التفاوض ؛ أساس العمل الوطني
بقلم : محمد عتيق
إستوت الحياة مع الموت عند الجيل السوداني الجديد ، ليس لديه ما يخاف عليه فيحرص ، تعلَّقَ بحُلْمهِ البهِيّ المتناثرِ بروقاً لامعةً أمام ناظريه ، فهو في سعيٍ عنيدٍ لجمعها وتركيبها حياةً مليئةً بالعطاءِ والمثابرة ، بيئةً تتيحُ ذلك التبادل الممتع في وطنٍ مستقِرٍّ ينضحُ حريةً وسلاماً وعدلا ، ودون ذلك لا معنى للحياةِ بل هي الشهادةُ والارتقاءُ و”مجاورة” أجمل وأعظم أبناء السودان على مَرِّ تاريخه الوطني ..
تلك هي الرؤية التي تسيطر تماماً على أفئدته وتُفجِّر طاقاته تظاهراً وإبداعاً للأهازيج والأغنيات والشعارات البديعة ..
هذه الأجيال الجديدة في كفاحها المُصَمِّمْ على الصعود بالثورة إلى مراقي أهدافها وأحلامهم ، خرجوا اليوم من كل منزل وكوخ في كل أصقاع السودان على ذلك الطريق واحتفاءً بالذكرى الثالثة للثورة ، وقد أصبح شعارهم/نشيدهم في الفترة الأخيرة لاءات ثلاثة : لا تفاوض ، لا شراكة ، لا شرعية.
والحركة السياسية – أحزاباً ومنظمات – لا نريد تكرار أنها هي هي ، في ركودها وتنافسها السلبي وتغليبها الذاتي على أمر الوطن والمواطن (على الموضوعي)، لا نريد التكرار فالمشهد يغنينا عن ذلك ، المشهد الذي يُجَسِّدُ ما نعني كأبلغ ما يكون التجسيد : أحزاب ارتمت في أحضان المكون العسكري وراحت تنسج معه خيوط الانفراد وتُعطيه شرعية أن يخرق الوثيقة الدستورية ويعبث ببنودها في كافة الأبواب والمناحي فجلست معه (والحركات المسلحة) في أروقة الذي أسموه “مجلس شركاء الفترة الانتقالية” كأكبر خرقٍ للوثيقةِ وخروجٍ عليها وتسليمٍ للعسكريين في “اللجنة الأمنية والحركات المسلحة” أن تُقرِّرَ في شأن البلاد وشئون العباد ومعاشهم ، متخذين في ذلك من الدكتور عبد الله حمدوك (مبعوث المجتمع الدولي لربط البلاد واقتصادها بالتطبيع مع “إسرائيل” وتنفيذ روشتة المنظمات الاقتصادية والمالية الدولية ، والمنسجم تمام ألإنسجام مع المكون العسكري) ، مُتَّخذين منه إماماً وهادياً .. وعند الانقلاب (البرهاني) في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ وهَدْمِ ما تبقّى من الوثيقة الدستورية باعتقاله وحَلِّ حكومته ، عند ذلك فقط شعرت تلك الأحزاب بالخطر ، ولكن الخطر فقط على مصالحها ونفوذها وليست الأخطار على الوطن ألتي انتصبت منذ تحالفها مع “اللجنة الأمنية” وإقصاء زملائها في الأحزاب والتنظيمات الأخرى ، فبعد الإفراج عنه إلتقى (حمدوك) رئيس الانقلاب “البرهان” ووقّعَ معه ميثاقاً ، فوصفتْهُ تلك الأحزاب (أي حمدوكاً) بأنه اعترف بالانقلاب وأضفى عليه شرعيَّةً ! الشرعية التي أهدروها هم إبتداءً بالإقصاء ثم غضّ الأبصار عن خرق الوثيقة وصولاً إلى جريمة “مجلس الشركاء” ..
والأحزاب التي تم اقصاءها قادت حركةً واسعةً تقدمت فيها بالمبادرة تلو المبادرة لفتح أبواب قوى الحرية والتغيير التي تتيح لها العودة إلى مواقعها الطبيعية وصولاً إلى الفخ الذي نُصِبَ لها في قاعة الصداقة ومحاولة تلويثها بأرزاءِ الفلول وأتباعهم ..
الناظر بمسؤوليةٍ وجِدِّيَّة لهذا المشهد المتداخلِ والمعقّد ، لا بد أنه سيشعر :
أنّ هنالك مؤامرة ضخمة تجري لمصلحة الإبقاء على السودان الضعيف المُسْتَبَاح وقد تصل حد تقسيمه إلى دويلات صغيرة إذا لزم الأمر ، وأنّ المدخل لتنفيذ هذا التآمر هو ضرب وحدة الحركة السياسية في البلاد وخلق حالة العداء والتوجُّس السائدة الآن بين تلك الأحزاب والتنظيمات ودفعها دفعاً على طريق الفشل والخسران المبين .. علماً بأن وحدة القوى السياسية وكل قوى الثورة – جنباً إلى جنب- مع السلمية التي طبعت الثورة ولا زالت في كل مراحلها ، هي الأسلحة الحاسمة في الانتصار (سابقاً ولاحقاً) ..
وأنّ ذلك التشاكس وتبادل حالة الفشل بين الأطراف السياسية يقود الأجيال الجديدة في لجان المقاومة إلى حالةٍ من اليأس فالعداء للأحزاب السياسية …
لا بد إذن من أن تحتكم القوى السياسية إلى صوت العقل وتستعيد جسور الثقة بين بعضها البعض ، والانتباه إلى أنها تعبيرات عن التعدُّد الذي يزين مجتمعنا ؛ كلٌّ عن عطر من عطور ذلك التعدُّد الأنيق ، كلٌّ له أهميته فلا استغناء عن أحد ، وتجلس إلى بعضها ومعها لجان المقاومة المنتشرة على إمتداد القطر (وفق الصيغ التي يرتضونها) ، في حوارات عميقة تُراجع فيها مسيرة الثورة بالنقد السديد والرؤى النافذة للمستقبل التماساً حانياً لأوجاع الشعب وهموم الوطن .. امَّا اللاءات الثلاث التي تُزيِّن نشرات الشباب وبياناتهم ، فليست كلها في تمام الصواب ، فمثلاً : “لا تفاوض” ؛ كيف لا نتفاوض والعمل السياسي أصله تفاوض ؟ الأحزاب مع بعضها ، وبينها وبين لجان المقاومة ، لا مندوحة عن التفاوض … وهنالك القوات المسلحة ، والشعار الرزين بيننا : (الجيش ما جيش برهان ، الجيش جيش السودان) ، لكي نضع هذا الشعار موضع التنفيذ لا بد أولاً من انهاء حالة التوجُّس والشك بين القوى المدنية (الأحزاب والتنظيمات) ، وما بينها وبين القوات المسلحة ، وذلك كله بالتفاوض ..
فالمهم ختاماً، أن “التفاوض” منهجٌ أساسيٌ ، حميدٌ ومطلوب ، وعبره فقط تُبْنى الأوطان وتزدهر المجتمعات..