النظام الفيدرالي لإدارة الدولة السودانية
بقلم : أبكر محمد أبوالبشر
19 فبراير 2012 — في البدء، لنا قناعة راسخة بأن سودان الغد– أي بعد زوال/ إسقاط النظام الحالي – لن يكون كما كان، وأن تجربتي أكتوبر 1964م،وإبريل 1985م، لن تتكرر بنفس المنوال السابق. فكثير من المهتمين بالشأن السوداني،وعلى ضوء قراءة الأوضاع السياسية الحالية، يشيرون إلى أن سودان الغد يحمل في طياته احتمالين إثنين، هما سودان متماسك قوي، وسودان مفكك ضعيف، وقد تكون – لا سمح الله- الحالة الأخيرة وهي أكثر سوءاً من حالة صومال اليوم. ففي كلا الحالتين نحن نرى أن مسؤولية مستقبل البلد تقع كاملةً على عاتق المعارضة الحالية.
وحتى تلتحم جماهير الشعب السوداني مع بعض هو بالتالي مع المعارضة لخلق دولة الدستور – لأنهما اللاعبان الأساسيان في تشكيل سودان الغد – نرى أنه من الأهمية بمكان، بل واجب وطني يقع على عاتق الكتاب والمفكرين الوطنيين أن يقدموا تنويراً وافياً لهاتين الفئتين وتزويدهما بمعلومات علمية ومعرفية تساعدهما في اتخاذ قرارات سليمة في مجالات المسائل الخلافية مثل حسم الهوية الوطنية، وأيضاً في المسائل الضبابية مثل الفيدرالية. في هذا الاتجاه، فقد سبق أن كتبت قبل أسابيع قليلة مقال عن العقد الاجتماعي بشيء من التفصيل، لأنها لآلية المثلى التي تمكن السودانيين من الوصول إلى الحل الجذري لمعضلتهم المستعصية. واليوم أود أن أقدم بتواضع مساهمتي عن النظام الفيدرالي، الذي شاب تطبيقه كثير من التشويه في السودان.
هناك نظامين للحكم في العالم لإدارة شؤون الدول،هما نظام الحكم المركزي والحكم اللامركزي. نظام الحكم المركزي هو الذي تتركز فيه كل السلطات السياسية والإدارية والمالية في المركز بالدستور. لكن رغم ذلك يمكن للمركز أن يخول جزء من سلطاته لأي إقليم بالقانون وليس بالضرورة أن يكون التفويض بنفس المستوى لنفس المسألة إذا كان لأكثر من إقليم واحد، كما هو الحال في المملكة المتحدة إذ أن نظام التعليم في اسكتلندا مثلاً يختلف عنه في ويلز. ومن جانب آخر لا توجد قاعدة ثابتة في النظم المركزية تحدد فترة التفويض، عندما تريد أن تفعل ذلك.
أما نظام الحكم اللامركزي، فهو النظام الذي يتم فيه التوزيع بين السلطات المركزية والسلطات الدنيا – الولايات – في مجالات التشريع والتنفيذ بالدستور. الجدير بالذكر أن السلطة القضائية في حالات الحكم اللامركزي، هي في الأساس سلطة اتحادية، لكن هناك بعض الحالات تكون للولايات سلطات قضائية خاصة بها، مثل القضاء الشرعي الإسلامي في بعض ولايات نيجيريا الشمالية المسلمة، وعلى رأسها ولاية زمفرا. أو بعض ولايات الولايات المتحدة الأمريكية التيلا تطبق حكم الإعدام. لكن كل هذا لا يعني توزيع السلطات القضائية بين الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات، بقدر ما هي إجراءات استثنائية لسن تشريعات ولائية لعلاج أوضاع خاصة في تلك الولايات، وبالطبع لا ترقى هذه التشريعات أن تعمم على المستوى القومي في الدولة المعنية.
ونظام الحكم اللامركزي هذا يحتمل عدة أوجهمنها الفيدرالية، والكنفدرالية، والإقليمية، والحكم الذاتي. والفرق الأساسي بين هذه المسميات هو درجة توزيع السلطات بين المركز والأقاليم بالدستور. فكلما إزدادت السلطات الممنوحة للأقاليم كلما تطور الأمر من الإقليمية إلى الكنفدرالية، والكنفدرالية هي أعلى درجات اللامركزية حتى الآن في مفهومها المتطور دستوريا من الذي كانت تُعرف به في السابق (بأنها شكل من أشكال الاتحاد بين دولتين أو أكثر بحيث تقوم سلطة مركزية مشتركة بممارسة بعض صلاحياتها وتسمي الاتحاد التعاهدي). وفي كل الأحوال يبقى النظام الفيدرالي كحالة وسطية هو أشهر أوجه اللامركزية لإدارة الدول في عالم اليوم.
2ـ الفيدرالية
النظام الفيدرالي هو نظام سياسي للحكم يجمع عدد من الدويلات أو الأقاليم أو الإمارات في اتحاد أكبر وأقوى غير مركزي، فيه تحتفظ هذه الدويلات بهويتها السياسية. في هذا الاتحاد يتم تقسيم السلطات التشريعية والتنفيذية بالدستور، وبموجب هذا الدستور تنشأ ولايات أو أقاليم تؤول إليها سلطات تشريعية وتنفيذية في الشئون المحلية التي تخص كل ولاية، لكن توجد أيضاً في بعض الأحيان سلطات مشتركة بين المركز والولايات. من أمثلة السلطات المحلية للولايات، نجد في مقدمتها الخدمات الصحية والأمن المحلي، رعاية وتطوير الثقافات المحلية، التعليم قبل المرحلة الجامعية، التنمية الاقتصادية والاجتماعية،الضرائب المحلية … إلخ. وفي الجانب الآخر تتولى السلطة الاتحادية أمر التشريع والتنفيذ للمسائل القومية ذات الصفة السيادية التي لا تتجزأ، من أمثلة ذلك العلم والنشيد الوطني، الجيش، العلاقات الخارجية، العملة، التعليم العالي، المشاريع القومية مثل مياه الأنهر والموانئ البحرية وثروات باطن الأرض كالبترول … إلخ. وكما تسمى السلطة المركزية بالاتحاد (Federation) نجد أن الأقاليم تتخذ عدة أسماء لنفس الغرض، مثلاً ولاية (State) وهي أشهر المسميات، إقليم (Region)، إمارة (Emirate) محافظة Province))، مقاطعة Territorial District or County)) … وهكذا.
في النظام الفيدرالي نجد أن الدستور يوضح السلطات المخولة لكل مستويات الحكم – أي السلطات التي تخص الاتحاد والولاية والمحلية والسلطات المشتركة بالتفصيل. إضافة إلى ذلك نجد أن دساتير بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، ينص دستوريهما بأن كل السلطات التي لم يمنحها الدستور للاتحاد تؤول للولايات. بينما في حالتي كندا والهند ينص دستوريهما بأن كل السلطات التي لم تورد في حق المحافظات، تؤول للحكومة الاتحادية. أضف إلى ذلك أن العرف الدولي السائد في النظم اللامركزية، يبين أن السلطات الممنوحة بالدستور للولايات متساوية تماماً في كل ولايات الدولة الواحدة، إلا أننا نجد فيبعض البلدان أن الدستور يمنح سلطات سيادية إضافية أو مميزة لبعض الولايات، مثال ذلك ولايتي ساراواك وسباح اللتان دخلتا في الاتحاد مع ماليزيا بشروط وضوابط تختلف عن بقية ولايات ماليزيا.
وعلى الرغم من التشابه القوي في بعض الحالات، أضف إلى ذلك تزايد التوجه العالمي نحو توزيع السلطات الدستورية بين المركز والأقاليم – أي التوجه نحو الفيدرالية، إلا أنه لا يوجد نظامين متطابقين في دستورهما وفي تشكيلهما للحكومة الفيدرالية، وبالتالي نجد هناك فارق في التطبيق والأداء. لهذا تختلف تكوين الحكومة الفيدرالية من دولة لأخرى، ولكن أقلها هي مستويين إثنين، حكومة اتحادية وحكومة ولائية. ففي حالة نيجيريا كمثال نجد أن هناك ثلاثة مستويات من الحكم،اتحادية وولائية ومحلية، وفي كل هذه المستويات تتوزع السلطات بالدستور.
يجدر بنا أن نذكر هنا، أن كثيراً من الأنظمة الفيدرالية تأسست على حماية الحقوق الفردية للولايات المكونة للاتحاد،فنجد أن المجالس التشريعية الاتحادية تتكون من مجلسين، أحدهما للنواب المنتخبين من الجمهور وفي هذه الحالة يتفاوت عدد الممثلين من الولايات حسب الكثافة السكانية.والمجلس الثاني يمثل الولايات بعدد متساوي لكل الولايات مهما كان كبر حجم الولاية.ومن أساسيات مهام مجلس الولايات، الدفاع عن حقوق الولايات. فالأعضاء فيه يمتلكون حق النقض بالدستور في المسائل التي تخص ولاياتهم. مثال ذلك إذا تنازلت الحكومة الاتحادية السودانية عن أرض حلايب – وهي أرض تابعة لولاية البحر الأحمر – وتم طرح إجراءات التنازل على طاولة مجلس النواب التشريعي وقام هذا المجلس بتأييد مشروع الحكومة الاتحادية، يصبح من حق أعضاء مجلس الولايات المنسوبين لولاية البحر الأحمر دستوريا أن يستخدموا حق النقض (الفيتو) ويبطلوا القرار من أساسه بالدستور، وإلا تنهار الدولة بكاملها.
3- دواعي قيام الفيدرالية
من الشواهد التاريخية، أن كثيراً من الدول الفيدرالية نشأت بموجب اتفاق بين عدد قليل من الدويلات أو الأقاليم، ثم توسعت وشملت أعداداً أكثر من الدويلات أو الأقاليم أو المحميات في اتحاد أوسع.مثلما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تأسست فيها الفيدرالية في 1781م ثم إكتملت في صورتها الحالية في العام 1788م بعدد 50 ولاية ومقاطعة مستقلة للعاصمة القومية واشنطن. وربما كان الغرض من ذلك الرغبة الأكيدة لحل مشكلات متشابهة ومشتركة بين الولايات المتنافرة آنذاك. والدولة الأمريكية تعتبر أول دولة تؤسس النظام الفيدرالي الحديث. وفي مواقع أخرى، قد يكون الغرض من تبني الفيدرالية الرغبة في الدفاع المشترك، كحالة سويسرا. أو الرغبة لخلق أمة واحدة قوية (Nation State) لإثنية واحدة تشتت في دويلات كثيرة مجاورة، كحالة ألمانيا الاتحادية، التي تأسست في العام1871م وإكتملت في صورتها الحالية بعد توحيد الألمانيتين.
لكن يبقى كبر حجم الرقعة الجغرافية للدولة المعنية من الأسباب القوية التي تستدعي قيام النظام الفيدرالي في تلك الدولة، مثل أستراليا التي يصعب إدارتها من المركز، فقد تم فيها إجراء إستفتاء شعبي عام لكل سكان البلد الذي صوت جلهم بقول (نعم) للنظام الفيدرالي في العام 1901م. لهذا نجد أن ثمانية دولة من بين عشرة أكبر دول مساحةً في العالم تحكم بالنظام الفيدرالي.
في الواقع يتواجد أكثرمن سبب واحد دفع ببعض الدول لتبني الفدرالية. مثل دول إثيوبيا والهند ونيجيريا. إذ أدت المساحة الشاسعة وتعدد القوميات في إثيوبيا – حوالي 80 قومية – إلى قيام نظام فيدرالي مكون من 9 أقاليم إثنية، والذي يعرف في وسط الكثير من علماء السياسة “بالفيدرالية الإثنية”. فدستور إثيوبيا الحالي قائم على إعطاء القوميات المختلفة الحق في تنمية مواردها المحلية والحفاظ على إرثها الثقافي الموروث وتقرير مصيرها – وهذا الحق الأخير قاد إلى تماسك الوحدة حتى الآن بصورة أقوى بدلاً عن التوجه في الإتجاه المعاكس. والحالة نفسها يتكرر في الهند،فبالإضافة إلى المساحة الشاسعة للبلد، وبالرغم من أنه لا توجد نصوص واضحة في الدستور، إلا أن الفيدرالية الهندية والتي تتكون من 28 ولاية و7 مقاطعات، تُوصف بأنها قائمة – في الوقت الحاضر – على تعدد اللغات. أما النظام الفيدرالي في نيجيريا فقد بدأ منذ عهد الاستعمار البريطاني بعدد ثلاثة ولايات وعلى أساس القوميات الثلاث الكبيرة وهي فلاني/هوسا، ويوروبا، وإيبو، لكن إزداد عدد الولايات إلى 36 ولاية إضافة إلى مقاطعة مستقلة للعاصمة القومية أبوجا، لتشمل كل القوميات الصغيرة – يُقدر عدد سكان نيجيريا اليوم ب155 مليون نسمة يتحدثون حوالي 510 لغة. ومن جهة أخرى نجد أن دولة الإمارات العربية المتحدة التي تتكون من 7 إمارات، تقسيمها قائم على أساس عشائري وتاريخي.
من السياق السابق، يتضح جلياً أن عالم اليوم يتوجه وبنسب مضطردة نحو توسيع قاعدة المشاركة لاتاحة الفرص لشعوبها في إدارة شئون الدولة. وفلسفة النظام الفيدرالي هذه، لها فوائد جمة من ضمنها، تقليل فرص الثورات الإقليمية أو ثورات الأقليات ضد المركز، لأن جميع السكان يشعرون بأنهم مشاركون في إدارة بلدهم وهم بالتالي شركاء في إخفاقات ونجاحات الدولة. كما أن مشاركة القواعد في السلطة تعزز من فرص التنمية الشاملة للبلد وذلك لصعود الخطط التنموية من القاعدة للقمة ومن كل أركان البلد.
4- تجربة السودان
إبتداءً، من الدوافع الرئيسية التي أدت إلى المناداة بالنظام الفيدرالي السوداني، هو فشل النظام المركزي منذ نشأة الدولة السودانية في العام 1820م في إدارة البلد. والدليل على ذلك أنه لم ينعم السودان باستقرار أمني وسياسي منذ ذلك التاريخ وحتى بعد انفصال الجنوب في شهر يوليو 2011م، حيث لم تتوقف وتيرة ثورات الأقاليم المختلفة ضد المركز. كما أن تجربتي الحكم المحلي، في فترة النميري والنظام الشائه الحالي الذي يسمى بالفيدرالي، قد فشلا بسبب قيامهما على أسس خاطئة، أي كليهما أُنشئ بالقانون وليس بالدستور، الذي يقوم هو الآخر برضاء كل أهل البلد. لهذا نجد أن النميري قد ألغى دستور السودان لسنة 1973م،بعد عشرة سنوات فقط، أي في العام 1983م، لأن ذلك الدستور لم يستند إلى سند شعبي. كما أن النظام الفيدرالي الحالي لا طعم له ولا رائحة ولا لون لأن التنافس المحلي لإدارة الولايات لا يستند إلى ديمقراطية حقيقية، فرأس الدولة هو الذي يقوم بتنصيب وعزل الولاة.
وحالة السودان هذه وبالرغم من أنها تسمى بالفيدرالية، إلا أن المعايير العالمية لا تنطبق عليها حتى نجزم أنه يوجد في السودان نظام سياسي فيدرالي، كما هو الحال اليوم في المملكة المتحدة، إذ نجد أن اسكتلندا مثلاً لها برلمانها الخاص وعملتها – الجنيه الاسكتلندي يساوي تماماً في القيمة النقدية الجنيه الاسترليني – ونظام قضائي خاص – تذكروا قضية لوكربي وعبدالباسط المقرحي – وسياسة التعليم الجامعي الخاص، إلا أن بعد هذا كله لا يعتبر النظام الإداري السياسي في المملكة المتحدة نظاماً فيدرالياً بل هو نظام مركزي، خول بعض سلطاته لدول اسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية. الجدير بالذكر أن السلطات المخولة هذه ليست بالتساوي لكل دول المملكة المتحدة. (تذكر منافسات كأس العالم لكرة القدم إذ أن انجلترا واسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية كلها تتنافس على أساس دول مستقلة)، لهذا نكرر القول، أنه وبالرغم من التشابه في الأنظمة السياسية إلا أنه لا يوجد تطابق كامل في أي حالتين. لهذا يمكن أن نقول أن الفرق الأساسي بين النظامين الفيدرالي والمركزي، هو أن النظام الفيدرالي يقوم على رغبة طوعية من القاعدة فيما يخص توزيع السلطات، بينما يقوم النظام المركزي على تفويض السلطات من القمة للقاعدة.
إضافةً إلى ذلك هناك سببان قويان يستدعي ان إنشاء نظام فيدرالي في السودان، هما المساحة الشاسعة للبلد والظرف التاريخي لقيام الدولة السودانية. السودان وقبل انفصال الجنوب كان تاسع أكبر دولة مساحةً في العالم، لهذا أثبتت التجربة صعوبة إدارته من المركز. من الناحية التاريخية، دولة السودان هي نتاج لإخضاع الممالك والسلطنات بقوة السلاح – كانت دولا قائمة بذاتها – وكان لكل دولة إرثها التاريخي في إدارة نفسها تختلف عن الأُخرى. على سبيل المثال، تعتبر سلطنة دارفور من الدول التي طبقت النظام الفيدرالي الإثني لفترة فاقت الـ أربعمائة عام، في ذلك أن نظام “الحواكير” القبلية يعطي الحق لزعيم القبيلة أو العشيرة أن يمارس السلطات الإدارية والمالية والسياسية والقضائية في “حاكورته” بمرسوم سلطاني يحدد تلك الصلاحيات. لكن تبقى الحقيقة أن الفيدرالية الإثنية التي طبقت في سلطنة دارفور لم تكن مستوفية للمواصفات العالمية في عصرنا هذا.
من تجربة السودان الإدارية والسياسية منذ أن أصبح دولة واحدة، يتضح لنا ضرورة إقامة نظام فيدرالي حقيقي يستوفي المواصفات العالمية، في مقدمة ذلك أن تستوفي المقومات المذكورة في الفقرة أدناه حتى يكون البناء متيناً من القاعدة للقمة.
5- مقومات النظام الفيدرالي
ليست هنالك تجربة محددة يمكن تطبيقها بنفس المستوى علي كل الدول، التي ترغب في تأسيس نظام فيدرالي سياسي، فكل دولة لها تجربته الخاصة التي تلائم بيئتها. لكن هناك اجماع عام على قاعدة رئيسية توضح المقومات التي يجب أن تتوفر لإنجاح النظام الفيدرالي، منها:ـ
أ- الدستور: في البدء، يجب أن تنشأ الدولة الفيدرالية بموجب دستور يستند على عقد اجتماعي يتفق عليه الجميع، مثل هذا الدستور الوطني هو الذي يحدد عدد مستويات الحكم، إثنين أو أكثر وبالتالي يحدد توزيع السلطات بين هذه المستويات ومعها كيفية ممارسة هذه السلطات. بل وفوق كل هذا يضع قيوداً بحيث لا تتدخل إحدى المستويات في شئون المستوى الآخر المخولة بالدستور. لهذا تصبح جميع السلطات وعلى كل المستويات مخولة بالدستور، وأي مخالفة تصبح عملاً غير دستوري مما تؤهله بأن يكون باطلاً.
في السودان تقتضي الضرورة قيام نظام فيدرالي بموجب دستور منشأ باجماع كل أهل البلد، لأن الملاحظ وجود بعض الفعاليات السياسية التي لا ترغب في قيام النظام الفيدرالي. لهذا نرى أهمية الاجماع القومي لضمان الاستمرارية.
ب- الديمقراطية: الديمقراطية في معناها العام، هي حالة المجتمع التي يتمتع فيها جميع المواطنون البالغون بحقوق متساوية في القرارات التي تؤثر على سير حياتهم، أو في مواقع أخرى تفسر الديمقراطية بأنها حكم الشعب بالشعب، بمعنى أنه لا يوجد اتفاق عالمي موحد لمفهوم مصطلح الديمقراطية، لكن هناك اتفاق عام منذ القدم بأن قيم المساواة والحريات هما صفتان أساسيتان في صلب الديمقراطية. من جانب آخر تعني الفيدرالية إعطاء الفرصة – الحرية – لجميع شعب البلد الواحد للمشاركة في إدارة شؤون الدولة، وحق المشاركة هذا يصل في بعض الأحيان إلى مستوى البلديات – حق المساواة في كل مستويات الحكم. وهذا يقودنا بأن نخلص إلى أن الطريقة الديمقراطية للحكم هي توأمة للنظام الفيدرالي، أي أنها من أساسيات الفيدرالية. لأن من يضع القانون يعرف أكثر من غيره كيف يجب أن ينفذ. في ذلك أن شعب إقليم ما، عندما يشرع في إدارة شؤونه الداخلية هو أدرى بآليات محاسبة السلطة التنفيذية المحلية المختارة بواسطة شعب الاقليم المعني وليس من المركز.
ج- القضاء: السلطة القضائية هي الجهة الوحيدة المختصة بتفسير بنود الدستور، وبالتالي هي التي تحكم وتفصل بين الناس في المسائل القانونية، وهي الحكم بين مؤسسات الدولة بما فيها المركز والولاية فلا تتدخل أية واحدة منهما في شؤون الآخر، لأن هذه الشؤون مقرة بالدستور. لهذا يجب أن تكون السلطة القضائية مستقلة تماماً عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
د- الفيدرالية المالية: الفيدرالية المالية هي إحدى فروع الاقتصاد العام التي تعتني بتوزيع مال الدولة على مستويين أساسيين، رأسي وأفقي. وعلى هذا الأساس فإن مفهوم الفيدرالية المالية هو علاقات التوزيع الرأسي والأفقي لمال الدولة على مستويات الحكم المختلفة. فالتوزيع الرأسي يهدف إلى تحويل الأموال من المستوى الأعلى – الاتحاد – للمستوى الذي يليه – الولاية – وذلك لتلبية متطلبات السلطات الممنوحة للولايات. أما الهدف من التوزيع الأفقي، والذي يتم بين الولايات فهو لتحقيق العدالة في التنمية الغير متوازنة بين الأقاليم المختلفة،مثال ذلك طول الطرق المسفلتة في إقليم دارفور بأكمله لا يزيد عن 295 كلم وهي المسافة التي تربط مدن منواشي ونيالا وزالنجي، مقارنة بالطرق المسفلتة في الإقليم الشمالي على ضفتي النيل – شرق النيل وغرب النيل – والتي تفوق طولها عن 1000 كلم. مثل عدم التوازن هذا في خدمات الطرق هو الذي يستدعي التوزيع العادل لمال الدولة.
ويمكن أن تطبق سياسات الفيدرالية المالية هذه حتى في النظم المركزية طالما هناك تفويض من المركز للوحدات الدنيا لتنفيذ سلطات محددة. لكن الشاهد في الأمر أن طرق التطبيق تختلف من دولة لأخرى وذلك لإختلاف النظم السياسية نفسها. لهذا يمكن نخلص بأن الفيدرالية المالية هي مكملة للفيدرالية الإدارية. ففي بعض الدول نجد أن مالية الدولة كلها تجمع في خزينة واحدة، ثم توزع بعد ذلك على نسبتين، التوزيع الأول يتم رأسياً بين المركز والولايات والنسبة المقررة للولايات توزع أفقياً بين الولايات في بعضها. التوزيع العادل للسلطات الدستورية بين المركز والأقاليم، تصحبه إلتزامات مالية يجب الوفاء بها لانجاز هذه المهام. مثال الجيش والخدمات الدبلوماسية يتم الصرف عليهما من مالية المركز في حين الخدمات الصحية المحلية تقوم الولايات بالصرف عليها. إذاً في هذه الحالة لا بد من التوزيع العادل لمال الدولة للوفاء بالإلتزامات المقررة لكل سلطة. المبدأ العام للفيدرالية الإدارية والفيدرالية المالية، هو في جوهره مبدأ واحد ألا وهو التوزيع العادل للسلطات الإدارية والمالية بين المركز والأقاليم. لكن هناك بعض المسائل تخص الفيدرالية المالية يجب توضيحها هنا.
(١) في الفيدرالية المالية تنشأ هيئة مستقلة تقوم بجمع مال الدولة كله في خزينة واحدة وهي المسؤولة عن توزيع ذلك المال،بهذا يمكن أن توصف هذه الهيئة بأنها الجهة الوحيدة التي تمارس السيادة على مالية الدولة.
(٢) يتم تأسيس معايير باتفاق كل أجهزة الدولة لتوزيع المال،هذه المعايير تضع في الإعتبار إحتياجات المركز وإحتياجات الأقاليم للمال المطلوب لفترة زمنية محددة. هذه المعايير تتغير من وقت لآخر، ومعها تتغير النسب المقررة لكل ولاية، كما تتغير النسب أيضاً بين المركز والأقاليم. إذاً في هذه الحالة تختلف أسس التوزيع في الفيدرالية المالية عن الإدارية، إذ أن النسبة في الفيدرالية الإدارية متساوية لكل الولايات، مثال ذلك مهام مجالس التشريع الولائية هي نفسها في كل الولايات، أو سلطات وزارة الصحة الولائية هي نفسها في كل الولايات. ولكن نسب التوزيع في الفيدرالية المالية تختلف علي حسب احتياجات كل ولاية للمال المطلوب للوفاء بإلتزاماتها المقررة
(٣) الصرف على المشاريع القومية هو من مهام المركز. المهم في الفيدرالية المالية أن أية ولاية لن تستطيع أن تطبق النظام الفيدرالي الصحيح ما لم يتوفر لها المال الكافي لإدارة شؤونها الداخلية.
هـ- الحريات: الإعلام الحر الذي يراقب بحياد تام أداء الحكومات – اتحادية، ولائية، محلية. وكذا والحريات الأساسية للإنسان،والمقصود هنا حرية الفكر والتعبير التي تعمل على ايجاد بدائل مفيدة للأمة تساهم في تطوير العمل العام. كل هذه من المسائل الضرورية التي يجب أن تتوفر لضمان سلامة تطبيق النظام الفيدرالي.
كلمة أخيرة في هذا المجال، أثبتت التجارب أن النظام الفيدرالي لن ينجح ما لم يستند إلى دستور وطني يرضى عنه كل أبناء السودان على إختلاف أعراقهم، ودياناتهم، وأقاليمهم.
أبكر محمد أبوالبشر . [email protected]