياسياً، ويبدو لي أن هذه الأصوات تزداد عدداً كلما مضى الوقت وتبين للمعنيين بالملف أن الدولة السودانية من الهشاشة بحيث لن تحتمل صراعاً مفتوحاً بين سلطة الانتقال وجماعة في وزن التيار الإسلامي في السودان.

إن صَحّت هذه القراءة فإن النموذج الذي يجري نسج خيوطه الآن في السودان سيكون أقرب للنموذج الجزائري، أي الديمقراطية المُتحكم فيها، فالقيادة الجزائرية وبعدما عُرف ب “العشرية السوداء” أدركت أن أسلوب المواجهة مع الإسلاميين سيضر بمصالح البلاد العليا وأمنها القومي بأكثر مما ينفع، وشجعت حواراً مع الإسلاميين بقصد إدماجهم في المشهد السياسي الكلي، وسمحت لمن رغب منهم بإنشاء أحزابهم السياسية وخوض الانتخابات، وذهبت الجزائر – الدولة – أكثر من ذلك فشجعت جارتها تونس في 2013 على المصالحة بين الإسلاميين والعلمانيين، وجمع الراحل عبد العزيز بوتفليقة كلاً من الراحل الباجي قايد السبسي والشيخ راشد الغنوشي، ورعى التوافق بينهما إلى أن رحل كلٌ من الباجي وبوتفليقة عن السلطة وعن دنيانا.

ستكون السلطة الفعلية خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية، عند من يثق فيهم الكفلاء (الرباعي الإقليمي وشركاؤه الدوليون) وهو المؤسسة العسكرية، وستجرى تحسينات على هذا النموذج من التحول بحيث يحفظ ماء وجه الكفلاء الدوليين أدعياء مناصرة الديمقراطية، وسيتم مراقبة مدى اقتراب اليسار الأيديولوجي وكذلك اليمين من السلطة بحيث لن يسمح لكليهما بذلك إلا في حدود، بغض النظر عن الوسيلة التي يمكن أن يصلا بها، لكنه في نفس الوقت سيتجنب العسكريون الذهاب بعيداً في إقصاء أي طرف مدني.

 

   كاتب صحفي وسفير سابق