Monday , 25 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

المؤتمر القومي الدستوري هو الخيار الأمثل للسودان

بقلم ياسر عرمان

قبل 59 عاما، نالت دولة السودان إستقلالها، ضمن أوائل الدول الأفريقية التي حصلت على الإستقلال. ومع ذلك ظل الشعب السوداني، وحتى اليوم، غير قادر على بلوغ مشروع البناء الوطنى بسماته المعروفة والقائمة على التوافق الوطني، والمواطنة المتساوية، والديمقراطية، والتنمية المستدامة والإستقرار السياسي، وذلك على الرغم من الفرص العديدة و التى أهدرت جميعها . و يظل التساؤل الذي يواجه السودان، بل هو تساؤل تواجهه كافة الدول الإفريقية و ربما العالم أجمع، خاصة في سياق البلدان النامية، والمتمثل في كيفية بناء الدول الحديثة والتعبير عن قضايا التنوع، سواء كانت دينية أو أثنية أوثقافية، بما فيه تلبية متطلبات العدالة الاجتماعية في إطار ديمقراطي.

قبل 29 عاما، عندما قررت الانضمام الى الحركة الشعبية لتحرير السودان، كان الأمر الأكثر جاذبية في مخاطبتى للأنضمام، هو بساطة و قوة طرح رؤية السودان الجديد، وهي الرؤية التي حثت السودانيين للعمل على بناء القواسم المشتركة فيما بينهم و التركيز على ما يجمع لا على ما يفرق وذلك بتوحيد السودان من خلال الإعتراف بتنوعه الواسع . لقد كانت بلادنا، السودان، تتكون في ذلك الحين من أكثر من 570 من القبائل المختلفة، متعددة المعتقدات والأديان والثقافات والخلفيات الاجتماعية، بالإضافة إلى تنوع السودان التاريخي العائد إلى أكثر من 7000 سنة. وبما أننا في النرويج، فمن الجدير التذكير بأن المسيحية حطت رحالها فى ارض السودان في تاريخ سابق بكثير لشمال أوروبا. لقد كانت هنالك ممالك مسيحية في السودان دامت لأكثر من ألف عام. ثم إنتشر الإسلام من خلال الطرق الصوفية والتبشير الديني في شمال السودان خلال ما يقارب 900 عام حتى قيام أول سلطنة إسلامية في العام 1505. إن السودان جزء من حضارات وادي النيل القديمة، وهو ما يؤكد حقيقة أنها بلاد شكلها التنوع التاريخي والمعاصر علي حد سواء.

لقد فشلت كافة الحكومات خلال السنوات الـــــ 59 الماضية منذ الإستقلال في التعرف على مكنون ذلك التنوع، كما فشلت في التوصل إلى صيغة البناء الوطنى بمؤشرات واضحة. و لقد بلغ الفشل ذروته بهيمنة أجندة الإسلام السياسي بعد إستيلائها على الحكم عبر الإنقلاب العسكري في 1989. ذلك الإنقلاب جاء تعبيرا عن الفشل التام في الإعتراف بالتنوع حتى داخل السياق الواحد للثقافة الإسلامو- عروبية. إن ما ظل يحدث في السودان على مدى السنوات الـــــــ 26 الماضية هو النسخة السودانية لما يعرف بداعش، وهو ما ظل يحكم السودان إلى أن إنتهي به الحكم إلى تقسيم البلاد وإلى إرتكاب الإبادات الجماعية، وذلك في سياق محاولات الحاكمين لبناء مشروعهم الأحادى على أساس الإسلام السياسي. أما الآن، فقد أمسى واضحا، حتى وسط بعض دوائر الإسلاميين، خطأ وخطل مسار الإسلام السياسي هذا مما يستوجب تغييره. ليعاد طرح السؤال من جديد حول أفضل الآليات للتغيير الصحيح، وفقا لمعايير جديدة من شأنها أن تؤدي إلى إعادة الهيكلة والتغيير الديمقراطي وصيانة وحدة السودان على أسس جديدة تحقق التوافق الوطني، وهي القضايا التي تشكل موضوع حديثنا اليوم؟

إن العام 1983 مثل البداية للتوصيف الصائب من قبل الدكتور جون قرنق لمشكلة جنوب السودان بانها مشكلة السودان في جنوبه، وأن أي معالجة جذرية لها يجب أن تتم في سياق الحفاظ على وحدة السودان، بالإعتراف بطابعها كأزمة قومية، واهمية تحقيق الوحدة الوطنية على أسس جديدة تعكس وتحترم التنوع. إن فشل الحكومات المتعاقبة في حكم السودان في الإعتراف بحقيقة هذه الأزمات هو من قاد ويقود السودان في مساره الحالي، بما فيها إنفصال جنوب السودان، وإذا لم يتم الإعتراف بالقضايا والأزمات الحالية فى دارفور و جبال النوبة و النيل الأزرق، و غيرها من قضايا التهميش، ضمن إطارها القومي، فإن تلك القضايا والأزمات ستؤول إلى ذات النتائج.

ومن مفارقات التاريخ، أن الحاجة إلى رؤية السودان الجديد أصبحت اليوم أكثر إلحاحا مما مضي لدولتيّ السودان وجنوب السودان للحفاظ على وحدة أيآ منهما، و الإنتقال إلى مسار جديد ولحقب تسودها الديمقراطية والمواطنة المتساوية والتنمية والعدالة الاجتماعية. ومرة أخرى يظل الرهان الوحيد هو رؤية السودان الجديد، بما فيها مقدرة تلك الرؤية في توفير الإطار العام لإعادة توحيد السودانين تحت لافتة “الإتحاد السودان”، والذي في مقدوره أن يجمع بين دولتين مستقلتين، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، مع إحتفاظ أيا منهما بخصوصيتها ووجودها ككيان مستقل و مع الأحذ فى الإعتبار التباين بينهما و الإتحاد الأوروبى.

شهد العام 1984 محطة هامة في التاريخ الفكري السياسي السوداني، حينما تقدم الراحل الدكتور جون قرنق دي مبيور، المفكر الوطني السوداني العظيم، بإقتراح إلى الرئيس الراحل جعفر نميري لعقد مؤتمر قومي دستوري بديلا لصيغة تقاسم السلطة التي إقترحها الرئيس نميري حينها. ومنذ ذلك الحين، ظلت فكرة المؤتمر القومي الدستوري تلوح في الأفق مؤكدة على جدارتها، كما هي الخيار الأمثل الآن، إن لم تكن أخر ما تبقى من فرص تحقيق الإجماع الوطني.

الحوار الوطني

في يناير 2014، قبل عام من الأن، دعا الجنرال عمر البشير إلى عملية سياسية أسماها الحوار الوطني لتجمع كافة القوى صاحبة المصلحة العامة في السودان. وعلى الرغم من التخوف من أن مبادرة الحزب الحاكم للحوار الوطني قد تتحول إلى إحدى خدع النظام مثل محاولة كسبه للوقت بغية الوصل إلى مرحلة الإنتخابات، إلا أن دعوة البشير تلك تم إستقبالها بقدر من الإيجابية من معظم القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني، إضافة للنوايا الحسنة التىي حظيت به من قبل المجتمع الإقليمي والدولي. ونحن إذ نتحدث اليوم في يناير 2015، أي بعد عام كامل من إطلاق مبادرة البشير، يتضح بأن ما تحقق وثبت هو الاسوأ في تلك التخوفات، وأن النظام الحاكم ليس لديه ما يقدم سوى المزيد المراوغة والخداع للقوى السودانية، ومنها ما أسماه بالحوار الوطني منذ عام. وفي المقابل لذلك، لم تفتر جهود القوى السياسية والمدنية المعارضة من العمل والتحرك للوصول إلى محطة الحوار القومي الدستوري الحقيقي، وهو الحوار الذي لايختلف كثيرا عن النداء التاريخي السابق لعقد المؤتمر القومي الدستوري الذى طرحه فى السابق الدكتور جون قرنق.

إلا أن كافة تلك الجهود لحوار وطني دستوري حقيقي وشامل من قبل القوى السودانية، وبدعم القوى الدولية والأقليمية، لم تجد سوى التثبيط والرفض من قبل النظام الحاكم في الخرطوم.

واليوم في يناير 2015، يوصف المشهد من قضية الحوار بإصطفاف واسع وهائل من قبل القوى السياسية والمدنية المعارضة ودعمها لمقررات إجتماع مجلس السلم والأمن الأفريقي بالرقم (456)، وهي المقررات التي حددت خطوتين رئيسيتين تمهدان الطريق من أجل عملية ذات مصداقية وموثقة للحوار الوطني، وهما:
• عقد إجتماع تحضيري للقوى السودانية بمقر رئاسة الإتحاد الأفريقي في أديس أبابا، وتحت إشراف الآلية الأفريقية رفيعة المستوى (AUHIP)، وذلك بغرض إتفاق الأطراف السودانية على برنامج العمل والقضايا الإجرائية.
• الوقف الشامل للأعمال العدائية، من النيل الأزرق إلى جبال النوبة/ جنوب كردفان وإلى دارفور، بإعتباره أولوية ومدخل لنجاح عملية الحوار القومي الدستوري.

وعلى الرغم من المجهودات الكبيرة التي ظلت تبذلها الآلية الأفريقية رفيعة المستوى والأتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي عموما من أجل عملية للحوار الوطني الشامل والحقيقي، إلا أن النظام الحاكم في الخرطوم لم يتوقف عن تعويق وعدم السماح لتلك الجهود من أن تثمر، مستمرا بالمقابل في التحضير لتنظيم إنتخابات الحزب الواحد، بما تعنيه في جوهرها من تمديد وإستمرار لهيمنة حكم الحزب الواحد ونظامه الدكتاتوري. إن الإصرار على إنتخابات هيمنة الحزب الواحد، وإجرائها في المواجهة مع دعوات الحوار القومي الدستوري، لن تؤدي سوي لتصاعد السخط الشعبي على النظام، بما فيه إنضمام دوائر من داخل الحزب الحاكم للعمل المعارض، هذا إضافة إلى خطورة قيام الإنتخابات في مناخ الإستقطاب الحالي وما قد يسفر عنه من إزدياد وتمدد العنف.

الحقائق الجديدة

لقد شهد المشهد السياسي السوداني مؤخرا حراكا وتغيرات كبيرة، خاصة فيما يتعلق بإتساع وتطور العمل المعارض ومن ثم التغيير في موازين القوى. فبعد وحدة الحركات السياسية ذات العمق الإجتماعي في المناطق المهمشة في معسكر واحد تحت مظلة الجبهة الثورية السودانية (SRF)، قامت الجبهة الثورية بتطوير تواصلها مع حزب الأمة القومي ووقعت معه على وثيقة إعلان باريس في 8 أغسطس 2014. كما قامت بعدها مجموعة إعلان باريس ( الجبهة الثورية وحزب الأمة) بالحوار مع لجنة (7 + 7) من الأحزاب المنضوية تحت الحوار الوطني الخاص بالحزب الحاكم، حيث وقع الطرفان مع الآلية الإفريقية على خارطة طريق لعملية حوار وطني حقيقي. أما التطور النوعي الكبير، وما أفرزه من حقيقة سياسية جديدة في 3 ديسمبر 2014، فيتمثل في إتفاق القوى السياسية والمدنية المعارضة على تشكيل النواة الصلبة للعمل المعارض، وتوقيع قوى الإجماع الوطني وحزب الأمة القومي والجبهة الثورية السودانية ومبادرة المجتمع المدني على الإعلان السياسي لتأسيس دولة المواطنة والديمقراطية، المعروف بــــــ ( نـــداء الســـودان). وقد حدد ( نـــداء الســـودان) بوضوح جدول الأعمال ومسار عملية الحل السلمي الشامل، من خلال دعمه لتطبيق مقررات مجلس السلم والأمن الإفريقي بالرقم (456)، وفي حالة عدم الإيفاء والإلتزام بتلك العملية فقد حدد ( نـــداء الســـودان) كذلك، وبذات الوضوح تبنيه للإنتفاضة الشعبية السلمية من أجل إسقاط النظام الحاكم.

إن الحقائق الجديدة والتغير بظهور توازن جديد للقوى بين النظام الحاكم والقوى المعارضة لها، يتكاتف معها تزايد السخط الشعبي النظام الحاكم والناجم عن الأوضاع الإقتصادية المتدهورة ومستويات المعيشة السيئة. ففي الوقت الذي تصرف فيه الحكومة نحو 70% من ميزانية الدولة السنوية في العام الماضي، على عملياتها الحربية وعلى جهاز الأمن وعلى منصرفات مؤسسة الرئاسة، نجد نفقاتها على قطاعيّ الصحة والتعليم لم يتجاوز الـــــــ 2%. هذا النمط من الإنفاق عند وضع الميزانية السنوية للدولة هو ما تم العمل به في ميزانية العام 2015. فقد تم تخصيص المزيد من الموارد المالية لإستخدامها في التجنيد وفي جلب الميليشيات مدفوعة الأجر للقتال في جبهات حروب النظام الفاشلة نتائجها. أما النجاح الوحيد للنظام في توظيف ميزانياته الحربية هو المزيد من الإبادات الجماعية والجرائم الإنسانية ضد المدنيين الأبرياء. حيث إستمرت موجات النزوح الجديدة للمواطنين، بما فيها الإحصاءات الرسمية لهيئات الأمم المتحدة المعنية، والتي أكدت بأن العام 2014 قد شهد تشرد نحو نصف مليون مواطن(ة) من أقاليم دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة/ جنوب كردفان.

ومن ضمن التطورات الجديدة والجديرة بالإشارة هنا قيام الجنرال البشير بتعديلات دستورية رئيسية وخطيرة، ستؤدي إلى تغيير جذري بتركيز أوسع للسلطات في يدي البشير فقط، وليتطور نظام الحكم من نظام الحزب الواحد ليضاف إليه ونظام الرجل الواحد. حيث شملت التعديلات، تعيين ولاة الأقاليم من قبل الرئيس بدلا عن إنتخابهم، وتقنين وضعية مليشيات الجنجويد والدعم السريع وغيرها من مليشيات وإعتبارها قوات نظامية مع تزايد إضمحلال سلطة الدولة، ومنح سلطات دستورية تعلي من دور جهاز الأمن والمخابرات، والتغول التام على السلطة القضائية بوضع صلاحيات التعيين في يد الجنرال البشير. وغيرها من تعديلات أمنية تجعل السودان دولة بوليسية بوضوح لا لبس فيه. إن الحقيقة الجديدة المترتبة على واقع التعديلات الدستورية الأخيرة بمثابة المسمار الأخير في نعش القضاء و دعوة النظام الحاكم للحوار الوطني، وتحويل الحوار إلى عملية عقيمة لهدر الوقت وتحطيم أي آمال رسمت لحوار وطني حقيقي.

منع من وصول الغوث والقصف الجوي للمدنيين

يمثل سلاح الطيران السوداني السلاح الجوى الوحيد في البلدان الأفريقية الذى يتم إستخدامه على نطاق واسع وبصورة شبه يومية في قصف المدنيين، وفي تدمير البنيات التحتية الخاصة بتوفير الخدمات للسكان من مستشفيات ومراكز صحية ومدارس ومحاصيل زراعية محدودة ومضخات للمياه الصالحة. وبالإضافة إلى إستمرار وإتساع عمليات القصف الجوي ضد المدنيين وممتلكاتهم، فإن النظام الحاكم في الخرطوم ما يزال في رفضه وتعويقه لعملية إيصال المساعدات الإنسانية الملحة للمحتاجين من المدنيين من الضحايا، خاصة في مناطق جبال النوبة/ جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور. إن القصف الجوي المستمر والحرمان بمنع إيصال الغوث الإنساني، والإنتهاكات والجرائم الجسيمة المترتبة عليهما تضم من العناصر ما يشكل إستمرار النظام الحاكم في إرتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. إن هذه الجرائم الكبرى يتم إغترافها على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي، لا تتحرك تجاهها سوى أصوات محدودة . إن الأوضاع الإنسانية في هذه المناطق هي من ضمن الأزمات الأكثر بشاعة في خصائصها في وضعنا الراهن، لذا فإن دور الحكومة النرويجية والشعب النرويجي في المجال الإنساني مطلوب وبقدر أكبر، وستضيف قيم مضاعفة مماثلة لما ظلت تقدمه خلال العقود المنصرمة.

الإنتخابات ليست بديلآ للحوار الوطني!

بات واضحا أن أبريل 2015 هو الموعد الذي ضربه حزب المؤتمر الوطني الحاكم للإنتخابات القادمة في السودان، وأن التلاعب بالعملية الإنتخابية هو الأفضل له من الإنخراط في عملية حقيقية وشاملة للحوار الوطني تؤدي لإصلاح نظام الحزب الواحد، ويتم الأستفادة من دروس الحروب وإنفصال الجنوب و إرتكاب جرائم الإبادة الجماعية.

ويتضح من إعلان الإنتخابات إن مشروع الحوار الوطني للحزب الحاكم قد جاء نتاجا للتحديات التي كان يواجهها مثل إنتفاضة سبتمبر- إكتوبر 2013 في المناطق المدن، والعمليات العسكرية المشتركة لقوات الجبهة الثورية في ابريل من نفس العام فى الريف ، إضافة للعواصف الناتجة عن تحولات الربيع العربي في دول الجوار. مثلت هذه العوامل مجتمعه الضغوط الرئيسية على النظام الحاكم لكي يبحث عن آلية وتصور يمكنه من كسب الوقت عبر عملية تجميل سطحية، ليتم عبرها إستنساخ النظام القديم في ثياب ومظهر جديد.

إن تجارب السودان في العمليات الإنتخابية ليست بالجديدة ، خاصة في ظل النظام الحاكم. وأن قيام أي إنتخابات، بما فيها إنتخابات النظام الصورية في أبريل القادم، دون القيام بعمليات جوهرية للإصلاح لن تقوى على توفير الحلول للأسئلة وللأزمات الكبرى التي يواجهها السودان. بل على النقيض من ذلك، فإذا نظرنا إلى ما بلغته أزمات البلاد من مراحل، وتصاعد الأصوات المطالبة بالتغيير، فإننا نجد أن قيام الإنتخابات في ظل الحكومة الحالية وتحت نظام الحزب الواحد والنظام الدكتاتوري لن تؤدي سوى إلى تعميق الأزمات وحالات الإنقسام، بما فيها الإنقسامات حتي داخل دوائر النظام الحاكم. فالدعوة للتغيير ولتولي جيل جديد للقيادة داخل الحزب الحاكم قد تم إستخدامها لتمرير تسويات وسداد فواتير الصراع الداخلي على السلطة، بما فيها تهميش بعض كبار القيادات المؤثرة داخل دائرة الحكم.

إن الصراع على السلطة داخل الحزب الحاكم وبين مختلف المجموعات سيستمر طالما ظلت العدالة الدولية تطالب رأس النظام بالمثول أمامها، والذي أصبح بدوره يمثل عبئا ثقيلا على النظام وعلى مختلف الدوائر المتصارعة داخله. عليه، فالإصرار على الإنتخابات لن يقدم أي حلولا حتي في هذه الحالة، فالمنهج الوحيد للمعالجة الموضوعية لهذا الوضع، بما فيه قضية المحكمة الجنائية الدولية مع رأس النظام، هو الحوار القومي الدستوري على اسس حقيقية . وبهذه الخلفية، فإن الغالبية الواسعة من القوى السياسية والمدنية السودانية يتعاملون مع الإنتخابات القادمة بإعتبارها إمتدادا لهيمنة الحزب الواحد ونظامه الدكتاتوري. حيث تعد الترتيبات لجعلها الإنتخابات الأكثر عزلة في تاريخ السودان. كما إن العديد من النشطاء يخططون للتعامل مع إنتخابات أبريل 2015 بإعتبارها ساحة معركة سلمية للإنتفاضة الجماهيرية، خاصة وان البيئة والتركيبة السياسية تعتبر مواتية بسبب وحدة المعارضة حول النواة الصلبة للقوى الموقعة على ( نـــــداء الســـودان)، و كذلك وجود مجموعات أوسع من قوى التغيير.

أما مقاومة النظام الحاكم في المناطق الريفية والأقاليم المهمشة التي تعاني من الحروب الأهلية، فإننا نجد قوات الجبهة الثورية تتصدى للنظام . حيث إنكسرت الحملات وخابت أحلام كبار قادة النظام الحاكم في الخرطوم، والذين ظلوا في كل مرة يعلنون التواريخ والأماكن بمقدرتهم على سحق وإزالة قوات الجبهة الثورية عسكريا، إلا أن تجاربهم في الفشل على الدوام أثبتت أن احلامهم غير واقعية.

لمـــاذا المــؤتمر القـــومي الدســـتوري يمثل الخـــيار الأفضــــل؟

يمكن تلخيص السيناريوهات التي يواجهها السودان اليوم كالآتي:
1. الإنتفاضة الجماهيرية السلمية.
2. إستمرار المقاومة المسلحة التي يمكن أن تتكامل مع الإنتفاضة.
3. إستمرار الوضع الراهن، مما سيؤدي إلى انهيار الدول السودانية. وسبق وأن عبر الجنرال البشير علنا عن قلقه من النموذج اليمني.
4. الحوار القومي الدستوري.

بناء على ما سبق، فإن المؤتمر القومي الدستوري يمثل الخيار الأفضل من أجل التحول السلمي للسودان في هذه المرحلة الحرجة، وذلك لسبب واحد وبسيط: فكما ذكرت سابقا، فإن هناك خيار إسقاط النظام من خلال الإنتفاضة الشعبية السلمية، جنبا إلى جنب مع الكفاح المسلح في مناطق الريف السودان. ولكن نظرا لحالات الإنقسام والتشظي العميقة التي اوجدها النظام الحالي، ومترتبات الإنتفاضة السلمية والكفاح المسلح على هكذا وضعية، فإن أفضل آلية لتحقيق التوافق الوطني ومن ثم إحداث التحول والتغيير لا يمكن أن تتم إلا من خلال المؤتمر الدستوري، وبالتوصل إلى تسوية حد أدني متفق عليها عبر التفاوض بين مختلف القوى السودانية. وفي غياب هذا السيناريو، المؤتمر القومي الدستوري، فإن البدائل الأخرى ستجد طريقها الى أرض الواقع . أما سيناريو إستمرار الأوضاع الراهنه على ما هو عليه، فهو خيار دون حظوظ، فسوف يؤدي في النهاية إلى الإنهيار الشامل للدولة السودانية، مثلما حدث في بعض البلدان المحيطة.

الطريق إلى الأمام

لقد أصبح واضحا أن التنافس بين خيارى الحوار الوطني قبل أو بعد العملية الإنتخابية قد إنتهي بفرض الحزب الحاكم لخيار الإنتخابات بإعتبارها تمثل آولوية له للإستمرار في الحكم وللهيمنة على الدولة. عليه، فإن سيناريو الحزب الحاكم بقيام الإنتخابات يظل الأمر الواقع، ما لم تمارس الضغوط الكافية، ومن داخل وخارج السودان، وذلك من أجل العودة إلى مسار الحوار القومي الدستوري.

وإذا ما نظرنا إلى الإنقسام الماثل داخل مجلس الأمن الدولي باللأمم المتحدة، والذي يعود إلى عوامل متعددة ، فإننا نجد أن الحكومة السودانية تجني الفائدة القصوى بسبب غياب الإرادة السياسية الدولية، هذا إضافة إلى إستفادة النظام الحاكم من حالات عدم الإستقرار التي تعاني منها مجموعة من الدول المحيطة بالسودان. عليه، فإن الطريقة الوحيدة لاولئك ممن يدعمون مسار التحول الديمقراطي والحوار الوطني الحقيقي وإنهاء الحروب وإيقاف جرائم الحرب في السودان، هو الأتجاه نحو الدعم السياسي للقوى السودانية المعنية بالتغيير، ممثلة في قوى ( نـــداء الســـودان) وقوى التغيير الأخرى، وذلك لما تمتلكه هذه القوى السياسية والمدنية من رباط عضوي بالأوضاع الداخلية في السودان. كما ينبغي على الأطراف المعنية في القارة الإفريقية والمجتمع الدولي أن تدعم مختلف عمليات وحدة قوى المعارضة، بإعتبارها المسار الوحيد لتحقيق التحول، وهي القوى الوحيدة التي من شأنها أن تضع حدا لأبشع تجارب الإسلام السياسي، والتي لم تهدد فقط وحدة السودان كما فعلت بتقسيمه إلى دولتين، بل لا تزال تمثل تهديدا لوحدة العديد من البلدان الأفريقية والعربية والإسلامية، كما هو الحال الأن في نيجيريا ومالي وليبيا والعراق واليمن وغيرها من البلدان. وبهذه الخلفية، فإن الجهود المبذولة من قبل قوى المعارضة السياسية والمدنية السودانية، وحاجتها للدعم الإقليمي والدولي، خاصة من الدول الأفريقية والعربية، تتطلب التعزيز والإستجابة.

وعلى المجتمع الدولي كذلك دور رئيسي لابد له من القيام به بأن يوضح موقفه للنظام الحاكم في الخرطوم بأنه لن يتم الإعتراف بالإنتخابات الحالية ما لم تجرى وفق عملية حوار دستوري ذات مصداقية تنهي الحروب وتفتح المجال أمام تغيير ديمقراطي حقيقي. كما إن على المجتمع الدولي والإقليمي التشديد على أهمية العملية الدستورية القومية بإعتبارها تمثل حجر الزاوية في تطبيع العلاقات بين السودان وبين العالم الخارجي، وأن على الجنرال عمر البشير وحكومة المؤتمر الوطني الإدراك بإن المطالبات الداخلية والخارجية بإجراء حوار وطني حقيقي قد بلغت نقطة اللاعودة.

وتنطبق هذه المطالبات على الجهات المانحة للعمليات الإنتخابية، وعلى بعثات مراقبة الإنتخابات الإقليمية والدولية بان لا تصبح جزءا من إنتخابات أبريل 2015 التجميلية. وتمتد الدعوة بعدم الدعم بصورة خاصة إلى مركز كارتر، والذي شارك في مراقبة العديد من عمليات الإنتخابات الديكورية لحزب المؤتمر الوطني الماضية. كما نناشد الرئيس النيجيري السابق، وهو صديق للشعب السوداني، الرئيس أوباسانجو، بعدم دعم إنتخابات الحزب الحاكم في الخرطوم، خاصة وأن إسمه قد استخدم من قبل آلة الدعاية الإعلامية لحزب المؤتمر الوطني الحاكم بأنه سيكون رئيسا لبعثة المراقبة الافريقية لتلك الإنتخابات.

وأيا كانت النتائج ، فإن إنتخابات الحزب الحاكم لن تستطيع معالجة الأزمات المزمنة التي يعانيها السودان، إن لم تفاقمها. كما إن القوى السياسية والمدنية السودانية لابد وأن تعيد تقييم مواقفها من عملية الحوار والحل السلمي في ظل إجراء الإنتخابات في ابريل 2015، وسوف تعلي الغالبية العظمى منها من خيار إسقاط النظام كما جاء في ( نـــداء الســــودان )، وحتى أولئك ممن يتبعون مبادرة الحزب الحاكم للحوار الوطني كخيار فستتحول مواقفهم مع القوى السياسية الأخرى من قبول تلك المبادرة الى المطالبة بإجراء الحوار تحت إدارة حكومة إنتقالية، وبموجب تنفيذ مقررات الإتحاد الأفريقي الواردة فى القرار (456).

وفي الختام، نعتقد بأن السبيل الوحيد للخروج من الأزمات الحالية يتمثل في التطبيق المخلص لمقررات مجلس السلم والأمن الإفريقي (456)، وان يتم تأجيل الإنتخابات الجاري الإعداد لها لفترة زمنية متفق عليها بين القوى السودانية، على أن تعقد بعد قيام الحوار القومي الدستوري بمعاييره المعروفة والمتفق عليها. أما في حالة عدم تحقق ذلك، فإننا نعتقد بأن الصراع سوف يستمر سواء في مناطق الريف والمدن ، وبإستخدام مختلف الوسائل و إمكانية تلاقيها وتكاملها، من الإنتفاضة الجماهيرية السلمية في المدن ، وإلى الكفاح الشعبي المسلح في ريف السودان. ومع ذلك، فإننا ما زلنا نعتقد أن المؤتمر القومي الدستوري هو الخيار الأمثل من أجل إعادة الهيكلة والتغيير الديمقراطي ووحدة السودان.

ياسر عرمان هو الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، وسكرتير العلاقات الخارجية للجبهة الثورية السودانية. ألقي نص هذه المقالة في محاضرة أمام مركز أبحاث السلام بالعاصمة النرويجية أوسلو في 8 يناير 2015

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *