سقوط الرئيس البشير
بقلم عبدالوهاب الافندي
في فترات نادرة من تاريخ الشعوب، تتاح لبعض القادة فرصة صناعة التاريخ وإعادة صياغة واقع الشعوب وتحديد مصيرها. والرجال العظام هم من ينجحون في تحويل هذه الفرصة إلى ولادة جديدة، كما فعل نابليون وديجول في فرنسا، وجورج واشنطن وتوماس جيفرسون في أمريكا، ونيلسون مانديلا في جنوب افريقيا وراشد الغنوشي في تونس ورجب طيب اردوغان في تركيا، وكثيرون غيرهم من العظماء. وقل ما تتكرر هذه الفرصة، إلا في حالات أندر، كما حدث لنابليون وونستون تشرشل.
ولكن لم يحدث قط أن أتيح لشخص واحد سبع فرص متتالية لأن يكون قائداً حقيقياً لشعبه، كما حدث للرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير، ثم فشل فيها جميعاً، وذلك هو الخسران المبين. فقد أتيحت الأولى عندما نفذ انقلابه في حزيران/يونيو 1989، في وقت كانت البلاد فيه في أتون حرب أهلية مدمرة وشلل سياسي، وعلى حافة الانهيار الاقتصادي والعسكري. وكان ممكناً حينها توحيد قوى الشعب السوداني حول برنامج لإنهاء الحرب وإصلاح الاقتصاد واستعادة ديمقراطية مستدامة. وهو مقترح قلة من داخل النظام، وسياسيين معارضين مثل زعيم حزب الأمة الصادق المهدي قبل أن يقرر مغادرة البلاد والانضمام للمعارضة المسلحة. ولكن البشير ومن معه اختاروا الحرب ضد الجميع، فكان ما كان.
للإنصاف فإن البشير لم يكن يتحمل كامل المسؤولية، لأن الأمور كانت بيد الشيخ حسن الترابي، ولا يعفيه هذا من الإثم، لأنه كان جزءاً من المنظومة القيادية، وكان من يحتكر كل الصلاحيات التشريعية والتنفيذية. وقد نجحت الحكومة وقتها في تحجيم طموحات الحركة الشعبية وجرها إلى مائدة الحوار، مما أتاح فرصة جديدة لإعادة صياغة الساحة السياسية عبر مفاوضات متوازنة مع الحركة الشعبية تحت رعاية افريقية، في أبوجا أولاً، ثم نيروبي ثانياً بين عامي 1992-1994. ومرة أخرى ضاعت أو ضيعت هذه الفرصة بسبب عدم الجدية من قبل الطرفين، وإن كانت الحكومة تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية، لأنها عزلت نفسها دولياً وإقليمياً وداخلياً، ولم يكن لها برنامج سياسي يلقى المقبولية. ظهر هذا بوضوح عندما أتيحت الفرصة الثالثة، وذلك عبر اتفاق الخرطوم للسلام الموقع مع جناح رياك مشار في الحركة الشعبية، وما تبعه من صياغة لدستور عام 1998. فلم يستجب الدستور للحد الأدنى من تطلعات الشعب والقوى السياسية في التعددية والحريات، كما لم يكن هناك حرص على مشاركة حقيقية مع حركة مشار، مما دفع بالأخير للعودة مجدداً إلى حضن الحركة الشعبية.
أتيحت فرصة رابعة بعد الانقلاب على الترابي في عام 1999، وتسلم البشير مع نائبه علي عثمان السلطة كاملة، وسط ترحيب إقليمي ودولي ومحلي. وسقطت بذلك كل الأعذار حول المسؤولية الكاملة. وقد تزامن هذا الانفراد بالمجد مع بدء تدفق النفط، بحيث أصبح لحكومة السودان موارد لم تتح لأي دولة سودانية في السابق منذ أيام بعانخي. كان بإمكان البشير مرة استغلال الفرصة، خاصة وأن المهدي كان قد عاد إلى البلاد ووقع مع النظام اتفاقية تفاهم تسهل الشراكة في استعادة الديمقراطية. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل زادت الأوضاع تدهوراً. رغم ذلك ساعد جماع هذه التطورات، ومنها التقارب مع أمريكا عبر التعاون الأمني وتحسن وضع النظام المالي والعسكري، في خلق الفرصة الأهم، حيث مهد الطريق أمام اتفاقية السلام الشامل التي أنهت حرب الجنوب وخلقت لأول مرة حكومة قومية تحظى بدعم شعبي ودولي كاسح.
كانت هذه فرصة تاريخية لوضع السودان لأول مرة على مسار التعافي. فبخلاف اتفاقية أديس أبابا عام 1972، أتاحت الاتفاقية المشاركة السياسية لكافة القوى السياسية على أساس دستور يؤكد على المواطنة المتساوية وحماية الحريات والحقوق الأساسية للجميع ويعزز الحكم الفدرالي. كل هذا في ظروف مواتية نادرة: وجود موارد كبيرة تحت تصرف الدولة عبر النفط، وحماس دولي كاسح صحبته وعود سخية بالدعم.
ولكن البشير أضاع هذه الفرصة الخامسة خلال عقد ونصف (ومعها فرصة سادسة برزت من خلال لقاء كنانة الذي أعقب صدور طلب اعتقال الرئيس من قبل محكمة الجنايات الدولية في عام 2009)، وذلك أولاً بارتكاب حماقة وكبيرة تفجير الأوضاع في دارفور، ثم بعدم احترام الاتفاقية ونصوص الدستور في المشاركة السياسية وإتاحة الحريات. وكانت النتيجة التواطؤ مع الحركة الشعبية، بحيث يسمح لها بقمع مواطنيها وتزوير الانتخابات في الجنوب، على أن يكون للبشير نفس «الحق» في الشمال. وكانت النتيجة إضاعة هذه الفرصة العظيمة وتحويلها إلى كارثة عبر تمزيق البلاد، وفصل الجنوب، وتدمير دارفور، وتحول السلام إلى حرب جديدة في جهات كثيرة من البلاد.
كان كل هذا يكفي لمعاقبة من تسببوا في كل هذه الكوارث، ليس فقط في محكمة الجنايات الدولية، بل في محاكم الشعب. فلو كان هذا نظاماً إسلامياً كما يزعمون، وكان هناك قضاة يخافون الله ورسوله، لكان الأولى جلب البشير ومعاونيه إلى محاكم للقصاص العادل. فليس هناك في الشريعة «حصانة» لأي شخص أو مسؤول من تطبيق الشرع. يكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتاح لمن خاصمه القصاص في حادثة بسيطة، فكيف بالقتل وارتكاب الفواحش؟
المدهش هو أن الذي حدث العكس، فقد أتيحت للبشير فرصة سابعة، هي بالقطع الأخيرة، لاستنقاذ نفسه من الحفرة التي حفرها لنفسه. فقد استجابت كل القوى السياسية لدعوته للحوار في كانون الثاني/يناير من العام الماضي، وعرضت حتى الحركات المتمردة وضع السلاح والدخول في الحوار. وقبل ذلك كانت مبادرة الاتحاد الافريقي برعاية الرئيس تابو أمبيكي، ومعها المبادرة القطرية حول دارفور، قد فتحتا الباب لحل سياسي شامل يضع البلاد على طريق الاستقرار. وقد قبلت المعارضة طائعة قيادة الرئيس البشير للمرحلة الانتقالية، مما كان سيجلله بالفخار كزعيم يرتضيه كل السودانيين، ويقود البلاد عبر الإجماع إلى مستقبل مشرق.
إلا أن البشير يبدو اختار، وللمرة السابعة، أن يكون دكتاتوراً صغيراً بدل أن يكون زعيماً كبيراً. فكما يظهر من خطاباته المتكررة، وكان آخرها السبت الماضي، ومن ممارسات حكومته من اعتقالات غير مبرة للمعارضين، فإن البشير قد تراجع عن فكرة الحوار – إن كان جاداً فيه من الأساس- واختار المواجهة. فهو يتحدى معارضيه لخوض انتخابات ليست بحقيقية إلا بقدر ما كان حواره حقيقياً. فهو أشبه بمن قيد رجلي منافسه وقدميه ومنع منه الماء ثم دعاه للسباق. فالنظام اختطف الدولة، واحتكر أجهزة إعلامها وكل مواردها، وكمم أفواه المعارضين، وحرم المسيرات والمهرجانات الانتخابية، ثم قال للناس تعالوا ننتخب. فانتخاباته أشبه بانتخابات الأسد الذي أرسل الشعب في إجازة خارج البلاد ثم انتخب نفسه، وحواره مثل حوار الحوثي، الذي ينسف بيوت معارضيه أو يحاصرها ثم يقول لهم تعالوا نتحاور، ويوقع الاتفاقات ولا يلتزم بها.
وقد تذرع البشير بأفعال الحوثي لرفض الحوار «خشية الفوضى». وما ينساه الرئيس هو أن مشكلة اليمن لم تبدأ بالحوثي، كما أن مشكلة العراق لم تبدأ بالغزو. ولو أن رؤساء مصر واليمن وليبيا وتونس والعراق وسوريا وغيرهم جلسوا للحوار مع معارضيهم، وتفهموا بعض مطالبهم المتواضعة في الحريات والمشاركة لكانوا ما زالوا في الحكم، أو على أقل تقدير، لأصبحوا رؤساء سابقين يقيمون معززين مكرمين في أوطانهم. وهذه العبرة للبشير، وليس حال اليمن بعد سقوط صالح، وهو غير مسؤول عما يحدث بعد سقوطه المحتوم إن استمر في نهجه المدمر الحالي.
كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن