خطاب “ما أريكم إلا ما أرى” الاقتصادي للحكومة الانتقالية (4)
بقلم : حسام عثمان محجوب
[email protected]
خصائص خطاب البدوي
ومن خصائص خطاب البدوي ومريديه، تبخيس قدر اللجنة الاقتصادية حتى يخيّل لغير العارفين أنها مجموعة من الجهلاء والمهرجين. وتبدو المخادعة في هذا المستوى من الخطاب، أن الدكتور إبراهيم البدوي يتجاهل ــ عن عمد ــ ذكر أن من أشرس منتقدي برنامجه علماء اقتصاد من خارج اللجنة، يأتون من نفس خلفيته الأكاديمية والمهنية، وعلى رأسهم الدكتور التجاني الطيب إبراهيم، الخبير الاقتصادي، الذي عمل عقوداً في البنك الدولي وصندوق النقد، واختاره آخر رئيس وزراء منتخب، الإمام الراحل الصادق المهدي، وزيراً للدولة في وزارة المالية في الديمقراطية الثالثة، والذي ظل ــ بدأب كبير ــ يقدم النصائح والتحذيرات والانتقادات لبرنامج البدوي منذ أيامه الأولى، عن معرفة واسعة وعميقة، وما زال، ويمكن للقراء الرجوع لمقالاته وحواراته ليروا تحقق توقعاته هو والاقتصاديين الأجلاء والعلماء د. علي عبدالقادر، ود. صديق أمبده، ود. معتصم الأقرع، ود. بكري الجاك المدني ود. خالد التجاني، الذين واصلوا الكتابة والحديث عن خطورة البرنامج وافتراضاته وتطبيقه، أو انتقدوا بعض جوانبه المهمة. كما أن اللجنة الاقتصادية، رغم غلبة الصوت العالي غير المفيد لبعض أعضائها إعلامياً، ورغم تعدد مدارس أعضائها الاقتصادية والفكرية والسياسية، بها عدد مقدر من علماء الاقتصاد، الذين يعلمون واقع السودان أكثر بكثير من معرفة د. البدوي ود. حمدوك، كما اتضح للمواطن العادي من واقعهم المعاش، ناهيك عن الاقتصاديين المحترفين. تكررت الاتهامات للجنة الاقتصادية ولمنتقدي البرنامج، بأنهم يجيدون الانتقاد ولا يقدمون الحلول، ولا يملكون برنامجاً متكاملاً. وفي ذلك برع الدكتور البدوي في تسمية برنامج اللجنة الاقتصادي بالرؤية القطاعية البديلة، تقليلاً له، في مقابل برنامجه الذي يهدف لإصلاح الاقتصاد الكلي. وقد ذكر عدد من أعضاء اللجنة الاقتصادية، أنهم تقدموا ببرنامج متكامل، وأن وزارة المالية والحكومة لم تقدما لهم المعلومات المطلوبة ليكون برنامجهم أكثر تفصيلاً، وهذا خلل يتحمله رئيس الوزراء الانتقالي ووزير المالية وقيادة قوى إعلان الحرية والتغيير. وقد تكررت وتواصلت هذه الممارسة وظهرت بأوضح شكل في إعداد موازنة 2021، حين تحدث عدد من ممثلي الأجسام المعتبرة والمسؤولة عن عدم إشراكهم، أو عن إخفاء كثير من المعلومات عنهم، أو عدم إطلاعهم على النسخة الختامية للموازنة قبل إجازتها.
ويستعمل الدكتور إبراهيم البدوي حيلة أخرى معروفة في تحليل الخطاب، هي اقتطاع جزء من خطاب الخصم وتفسيره وإثبات خطله، للتدليل على معرفته وإحاطته بالخطاب البديل وبعدم جدواه. في ذلك كثيراً ما يذكر البدوي اقتراح الدكتور صدقي كبلو، بوقف استيراد بعض السلع الكمالية لتوفير النقد الأجنبي الذي يفقده السودان بشرائها، ويذكر أن هناك دراسة أجريت أثبتت أن هذا المبلغ بسيط يقدر بـ 1.3 مليار دولار، والحقيقة أن هذا مبلغ كبير كنسبة من عائد الصادرات من العملات الأجنبية، أو كنسبة من فاتورة الواردات، أو إذا ما أخذ ضمن حزمة برامج متكاملة، ولكن د. البدوي يرفضه ببساطة وبتعالٍ “شحات وبيتشرط!”، ولا حتى كعامل مساعد يمكن أن يدخل ضمن برنامجه طالما كانت هذه السلع كمالية، ولن يخرج الشعب ليتظاهر إن غابت عن أسواقه ضحى الغد.
القصف بالمعلومات والأوراق البحثية
من التكتيكات المعروفة في التواصل مع الجماهير أيضاً، الإغراق بالمعلومات، وما أسهل هذا في عصرنا؛ يتحدث الدكتور إبراهيم البدوي في ورقته الأخيرة عن دراسة أوضحت نجاح تجربة الدعم المالي المباشر في ستة وخمسين برنامجاً، دون تفاصيل توضح الفروق بينها وبين الواقع السوداني، بينما يكرر الحديث الانتقائي فيما يشبه قطف الكرز (cherry picking) عن نجاحها في إحدى مناطق كينيا وفي البرازيل، أو عن نجاح تشيلي في تعويم العملة، دون أن يوضح مثلاً أن تجربة كينيا كانت تقتضي منح كل فرد ما يقارب 18 دولاراً في الشهر، لا 5 دولارات، كما هو مخطط في السودان، ودون أن يوضح أن برازيل لولا دا سيلفا التي طبقت هذه التجربة، قدمت نموذجاً مختلفاً ذا صبغة اشتراكية، ساد فيها التفاوض بندية مع مؤسسات التمويل الدولية، وأن هذا البرنامج كان واحداً من حزمة كبيرة من الإصلاحات التي انحازت للفقراء.
ولا يذكر الدكتور إبراهيم أنه رغم بعض التنازلات؛ للبنك والصندوق في برنامجه، فإن ذلك لم يشفع له ولا لخليفته ديلما روسيف، وكان تآمر المجتمع الدولي على التجربة صارخاً، وكأنه قرر تقديمها قرباناً تحذيرياً لمن تراوده نفسه بتكرارها، حتى أسقط التآمر لولا وديلما، وانتهت البرازيل تحت حكم اليمين المتطرف، النيوليبرالي، الشعبوي، شبه الفاشي. ودون أن يوضح البدوي أيضاً أن البرنامج الاقتصادي للحكومة التشيلية، ووجه بمعارضة جماهيرية واسعة النطاق، لما نتج عنه من زيادة في عدم المساواة الاقتصادية. كما قادت المعارضة للإسراع بإقرار دستور جديد في البلاد، ولمزيد من تنظيم الصفوف لمواجهة البرنامج.
المثال الآخر لذلك، هو حديث د. البدوي ود. حمدوك عن فيتنام (ودكتور البدوي منفرداً عن الصين)، وهما دولتان أسستا نظامين اشتراكيين في القرن الماضي، ركزا على تأسيس بنى تحتية وبشرية متينة، بعد تاريخ حافل من الثورة والنضال وملايين الضحايا، ثم اتجهت الدولتان للتعامل مع مؤسستي بريتون وودز والأسواق العالمية في العقود الأخيرة من موقع شديد الاستقلالية، وحسب احتياجاتهما الخاصة، لا وصفات جاهزة في رفوف مؤسسات الخارج.
ما يتجاهله الدكتور في التجربتين أنهما انطلقتا من مواقع مستقلة في التعامل مع البنك وصندوق النقد الدوليين، وليس من منطلق التبعية المطلقة التي يدعوان لها في حالة السودان. ونفس الأمر ينطبق على المثال الإثيوبي الذي يكررانه، فرغم فشل نظام الدرق الاشتراكي في تحقيق نفس مستوى تطور الصين أو فيتنام في البنى التحتية والبشرية، إلا أن تعامل نظام مليس زيناوي مع البنك والصندوق الدوليين، يصلح مثالاً مدرسياً نموذجياً للتعامل معهما من مواقع مستقلة تعرف تماماً ما تريد، وتفاوض للحصول عليه.
نواصل