حكاوى أطفال الحروب
حلم بحور الجنان أم بالجداد المشوى…
(قصص عن جحيم التسعينيات)
بقلم مبارك اردول
في بداية التسعينيات كنا صغارا لانعرف كثيرا عن الحرب التي تدور في مناطقنا، واسبابها -لما تدور ؟! ومن أجل ماذا ؟! نرى أهوالها ولا ندري أهدافها ، لايوجد تلفاز في مدينتنا ليخبرنا عن الأحداث ولا نعرف عن الإنترنت أو شبكة الهاتف، لا الثابت ولا السيار ولم نسمع عنهما أبدا، الوسيلة الوحيدة التي كانت موجودة هي محطة الراديو التي تبث ارسالها من مدينة الأبيض، كانت لا تقول شيئا عن تفاصيل الحرب، من الخاسر ؟ومن الرابح،؟ وكم الخسائر؟، فقط نسمع التعبئة إليها من طرف واحد، يتحدث في الاذاعة والي ولاية كردفان الذي تسبق إسمه عددا من الألقاب- سعادة، الوالي، اللواء، الركن، بحري،ثم بعدها يأتي إسمه (سيد الحسيني عبدالكريم،) نسمعه يكبر ويهلل ويهتف بطريقته المهووسة المعروفة، يحرض علي ضرب الخونة بيد من حديد المتمردين والمارقين والخوارج على أمير المؤمنيين، يردد بعض الآيات والأحاديث المكررة عن الجهاد، يخطب خلفه بعدما يفرغ من ازعاجنا بصوته الفج الذعور، بعض أئمة المساجد يتحدثون عن فضل الجهاد والاستشهاد وذاد المجاهد وأخوات نسيبة، التي لا نعرف اهلها وموطنها.
نتساءل من هم المتمردون ولما هم متمردون ومن أجل ماذا يتمردون؟ يتهامس أهلنا ليلا داعيين ومبتهلين الي الخالق بأن يحفظ إخوانهم واشقاءهم في الجبال، يرددون ربنا القادر يكون معكم.
اما نحن فلا نعلم شيئا عن الذي يدور، نريح بالنا من كثرة عناء البحث ونقول إنها من تعقيدات الكبار، لكننا نعود ونتساءل بدون إجابة متوقعة من أحد من أجل ماذا كل هذا ؟ لما الشقاء ولما التعب؟ آباءنا وأمهاتنا يسكتوننا كلما نريد أن نعرف شيئا عن هذه الأحداث أو نحاول أن نفتح نقاشا حول هذا الأمر، لنفكك طلاسم المسألة، بعضنا يعزي نفسه في سره قائلا لا عليك ياخ، أصبر سوف تعرف هذا عندما تكبر فلا داعي للاستعجال.
المخبرين منتشرين في كل مكان يخبرون ويقبضون كل يوم شخص متهم بالطابور الخامس الذي لا نعلم أوله ولا آخره ولا عدده، متهم او غير متهم ستذهب معهم، ولا ندري ماهي التهمة أصلا، فقط التقديرات عند من يقبضون، وهم ليسوا من الشرطة ولا من المباحث المعروفين، هم أناس مسلحين (بطبنجات) وفي لباس مدني ومعهم آخرين من العساكر يطيعون اوامرهم يطلق عليهم اختصارا (الف سين،) لا يقودونهم الي حراسات البوليس ولا يطلق سراحهم بالضمان المادي أو الشخصي، لا عريضة ولا وكيل نيابة ولا محاكمة ولا قاضي ولا قضية ولا شهود ولا محامي، فبين ليلة وضحاها يتحول المتهم الي مدان.
شي غريب يزيد علينا تعقيدات المشهد هكذا يقتادون هؤلاء الاشخاص ربما يعودون إن كانو ذوي حظوة أو معرفة بأحد وجهاء المدينة أو ربما من الأشقياء فنسمع بانهم قد (فسحوهم) في (خور مريسة) أو مشروع العلف، نردد نحن ضاحكين فسحوه خلاص، بالله، اووه لكن ما وقع وقعة سودة.
في صباح اليوم الذي بعده وكل صباح نقوم بنشاط الي فصول المدرسة وتقوم معنا الطائرات نحو فصولها ايضا، وما بين الفصول والفصول نسمع ازيزها قادمة وبنفس نشاطنا وشفقتنا الي حضور الحصص والدروس، فهي شفقانة اكثر منا وهي لاتتأخر يوما ولا تغيب مثلنا يوم الجمعة عن الحضور، من مطار الأبيض قادمة، تعبر فوق رؤوسنا متجهة في الجانب الجنوب الغربي من المدينة، يذهب صوتها بعيدا عن مسامعنا شيئا فشيئا، وتختفي قليلا من آذاننا ولكننا نفجع بسماعنا لدوي القنابل، نردد حينها لا ندري فرحا او حزنا ولكنه جهلا نقول مدوزنين دون،،، دون،،، الله يهون، وفي محلنا نتهم بعض نهتف واواي… واواي… واواي أنت ما راجل والله انت جبان نصفق علي بعض ونشير بأيادينا إلي بعضنا بأن القنابل قد خلعتك وهكذا كل مرة نبحث عن الخائف الجبان ونشير إليه عند كل طلعة وغارة.
لا ندري فوق رؤوس من كانت تنزل هذه القنابل، تحصد أرواح من؟ أبناء من؟ أطفال من؟ أسر من؟ اقرباء من؟ أحباب من؟ أهل من؟ كم يموتون من جراء ذلك القصف؟ وكم يصابون؟ وكم يذعرون؟.
بعض زملائنا من هم أكثر معرفة منا وأكثر قربا لأحاديث كبارهم يقولون لنا أنهم يقصفون المتمردين في تلشي إنها عصية عليهم أن يدحروا المتمردين فيها، انهم محصنين بالجبال، يكاد المشهد يكون اكثر تعقيدا بعد هذا، كيف يدحروهم والي أي مكان سيذهبون بعدها؟ وما عددهم؟ ولما كل هذا العتاد الذي يوجه إليهم عشرات الدبابة والمجنزرات والعربات والآلاف من الجنود والمجاهدين والطائرات فوق رؤوسهم؟ لماذا لم تدحرهم؟ يا إلهي كم عددهم؟ .
في الأمسيات نتوجه إلي زاوية الحي مجبرين بعد الاستحمام الشتوي البغيض نذهب مجرجرين ارجلنا لأداء صلاة المغرب، نشاهد عدد من الغرباء أصحاب الذقون الطويلة والايادي الملساة والخدود الناعمة متحلقين يتمايلون لحنا جماعيا ويرددون أناشيد تحث الناس على الجهاد والاستشهاد، يتحدثون عن ملذات الجنان عن المأكولات العسل واللبن واللحم والدجاج، عن الحور وجمال الحوريات والخيام وعذريتهن وبياض بشرتهن، في تلك اللحظة تذهب أفكارنا نحو الجنة، نتخيل فقط دجاجها المشوي وفواكهها ولبنها وعسلها، يذهب خيالنا هناك من فرط جوعنا وكرهنا من أكل العصيدة والكسرة بملاح شرموط أو خضرة وملوخية، تتهيأ لنا اللحظات التي نمسك فيها بافخاذ الدجاج المشوى نتلذذها بين أسناننا، نتخيل ونسرح حتى يسيل لعابنا وتتضور بطوننا جوعا وعشما لتلك اللحظة، لاشي يجعلنا نفكر في أفخاذ الحوريات ولا اردافهن ولم نكن نتوقع أن القصد من الحديث عنهن في المسجد بسبب (قلة الأدب)، فالجنس آخر اهتمامات الجوعى وليس من أجندة الأطفال، لم نكن نعرف الخشوع ولو كنا نسمع عنه كل يوم، فاليوم نحن معذورون لأنهم قد حدثونا بشئ لايمكننا نسيانه ونحن في تلك الحالة، المهم استوينا على الصفوف لنكمل صلاتنا ونحن في عشم لتذوق ذلك الطعم.
يقوم إمام الحي بعد الصلاة في كلمة ترحيبا بالضيوف، يقول لنا بأنهم إخوتنا المجاهدين متوجهين إلي الجهاد في جبال تلشي دعونا ندعوا الله بأن ينصرهم، يا شيخ ماذا تقول مجاهدين، اخوتنا، جهاد، في جبالنا، ضد أهلنا، ونحن ندعو الله بأن ينصرهم ؟؟؟؟ إن المشهد قد جمع عددا من المتناقضات وفاق ان يوصف بأنه معقد وتعدى مرحلة التصور !!!.
على كل حال نخرج من الزاوية مسرعين نحو المدافيء، هذه الزاوية المتحالفة مع موسم الشتاء والتي تاوي البرد مع أولاده وبناته وتحضنهم في جنباتها، نخرج منها ولانفكر في صلاة العشاء بعدها، ركلنا خيالاتنا عن أفخاذ الدجاج وخرجنا جوعى لكسرتنا وواقعنا البئيس، لم نفكر في الحوريات ولم نكن نعلم أن استرسال الخيال في أفخاذ النساء أشد إيلاما وسواءا من الخيال نحو أفخاذ الدجاج.
ودعنا الزاوية بمجاهديها الذين يغطون أنفسهم بفنائل الصوف النظيفة والجميلة الدافئة والتي تراهم حين يلبسونها ويجلسون كان الجو حولهم في عز الصيف ونحن وحدنا نشقى غارقين في موجات البرد.
ذهبنا وتحلقنا في المدافيء لنسمع حكاوي من أحد أبناء حيينا يدعى (ط ا ع) العائد من حرب الجنوب، يجمعنا ويحكي لنا عن بطولاته وجولاتهم هناك، يحكي لنا عن قائد متحركهم الصارم الذي كان يقول لهم في مدخل كل قرية لا أريد أن أسمع ولا طلقة، يقول هذا وهو يشير بيده نحو القرية ويتجه عكسها، لأنه لا يريد ان يرى شيئا أيضا، القرية والقرى المنتشرة في الجنوب والتي تقع علي ضفاف أنهار الجنوب وبين وديانها، أغلبها لا يوجد بها مايشير بأن فيها ثكنة عسكرية يجب أن تستهدف، يسكنها أناس عاديون ككل سكان القرى، يلبسون ملابس مدنية، نساء ابنوسيات يلفحون اللاوو ويضعون في أرجلهم السكسك، رجال طوال سود مشلخين يشربون الكدوس ويجلسون تحت الأشجار، بعضهم يصنع الحبال وآخرون يصنعون الاثاثات من خشب الأشجار وآخرون مشغولون في صيد الأسماك، هكذا قد وصفهم لنا، ونحن نسأله بصوت واحد وماذا فعلتم حينما قال لكم لا أريد أن أسمع ولا طلقة، يقول لحظة وصولنا للقرية يتوقف كل من كان مشغولا في مهنته من سكان القرية، يتوجهون إلينا بأنظارهم والي الرتل العسكري القادم نحوهم، ولكنهم يفرون منا عندما يبدا الجزر في تجزير أول شخص بالقرب منه، الأول الذي عندما نجزره ونقطع راسه يفرون، يفرون هاربيين ومفزوعين مولولين، ومن هنا تبدا المطاردات تحت صرخات ونداءات وبكاء وأنين وشخير، نطاردهم خلف كل البيوت والأشجار والقناطير بالسواطير والفؤوس والسكاكين، لا نطلق عليهم ولا رصاصة ولا واحدة تنفيذا لتعليمات قائدنا، فهو قد أمر بذلك واوامره مطاعة، يا لها من مشقة مطاردة ودماء مراقة وأشلاء مقطعة.
اقشعرت جلودنا من هذا الحكي، سألته بربك كم نفر قتلته في تلكم القرى، يردد لا أدري والله، كم منهم قد قطع جسده ذلك الساطور الذي أضعه تحت سريري الآن، يسألني هل رأيته؟ هل رأيت ساطوري؟ رددت له نعم أليس ذلك الأبيض النظيف الذي يلتف في ممسكه عند المؤخرة بالخشب، يقول نعم هو زات نفسه.
في الصباح الباكر نصحو على صرخات قادمة من منتصف الحي وهتافات تردد
الله اكبر
الله اكبر،
الله أكبر
هاهم المتمردين قد جلبناهم هاهم الخونة انظروهم، نفر نحن مسرعين لنراهم كيف يبدون وهل يطابقون الأوصاف التي نسمعها عنهم، هل هم أناس عاديون أم لديهم قرون وزيول ؟ كيف تبدوا أسنانهم هل مثلنا ام مثل الدراكولا ومصاصي الدماء؟ ماذا عن أيديهم هل هي مثل الغوريلا، ولكن عند شارع الظلط نشاهد عربة هايلوكس مكتوب عليها منسقية الدفاع الشعبي قطاع كردفان يمشي خلفها ثلاثة أفراد مثلنا وتسقط كل الأوصاف والتصورات أمامهم، انهم عاديون ولكنهم يلبسون ملابس رثة موثوقين من اياديهم من الخلف، تجرهم العربة خلفها بحبل وهم مربوطون في خصرهم، تسيل الدماء لتغطي أجسادهم، يضربهم كل من يحمل عصاة أو الة في يده، لا أحد يمنع من يضربهم، لا أحد يشفق عليهم ولا هم يلتفتون لمن يضربهم، (يتضايرون )ممن يهم بضربهم بقدر المستطاع، ولكنهم لا يفلحون، يشتمونهم خونة، خوارج، كفار حطب النار، انانيا، الليلة ما حا نفسحكم سريع عشان ترتاحوا، نعذبكم كده بس، والعسكر في ظهر العربة كانهم يتلذذون بضرب الناس لهؤلاء (المربوطين)، يهتفون بصوت عالي أجمعوا اكبر عدد من المشاهدين، تعالوا وشوفوهم، ساروا بهم في كل أحياء المدينة، جرجروهم وذهبوا بهم، اما نحن فقد أصابنا الفتر والاستياء من ضرب هؤلاء، دون معرفة للاسباب، عدنا وتعقدت المعادلة أكثر من معادلات الكيمياء الحيوية.
في مساء اليوم حاولنا ان نحكي عن المشهد ولكن زجرنا الكبار بأن نصمت ولا نحكى عن هذا ابدا، لان من بين الثلاثة هؤلاء أحد من أقرباء جيراننا، يعمل كمزارع بسيط يعيش على مزرعته ويسكن في بيته في منتصف المزرعة في مدخل قرية كمري، اقتيد من قبل الجيش المهاجم وهو شخص لا علاقة له بالمتمردين ولا يدري ماسبب كل هذا، ولكن لا أحد يتجرا ويستطيع أن يتحدث عنه ليخرجه من هذه الورطة، والا فانه سوف ينال نصيبه مثله.
تلشي يا تلشي كانوا يهتفون ويملؤن الطرقات بالجيوش والمجاهدين، يهتفون ويطلقون الرصاص في الهواء، يتوعدون المتمردين بالويل والثبور وعظائم الامور، شاهدنا عددا من شباب المجاهدين يلبسون لباس عسكري انظف كثيرا من ملابس الجيش، لكنهم لا يضعون عليها شارات أو علامات تميز رتبهم العسكرية أو وحداتهم، لا شي غير لباس الكاكي النظيف الذي يلبسونه ويلفون رؤوسهم بشريط أحمر اللون، علامة واحدة تضاف إلي ذقونهم تستطيع تمييزهم من العساكر الجربندية أو الباشنقوا.
ولكن بعد أيام من القصف المتواصل واسابيع من هدوء المدينة من ضجيجهم وجهادهم وحورهم باردافهم وجدادهم ولحم طيرهم وسكران جنانهم يعودون فرادى وجماعات، يعودون مع بداية الأمطار وهبوب رائحة الدعاش، يعودون وكان شيئا لا يسرهم قد حدث، العربات والطوف الطويل يعود متقطعا واحدا واحدا، الحور ذوات الارداف والغناء والأناشيد والدجاج الذي اشتهيناه والخبز الذي تقطعت بطوننا فيه، هل كل هذا أصبح في عداد البوار؟ يا إلهي مرة أخرى …..
يضحك كبارنا شامتين في سرهم يرددون أولاد الكلب طردوهم، ويقولوا مبتهجين ماقلتوا ماشين الجنة جيتوا مالكم ولا الأبواب مغلقة.