إجراءات “إصلاحية”، أم خطوة “عشوائية” للتهرّب من تحمّل المسؤولية؟!!
بقلم: خالد التيجاني النور
(1)
لم يكد يمر شهران على إعلان موازنة العام 2022، والسياسة النقدية لبنك السودان المركزي حتى انهارت توقعاتها وتقديراتها لأداء الاقتصاد السوداني، وما الإجراءات التي خرجت بها اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية، التي بُعثت من مرقدها على حين غرة في محاولة يائسة للحاق بالتردي الآخذ في الانحدار نحو هاوية سحيقة، إلا دليلاً على الغياب التام لمؤسسات الدولة، وتأكيداً على عمق الفراغ الذي تعيشه البلاد منذ استيلاء قيادة الجيش على السلطة في 25 أكتوبر الماضي، فالأصل أن وزارة المالية والبنك المركزي يقع عليهما في المقام الأول عبء تأمين الاستقرار الاقتصادي وإدارته بكفاءة من خلال تحقيق مؤشرات الاقتصاد الكلي لنتائج إيجابية تثبت ذلك، وهو ما يعتمد بالضرورة على سياسيات مالية ونقدية مدروسة، وتوقعات موضوعية، وتقديرات عقلانية، وأداء كفء وفعّال.
(2)
وتقف الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها لجنة الطوارئ الاقتصادية شاهداً على عجز هذه السياسات المالية والنقدية وفشلها الذريع في خلال بضعة أسابيع فقط، بما يشير إلى حجم “العشوائية” التي يُدار بها الاقتصاد، وإلى عدم قدرة القطاع الاقتصادي الحكومة في القيام بمسؤولياته لتتدخل لجنة طارئة، في تكرار ممل لسيناريوهات مماثلة تكررت في السنوات الماضية، فإذا لم تكن التطورات المتلاحقة في الأسابيع الماضية التي تواصل فيها تداعي الأوضاع الاقتصادية، وانهارت فيه قيمة العملة الوطنية، كانت ضمن سيناريوهات صنّاع هذه السياسات، والعمل على التحسّب لها، فما هي جدواها أصلاً، وما جدوى وجود وزارة مالية، وبنك مركزي، إذا كانت الأمور تترك في نهاية الأمر لتدخلات استثنائية، وإجراءات جزافية طالما ثبت ليس عدم جدواها فحسب، بل كذلك تبعاتها الكارثية.
(3)
من المؤكد أن التدهور المتواصل في الأوضاع الاقتصادية لم يكن حدثاً عارضاً، بل كان يجري أمام أعين السلطة الحاكمة لأشهر وهي تقف عاجزة ومتفرجة، وبدلاً من أن تتحمل مسؤوليتها الكاملة في العمل الجاد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، دعك من إصلاحه، طفقت تبحث في الذرائع الواهية لتبرير هذه العجز المزري، وجاءت الموازنة العامة والسياسات النقدية لبنك السودان المركزي تسبح في فضاء حالم لا علاقة له بالواقع.
تحت عنوان “مؤشرات الاقتصاد الكلي” توقعت وزارة المالية “أن يشهد السودان استقراراً اقتصادياً نسبياً خلال العام 2022، وعلى المدى المتوسط، وذلك اعتماداً على الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي طبقتها حكومة الفترة الانتقالية” وأضافت “تستهدف موازنة 2022 تحقيق استقرار اقتصادي عبر تحقيق استقرار سعر الصرف وخفض معدلات التضخم، وتحقيق عجز الموازنة في الحدود الآمنة”.
أما بنك السوداني المركزي فقال في سياساته إنه يستهدف تحقيق الاستقرار النقدي بإجراءات وآليات من بينها “استدامة سعر الصرف من خلال الاستمرار في في سياسة سعر الصرف المدار المران، ومواصلة سياسة مزادات النقد الأجنبي”.
وهكذا أتت إجراءات لجنة الطوارئ بعد شهرين فقط لتثبت أن هذه السياسات والتوقعات مجرد أضغاث أحلام، وبدلاً من تحقيق استقرار اقتصادي، واستدامة لسعر الصرف ها نحن نشهد إغراق “الجنيه السوداني” في لجة بلا ساحل، وبقرارات متعجلة لا علاقة لها لا باقتصاد ولا بسياسات.
(4)
كم كان مؤسفاً أن تلجأ هذه اللجنة للذهنية السلطوية القديمة ذاتها، وبدلاً من أن تبحث في الجذور الحقيقية لمؤشرات التدهور الاقتصادي الآخذ في المزيد من التردي، ذهبت تبحث عن كباش فداء من قبيل توجيه الاتهامات جزافية لمضاربين ومخربين واعتقالات وإنشاء محكمة خاصة، ثم تناقض نفسها في اليوم التالي باللجوء إلى تعويم الجنيه باعتباره قراراً اقتصادياً إصلاحياً ما يعني أن الأمر لا يتعلق بممارسة إجرامية، بل بعجزها عن الوفاء باستحقاقات إدارة الاقتصاد الكلي بكفاءة.
ليس لهذه الإجراءات علاقة بإصلاحات من أي نوع، بل هي في الواقع عملية هروب إلى الأمام، وتهرباً من تحمل المسؤولية فيما آلت إليه أوضاع الاقتصاد المتردية، هكذا ببساطة دون سابق دراسة محققة، ولا سياسات توفرت لها أدني أسباب الشروط الموضوعية، واستحقاقاتها قررت القفز هكذا إلى المجهول عسى ولعل.
ومن يحتاج إلى المحاسبة والمساءلة فعلاً هم الذين انتدبوا أنفسهم بالتصدي لإدارة شأن البلاد دون القيام بما يقتضيه الواجب والمسؤولية، فمن يدفع ثمن هذا التخبط المستمر هم غمار الناس المطحونين أصلاً بفعل هذا الفشل المستدام.
(5)
لا يفجع المرء حقاً، والأوضاع السياسية والاقتصادية تزداد تردياً بوتيرة متزايدة نحو المجهول، إلا حينما يستمع إلى شخصيات رسمية وهم يتحدثون في محاولات يائسة لتبرير وتفسير الفشل الذريع في إدارة الشأن العام، فيزيدون الأمور ضغثاً على إبالة حين يكتشف المستمع مدى الخلط في أذهانهم حول مسائل أساسية، فتحار كيف تُدار البلاد إذن والحال هكذا، لنأخذ مثلاً شعار الاعتماد على الموارد الذاتية المرفوع في موازنة العام 2022، والذي يطرح كبديل أو ترياق لتعليق المساعدات الخارجية على خلفية انقلاب 25 أكتوبر، فقد أثار استغرابي حين ذكر الفريق عبد الفتاح البرهان في لقائه مع الزميل لقمان محمد أحمد أن ميزانية العامين الماضيين كانت تعتمد بنسبة 40% على الدعم الخارجي، وهي معلومة لا أساس لها من الصحة بتاتاً، ولا يحتاج الأمر إلى عناء للتأكد من حجم المساعدات الخارجية الفعلية التي تلقتها الحكومة الانتقالية بالفعل في ميزانيتي السنتين الماضيتين فقد وردت مفصلة في وثيقتي موازنتي 2021، و2022.
(6)
وبنى البرهان على هذه الفرضية المغلوطة التأكيد على ضرورة التعويل على الموارد الذاتية، وذهب الفريق محمد حمدان دقلو في المنحى نفسه وهو يشيد بميزانية 2022 منوّها بوزارة المالية التي اعتمدتها خالية من أي دعم خارجي، قائلاً بفخر إنها صفر، أما السيد وزير المالية فقد روّج أيضاً لقصة “الموارد الذاتية” هذه، ويحار المرء ماذا يعنون حقاً بهذا التعبير، وهل يدركون فعلاً ما هي استحقاقاته، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون “كلام والسلام”، فكل ما فعلته الموازنة تحت هذه اللافتة هي تخيّل إمكانية مضاعفة إيرادات الموازنة بفرض جبايات غير مسبوقة على المواطنين تحت ذرائع مختلفة، تارة بزيادة إيرادات الضرائب بنحو 150% في بلاد تعاني ركود تضخمي مع انكماش كبير في الأنشطة الاقتصادية، وهجرة رؤوس الأموال، والمستثمرين، وتعطّل دولاب العمل بفعل آثار الانقلاب وردود الفعل الشعبية عليه.
أما ثالثة الأثافي فهو الإفراط في الإنفاق العام، واختلال أولوياته، والطريف في الأمر أنه الموازنة تشكو في ديباجتها من ترهل الإنفاق الحكومي، فيا ترى لمن ترفع هذه الشكوى!، كان الظن أن تتبنى السلطة إذا كانت جادة فعلا في دعواها للاعتماد على الموارد الذاتية، برنامج تقشف قاسٍ تبدأ فيه بنفسها، تقليلاً من تأثير كارثة “عجز الموازنة” الذي هو أس كل هذا البلاء.
(7)
لا شك أن الاعتماد على الموارد الذاتية يعني إطلاقات إمكانات الاقتصاد السوداني الكامنة، وتحريك عجلة الإنتاج، وزيادة كفاءة الإنتاجية، وتوظيف طاقات الشباب، وهي أجندة ممكنة التحقيق، ليس بالشعارات، ولكن بالسياسات الصحيحة، والمنافسة الحرة، والشفافية، ومكافحة الفساد، والتخطيط السليم، ورسم الأولويات الصحيحة.
ومن يطلع على تفاصيل موازنة 2022 سرعان ما يرتد إليه بصره حسيراً، وهي ترفع شعار بلا معنى ولا جدية، تنبئك عن ذلك أولويات الانفاق، والتوسع في الانفاق العام غير المنتج.
ويبقى القول مهما كانت مشكلات الاقتصاد السوداني فهي ليست فنية بحتة بل تتعلق بأمر جوهري بطبيعة الإطار السياسي وخياراته وأولوياته ، فالاقتصاد لا يعمل في فراغ، فإعوجاجه يعني بالضرورة إعوجاج النظام السياسي، واستقامته دليل على سلامته.