وكما كان ، ما النصر إلّا بالوحدة ؟
محمد عتيق
ظل شعب السودان يقدم التضحيات الجسيمة في سبيل التحرُّر وإقامة العدل والتوحُّد الوطني وتحقيق العيش الكريم ، وذلك منذ أن أصبح السودان .. حتى في عهود ما بعد الاستعمار البريطاني (العهد الوطني الحالي) ، وسواء كان في ظل الأنظمة الديمقراطية أوالعسكرية ، ظَلَّ يعطي وطنه نسمات الحرية وأنغام الوحدة .. إلَّا أن النصر كان يحالفه فقط عندما تتوحّد جهوده فكراً ونضالاً خلف أهدافه المرسومة ، أي عندما تتوحّد قواه الوطنية ، ثم يتبخَّر ذلك النصر ويذوب عندما تدُبُّ الخلافات بين تلك الأطراف (أحزاب وتنظيمات) ..
ففي العهد الديمقراطي الأول عشية الاستقلال نشبت المعارك بين أحزاب وزعماء ذلك الزمان بدوافع ذاتية وموضوعية مختلفة ، فوقع الانقلاب العسكري الأول (نوفمبر 1958) الذي بدأ قوياً في ظروف التمزُّق الحزبي واختلاف وجهات النظر حتى في الموقف من النظام العسكري الدكتاتوري ، ولكن عندما أخذت تلك الأحزاب في الاقتراب من بعضها وتوحيد رؤاها ضد الحكم العسكري وإجراءاته بدأ النظام في الترنُّح والاندفاع نحو المزيد من الحلول العسكرية والأمنية مؤشِّراً لسقوطه اللاحق على تخوم عامه السادس لتأتي ثورة أكتوبر 1964تدشيناً لعصر الجماهير وثوراتها الشعبية السلمية في إسقاط الانظمة العسكرية الدكتاتورية في المنطقة ..
ومرةً أُخرى اندلع الصراع بين أطراف الحركة الوطنية ، هذه المرّة أكثر حدّةً وتركيزاً على مواضيع وأهداف مع دخول مصطلحات (كاليمين واليسار) بمضامينها وشعاراتها في السياسة السودانية ، فكان الانقلاب العسكري الثاني في 25مايو 1969الذي تقلَّبَ في مواقفه وسياساته من “أقصى اليمين إلى أقصى اليسار” وفي كل مرحلةٍ معه طرفٌ أو أكثر من القوى السياسية الوطنية ، ولم يترنَّح النظام إلا بعد أن اصطفَّ الجميع خلف دعوات الديمقراطية والحكم المدني وسيادة حكم القانون ليسقط بعد أن قامت كيانات مثل “تجمع الشعب السوداني” و “التجمع النقابي” …الخ ..
ومع العجز والتردد في اتخاذ القرار ، وبذور الشك التي اكتنفت أطراف الحياة الوطنية تعبيراً (في الغالب) عن واقع التخلف الذي نعيشه، سقطت الديمقراطية أمام الانقلاب العسكري التابع للحركة الإسلامية في نهاية يونيو 1989لتبدأ القوى السياسية – لأول مرة – مواجهة عهد عسكري باطش مُوَحّدةً في إطار تنظيمها الذي أسموه “التجمع الوطني الديمقراطي” الذي مرَّ بمراحل مختلفة من القوة والضعف ولكنه – وفي كل الأحوال – أنتجَ وأمتلك أدباً سياسياً رفيعاً في المضمون وفي المظهر ظهرَ في مقررات وبيانات مؤتمراته واجتماعات هيئته القيادية .. ومهما كانت العيوب هنا وهناك فإن إيجابيات كبيرة قد حدثت ليس أقلّها الوحدة التي انتظمت القوى السياسية في حالتي القوة والضعف إلى أن سقط هُبَلُ الإسلامويين في أبريل 2019.. ولأنه عاش ثلاثين عاماً”بنهجه المعروف” بيننا ، فقد ترك دولةً موازيةً للتي سقطت أمام ضربات الثورة ، لها كذلك رموزها في القوات النظامية ، فإنه إستطاع أن يقود انقلاباً دموياً آخر في 25اكتوبر 2021.. الخ…
هذا السرد المقتضب ، ليس استعراضاً للتاريخ السياسي المعاصر ، وإنما للتدليل على موقع “الوحدة” ودورها في حسم الصراع لصالح قوى الخير والديمقراطية .. أسباب هذه الوحدة متوفرة لدينا فقط اذا نقلنا الصراع الى موقعه الصحيح ؛ بدل أن يكون فيما بيننا أن يكون بيننا وبين الانقلابيين وأعوانهم (أعوان النظام الساقط) ..
نظرة إلى العالم حولنا ، وإدراك ما يبطنه لنا ، يدفعنا أكثر : فالتنظيم أو التكتل الذي يضم الدول الغربية الكبرى مع دولٍ في الإقليم تحت اسم “أصدقاء السودان” يعقد مؤتمراً ويقود حملات محمومة تهدف إلى إقناعنا بالجلوس إليها “في شخص مبعوث الأمين العام” ومع الانقلابيين (اعترافاً بانقلابهم) والعودة معهم إلى ما قبل ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ …
مقترح البرنامج الذي يمكننا الالتفاف حوله بين أيدينا منذ العام ٢٠١٦ ، ولا يختلف على بنوده وأبوابه أحد (ومع ذلك يمكن لمن لديه إضافة أو تحسين أن يتقدم به) هو البرنامج المسمَّى ب “الميثاق السياسي لإعادة هيكلة وبناء الدولة السودانية”، وللتذكير : برنامج في ٨ صفحات مطبوعة تحتوي على ديباجة و ٣ أبواب : المبادئ والأهداف – تشكيل ومستويات الحكومة الانتقالية – مهام وترتيبات الفترة الانتقالية – ثم خاتمة .. وقد وقّعت عليه التنظيمات السائدة آنذاك : نداء السودان ، قوى الإجماع الوطني ، الجبهة الثورية بقسميه ، حزب الأمة القومي ، مبادرة المجتمع المدني ..
وتلك قُوَّتُنا الأساسية ، نستمدّها من الشارع ، من لجان المقاومة ؛ نشرح لها البرنامج ، نستمع ونستجيب لرؤاها ، فتتكامل القيادة السياسية مع قوة الشارع المُدَجّجة بالسلمية والتوق إلى الشهادة سبيلاً إلى الحياة السوية …
نقدم الوطن على أنفسنا وعلى مطالبنا الدنيوية ، تجميداً لكل خلاف وصراع إلّا الصراع ضد أعداء استقرارنا وازدهارنا وسيطرتنا البديهية على وطننا ومقدراته ..
فهل من معنىً لهذا العداء لبعضنا البعض والقذف بالاتهامات يميناً ويساراً إلّا لمن كان مِنّا من هو في خندق الخيانة (والعياذ بالله).