تعقيب على سلسلة مقالات اعادة التأسيس
ادناه تعقيب عطا البطحاني على سلسلة مقالات اعادة التأسيس المنشورة الاسبوع الماضي
الاخ العزيز السر سيد أحمد
شكرا على سلسلة المقالات التى تجمع وتربط باقتدار ما بين القضايا الجوهرية والتحديات الانية أمام متخذى القرار. تابعت السلسلة فى موقع سودانايل ولكنى وجدتها مجتمعة فى صفحة واحدة (ص8) فى صحيفة اِيلاف عدد 786 بتاريخ 2 سبتمير 2021. جاءت سلسلة المقالات والتى أرجو الا أكون قد قرأتها على عجل، مزدحمة بعدد من المواضيع الثرة، رايت أنت أن تناقشها تحت عنوان واسع أسميته ” سيادة ثلاثية الاولويات المغلوطة، عدم الجدية والتفكيرالرغبوى”، ورصدت تحته مواضيع أذكر منها على سبيل المثال، ما يمكن أن اسميه، فقه الاتكاء على شماعة ما لتبرير العجز، التطلع الى الخارج وأثره، عسكرة حركات التمرد وبعدها الخارجى، حركات دارفور، سبعينيات القرن الماضى وما حدث فيها، تكييف الواقع الابوى، العشائرى للقوى السياسية يمينها، وسطها ويساره، وظلال سنار فى المشروع الوطنى.
سأنتقى بعض المواضيع وأحاول أن أبدى تعليقا حولها، وآمل ان تدفع هذه المداخلة لمزيد من النقاش والحوار البناء.
أعتقد أن المقالات قد تقرأ فى سياق أدبيات التوثيق لفشل النخبة السودانية، فهناك على سبيل المثال كتابات منصور خالد وأبيل الير وتيسير محمد أحمد على، وشريف حرير وحيدر ابراهيم وغيرهم. أنا أيضاً لدى مآخذى على أداء النخب السودانية، ولكنى فى ذات الوقت لا أحبذ النظرة العدمية عند تقييم أداء النخب السودانية فى الفترات الماضية “اِدانتها فى المطلق ورميها فى البحر”. لا اتهملك بذلك، وحاليا أتساءل عن سلامة منهجية نظرتنا وتقييمنا للماضى؟ ألا تتمثل، فى أحدى جوانبها، فى اِسقاط معايير تقييمنا، الحالية، على أداء فترة سابقة، لها سياقها المختلف؟
كل ما ذكرت صحيح كوقائع، وكان بالامكان أن تستقصى وتبحر بعيدا وراء واحدة من العثرات التى اقعدت بالبلاد. ربما يأتى الرد، بأنه من الصعب اِرجاع خيبة الامل والفشل كما تبدى فى “سيادة الثلاثية” الى عامل واحد، وهذا صحيح، وأنا أميل الى ذلك، ولكن حتى حالة الاقرار بوجود “شبكة عوامل” للتفسير، يكون دائما هناك عنصر أو عامل له وزن نسبى أكبر من بقية العوامل. كنت أتوقع بحكم مهنيتك وخبرتك فى الاقتصاد، ان ترجع اليه سبب الاخفاق، ولكن جاء التحليل اقرب الى سوسيولوجيا التنمية، رابطاً بين أكثر من عامل.
ودعنى أغامر باِدعاء أن هذا العامل الذى له وزن نسبى أكبر، هو عامل الاقتصاد، مع علمى أن ذلك قد يوقعنى فى دائرة اتهام تبنى تفكير “اِقتصادوى”. وتأكيداً لروح المغامرة، اريد أن أرجع الموضوعات التى جاءت تحت “سيادة الثلاثية: التفكير الرغبوى، عدم ترتيب الاولويات وغياب الجدية ” الى هذا العامل، وهناك سند لى وأدلة فيما أوردته أنت فى مقالاتك. منها مثلا، ما أشرت اليه: “تحرير لا تعمير” وتهاون الحكومة مع مصر فى السد العالى، وايضا فى سد النهضة، وتقلص المساحة المزروعة، وتدهور القطاعات الانتاجية وثقتفة عدم الالتزام بالمواقيت والمعاهدات، والفشل فى اِعداد البديل لنظام الانقاذ، واللجؤ الى الخارج، وكلها ممارسات متواصلة حتى اليوم، أى بعد التغيير التاريخى الكبير فى أبريل 2019 .
ودعنى أتسرع بالقول أن الطبيعة الاجتماعية – الطبقية للنخبة السياسية الحاكمة لا مصلحة غالبة لها فى الدخول فى تبنى سياسات اقتصادية توجب عليها الالتزام التام بكل ما تتطلبه عملية اِكمال الدورة الانتاجية لرأس المال، اقصد عملية الانتاج الراسمالى هو جذر العامل الماوراء ما يتبدى لنا من عدم رغبة، ترتيب أولويات …..الخ. أى عامل النفور من الانتاج والعملية الانتاجية التى تقوم على توظيف الانسان وقدراته وتستخرج منه القيم المضافة أو فائض القيمة، بما يمكن للراسمالى من توسيع العملية الانتاجية واعادة تجديدها التوسعى. وفى ذلك “اِستغلال” للمنتجين، ولكنه استفلال فى اطار عملية اِقتصادية تحمل عائداً مزدوجا لصاحب راس المال وصاحب قوة العمل: تزيد درجة الاستغلال وفى ذات الوقت تؤدى الى تحسين شروط الحياة للعمال وترفع من مستوى الحياة عموماً (بالطبع الى مدى معين).
الشريحة الراسمالية التى تقود وتسيطر على القرار الاقتصادى لا تزغب فى ذلك، أقصى ما تود الوصول اليه، هو جزء من أرباح الانشطة التجارية، العقارية، ولاحقا المصرفية، والمضاربات وكل نشاط عدا الانغماس فى لجة انتاج القيمة المضافة وفائض القيمة. ولا باس ان تكون وكيلة تصدر المواد الخام وتستورد من راس المال الصناعى فى الخارج. وحتى تجارب الصناعات الخفيفة البديلة فى الستينيات تراجعت فى العقود الاخيرة، ولاسباب عديدة (صدقى كبلو، من يقود الرأسمالية السودانية، 2007) .
وصحيح أيضا جرت محاولات فى اوائل السبعينيات لاستعدال نمط التنمية، ولكنها فشلت. جاءات اِشارات فى مقالك الى هذا الفشل. أشرت الى “تحرير لا تعمير” والعلاقة مع مصر. واستمر التحرير خلال فترات الحكومات الحزبية فى الستينيات والثمانينيات بالرغم ما يشير الى أن أداء الحكم العسكرى الاول افضل من الحكومات الحزبية، لكن تبقى الحكومات الحزبية هى قاعدة النظام السياسى. وهذا ما أكدته حين ذكرت ” ومن الجانب الآخر ظل النظام السياسي انعكاساً للواقع الأبوي والعشائري السوداني، أكثر من أن يكون عاملاً على تغييره. ويظهر ذلك في أن أكبر طائفتين دينيتين في البلاد، وهما الختمية والأنصار، تحت قيادة بيتا الميرغني والمهدي، كانت لهما واجهتهما الحزبية من خلال حزبي “الاتحادي الديمقراطي” و”الأمة”، وظلا القوتين السياسيتين الرئيستين في البلاد، في الحكم والمعارضة.”
وبالرغم من البدايات التى لا بأس بها لنظام مايو (1969-1985) الا أن الصراعات الايديولوجية بين اجنحة النظام والتحالفات الاقليمية أبعدته من تبنى مشروع التنمية الاقتصادية المستقلة تحت قيادة الدولة الوطنية. وجاءت الانقاذ بشعارات شعبوية فى البداية “نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع” ولكنها شعبوية صادمت الطبيعة الاجتماعية – الطبقية لسطة دولة الانقاذ. اِذ سرعان ما لجأت القيادة الاسلامية لتقاسم ريع البترول مع الحركة الشعبية (وأنت كتبت فى هذا المجال)، والان بعد الانقاذ جاءت الحركات المسلحة تبحث عن نصيبها، كما جاء فى مقالك. فالحركات بعد عودتها من جوبا وبعد انقضاء فترة الاستضافة فى الفنادق، بعضها يقاتل للوصول للمجمعات السكنية فى قلب العاصمة، كل ذلك بحجة الترتيبات الامنية، وهناك تقارير تشير الى انها تعتمد على التعدين والتجارة فى الذهب. فالطبقة السياسية التاريخية، والقوى الجديدة التى انضمت لها وربما تلك المرشحة للانضمام تجفل بطبيعتها من “الانتاج” وتجد مبتغاها فى الريع، وأفضله “ريع الدولة” وهى بلغة مقالك لا مزاج لها فى ترتيب الاولويات، ولا رغبة لها فى الانتاج. ما هوالمدى الذى يذهب اليه البرنامج الاقتصادى لهذه الحركات لأكثر من قسمة السلطة والثروة؟ فى ظنى أن الحركة الشعبية الام فى عهد الزعيم الراحل جون قرنق قد تخطت هذا المفهوم الريعى للسلطة والثروة (راجع حديثه حول نقل المدينة الى الريف، وليس الريف الى المدينة). وفى هذا مقياس لمن يقف مع المصلحة الوطنية او ضدها.
يُضاف إلى هذا أن قوة الجيش وأجهزة الأمن والدعم السريع، وجيوش الحركات المسلحة لم تعد مرتبطة بتطور المجتمع وقدراته الإنتاجية، بل تعمل فى الاقتصاد الريعى أو يمولها ريع الدولة. ويكفى حديث رئيس الوزراء ومعادلة 82% مقابل 18% . والاخطر اِرتباط كل ذلك بالتحالفات و العلاقات الإقليمية التى ترتبط بها هذه القوات والحركات.
لماذا لا تميل الطبقة السياسة والحركات المسلحة المناوئة للمركز، لا تميل لثقافة الانتاج – وتبتعد من الالتزام بدعم العملية الانتاجية وبالوقوف مع قضايا المنتجين فى الريف والمدن؟ للعزوف عن الانتاج تاريخ بعيد، هذا ليس مكان التفصيل فيه. لكن أقرب نقطة تحول هى سبعينيات القرن الماضى كما ذكرت أنت.
دعنى هنا أرجع للصراع الايديولوجى بين أجنحة نظام مايو فى سنواته الاولى. اشرت الى مايو 1969 وعند مناقشات الميثاق الشعبى عام 1970 اصر المؤتمرون على اِدخال وضع قضية فلسطين فى باب السياسة الداخلية وليس الخارجية، أى يحدد السودان موقفه من الدول حسب موقفها من قضية فلسطين. لكن ما أود الاشارة اليه هنا الخطة الخمسية 1970-1975 . وعلى ما اذكر ساهم الخبراء السوفيت فى وضعها مع خبراء سودانيين، أعتقد أن وضع الخطة هذه قد تأثر بالافكار الاشتراكية، وهنا لست متأكداً من أن هذا التأثير تزامن مع أو قبل استعراض عبدالخالق محجوب لأفكاره “حول البرنامج” القائم على استخراج الفائض الاقتصادى الكامن فى القطاعات الرعوية – الزراعية فى الريف عبر سياسات الدولة التسعيرية والتسويقية لجذبه واِستثماره فى المدن الصناعية. وفى ظنى ان هذه الخطة الخطة الخمسية 1970-1975 فيها سمة من سمات ال NEP السياسة الاقتصادية الجديدة فى عشرينيات القرن العشرين فى الاتحاد السوفيتى، خاصة فى تركيزها على السكة حديد والطاقة الكهربائية. وسياسيا يقوم هذا النموذج على ان تلعب الدورا فاعلا فى تصفية مصادر الريع الناعم من امتيازات (حل الادارة الاهلية،التصنيع) واستخراج الفائض الكامن فى الاقتصاد السودانى والمتمثل فى الموارد الطبيعية فى الريف (الارض، الثروة الحيوانية) وربطها بخطط للتصنيع يخلق قاعدة انتاجية مستقلة، غير رأسمالية وغير تابعة للدوائر الاقليمية والدولية.
وبالطبع تم تعديل الخطة بعد فشل انقلاب يوليو 1971 الى الخطة الخمسية المعدلة 1971-1976. برامج العمل المرحلية فى اوائل السبعينيات حملت اِمكانيات جيدة ولكنها لم تثمر، المجال لا يتسع للتفصيل فيها. وتم التخلى عن مشاريع البنية التحتية التى قامت على توسيع شبكة خطوط السكة حديد فى كل البلاد وتزويدها بخط مزدوج لتسهيل استخلاص الفئض الاقتصادى المامن فى القطاع الرعوى- الزراعى واستثمارة فى التصنيع الزراعى والتصنيع فى المدن الكبرى، خاصة الخرطوم، ويقال أن الرئيس جعفر نميرى تخوف من أن عودة السكة حديد تعنى عودى نقابات العمال والحزب الشيوعى.
ما أريد توضيحه هنا، هو أن نموذج التنمية الاقتصادية المستقلة أضعف كثيرأ، وأخيراً تم التخلى عنه بعد تطورات دستور 1973 ونفوذ الرئيس تحاه مؤسساته نفسها كما وثيق لذلك منصور خالد. ومنذ ذلك الوقت آلت قيادة الراسمالية السودانية لشريحة غير شريحة الرأسمالية التى لها مصلحة فى الانتاج (صدقى كبلو، من يقود الراسمالية السودانية، دارعزة، 2007)
لفتت اِنتباهى اِشارتك للاتكاءة على شماعات لتبرير الفشل. وهذا صحيح فى عدد من الحالات. ولكن لا أدرى اِن كانت قراءتى صحيحة، فقد لاحظت ما يشبه الاستهانة من جانبك عندما يأتى الحديث عن الدولة العميقة.
” ومؤخرا وصلنا الى شماعة الدولة العميقة والكيزان الذين يعيقون كل جهد ومن ثم أصبحوا المسلسل الجديد الذي تعلق عليها الحكومة الحالية أخطاءها وعدم قدرتها على مواجهة المشاكل. لا ينبغي أن يكون هناك جدل حول وجود جهات منظمة أو غير منظمة مثل المؤتمر الوطني لها مصلحة في تعطيل أو ابطاء سرعة التغيير، لكن السؤال هل يكون الاكتفاء بهذه الشماعة فقط؟”.
أنا هنا لا أدافع عن أداء الحكومة الانتقالية، ولكنى أعتقد أن التقليل من شأن ما تقوم جماعات الاسلاميين وحلفائهم داخل السلطة الانتقالية نفسها يجب الا يستهان به. وذلك لأن مرحلة الانتقال هذه تختلف اِختلافا كبيراً عن المراحل الانتقالية السابقة. مرحلة حكم الانقاذ من 1989 الى 2019 مرحلة تختلف بنيوياً من سابقتها بعد الاستقلال من 1956 الى 1989. أدى تمكين واحتكار وسؤ توظيف الاسلاميين للسلطة والثروة الى انتاج تركيبة طبقية للمجتمع أخذت موقفاً مضاداً لحركة التاريخ (كما أشرت أنت فى الاجزاء الاخيرة من مقالاتك)، موقفاً رسخ لتبعية اقتصادية مركبة. لم نجد رأسمالية اسلامية تملك المصانع وتوحد السوق الداخلى، بل طبقة كليبتوقراسية قامت بتهريب ثروة البلاد الى الخارج، وفقدت البلاد بالهجرة غالب طبقتها الوسطى المستنيرة ونزيف عقولها الى الخارج، وسلطة دولة قامت بتشتيت قوى المجتمع المدني والنقابات العمالية والمهنية، وافرغت الخدمة المدنية من كوادرها، وزحفت الى اجهزة الدولة عناصر مؤدلجة وغير مؤهلة فعاثت فسادا غير مسبوق فى تاريخ البلاد. كل ذلك ونحن نتحدث عن سلطة انتقالية فى اِطار شراطة سياسية تحتضن وتشرعن لوجود عناصر من ذات نظام الانقاذ. ماذا تتوقع؟
اعجبت بالعنوان” ظلال سنارية فى المشروع الوطنى”. وأود ايراد نقطتين، فى الاولى اشير الى كتاب تشارلس تيللى “رأس المال والسلاح وتكوين الدول فى أوروبا” Coercion, Capital, and European States, وفيه فصل يتحدث عن دور الجيش فى تكوين الدول فى العالم الثالث. بالفعل الظلال السنارية واضحة فى ما يجرى حاليا فى البلاد من سطوة الحركات المسلحة والمليشيات من دعم سريع وغيره، ومنافستها للقوات المسلحة وأجهزة الامن وقوات الشرطة، الشىء الذى وضع حكم القانون من خلال فوهة البندقية. فى المراحل الاخيرة ظهر قواد عسكريين تسيدوا المشهد مثال أبو الكيلك، وفى المهدية أِعتمد الخليفة عبدالله على ولاء القادة العسكريين الذين كان يراقب ويتابع ولائهم له، وذهب عمر البشير فى ذات الاتجاه مرفعا الدعم السريع كقوات خارج المؤسسة الرسمية كقوة موازية للجيش، خوفا من الاخير للطابع المؤسسى الذى يقوم عليه.
يرى تشارلز تيلي أن أفضل مقارنة للدولة هي مع عصابات الجريمة المنظمة انطلاقاً من فكرة الحماية وتوفير الامن. وهي حماية مزدوجة ضد الأعداء الداخليين والخارجيين ومن غضب الدولة نفسها. فعالية الحماية تشترط احتكار العنف، وهنا تصبح مسألة الشرعية تعبير عن فعالية عملية الاحتكار نفسها وليست مرتبطة بحق سابق عليها. عملية الاحتكار تتم عبر القضاء على كل المنافسين الممكنين للدولة . مثل تيلي هذه العملية من خلال أربع وظائف مترافقة تشبه منطق عصابات الجريمة المنظمة: 1- صناعة الحرب: إبادة أو تحييد المنافسين خارج الحدود. 2- صناعة الدولة: إبادة أو تحييد المنافسين داخل الحدود باحتكار العنف. 3- الحماية: إبادة أو تحييد منافسي وكلاء الدولة الذين يتمتعون بحمايتها. 4- استخلاص الموارد والوسائل اللازمة لتحقيق هذه الوظائف الثلاثة السابقة. وتقتضى علاقة متوازنة بين توظيف القوة والقهر واستكمال دورة رأس المال الانتاجية، أى النظام الرأسمالى القائم على وجود قاعدة صناعات وسوق داخلى تحمية البرجوازية الوطنية (موريس عايق، مفارقة الدولة ،22 مارس 2018) ً.
تمت عملية بناء الدولة في أوربا الغربية بشكل تطوري خاضعةً لمبدأ البقاء للأقوى، فبقيت الدول الأكفأ القادرة على القيام بوظائفها. كان بقاء الدولة رهناً بتنمية وتطوير مجتمعاتها واقتصاداتها، الأمر الذي جعل من تطورها مرتبطاً بالتطور الداخلي لهذه المجتمعات وغير منفصل عنه. حيث رافق هذا التطور ازدياد قدرة المواطنين -عبر الثورات كما عبر الضرائب- على المشاركة في إدارة الدولة وفرض قواعد ضابطة على سلوكها، فالديمقراطية سوف تتوسع بحسب تيلي من خلال الانتفاضات التي قام بها المواطنون وتقوم على المشاركة والمشاورات والتأثير في صناعة القرار، وتمكن المواطنين من تمثيل أنفسهم داخل الدولة.
فى الفقرات أعلاه نموذج نظرى يمكن مقاربته بما يجرى عندنا.
أسمح لى أن أختم بسلسلة تساؤلات ذات صلة بالظلال السنارية فى المشروع الوطنى. وهى ظلال تتصل بمشروع كتاب تحت عنوان “الفتح الثالث أم الاستقلال الثانى؟” أقوم عليه الان ويتعلق بمفارقة الثورة والدولة فى سودان ما بعد ابريل 2019. وهى مفارقة تذهب فى احدى ابعادها الى شىء أقرب الى الالغاز. كيف لشعارات المؤتمر السادس للحزب الشيوعى السودانى ” حرية، سلام، وعدالة” أن تتعايش مع، اِن لم نقل تبرر، سياسات التكييف الهيكلى والتى يقف الحزب ضدها منذ فترة مبكرة بشعارات “لن يحكمنا البنك الدولى”. كيف لجماهير خرجت وصدورها العارية تواجه رصاص كتائب الظل وقوات الامن رفضاً لسياسات واجراءات اقتصادية حكومية من بينها رفع الدعم، أن يتم تحييدها ولا تذهب بعيدا فى معارضة نفس السياسات، بل وحزم اجراءات أقسى منها؟ هل تقوم للذاكرة الجماعية المختزنة لتاريخ وأهوال القمع الانقاذى لثلاثة عقود دوراً فى تبرير وتمرير هذه السياسات “الجوع الجوع ولا الكيزان”؟ هل نحن اما مرحلة جديدة مرحلة الفتح الثالث لاقتصاد البلاد للقوى الخارجية؟ دشن الفتح الاول للقوى الخارجية محمد على باشا، وجاء الفتح الثانى الفتح مع الحكم الثنائى بدخول راس المال البريطانى، وهل ما يجرى حالياً هو الفتح الثالث لدخول رأس المال الامريكى والاسرائيلى؟ أم نحن على أعتاب تدشين مرحلة الاستقلال الثانى بعد الاستقلال الاول 1956؟
وارجو ايضاً ن تسمح لى أن أرجى تعليق على الحاضنة السياسية التى تستند عليها المرحلة الانتقالية ومبادرة رئيس الوزراء دكتورعبدالله حمدوك لمناسبة أخرى. فالعلاقة بين الحاضنة والمبادرة تستحق مقالاً منفصلاً لأنها، اِن تهيأت لها الظروف، تحمل بذرة واِمكانية بلورة نموذج سودانى مستفيدا من وبعيدا عن تجارب أخرى مثل فيتنام، البرازيل، رواندا وغيرها.
أكرر شكرى وتقديرى، وآسف للاطالة.
عطا الحسن البطحانى
جامعة الخرطوم.