Friday , 29 March - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

جذور ونتائج الابادة الجماعية وقتل المدنيين في السودان

بقلم: محمد سليمان خاطر

الأزمة السياسية وبروز منهجي السيطرة الاجتماعية والقصاص الإستباقي:

ما وراء الواقع الحالي لثقافة الحكم ومنهج السياسة المتبع بواسطة النظام السوداني تجاه التعامل مع القضايا الجوهرية للأزمة السودانية يضع الكثير من المشكلات والتعقيدات التي ستتوارثها الأجيال القادمة، والتي غالباً ما ستكلف ثمناً باهظاً علي غرار التجربة الرواندية، في نقل الاحتقانات السياسية المتراكمة وعكسها وفق منظور أثني/طبقي/عنصري ينتهي في الغالب الاعم الي جرائم انسانية بشعة ظلت تهز الضمير الانساني بعنف علي مدي القرن الماضي من تاريخ البشرية.

إن منهج نظام الانقاذ القائم علي رغبة جامحة في السيطرة علي الآخرين وإخضاعهم بسلوك إستعلائي مفرغ من القيم الإنسانية هو منهج متعامي عن مخاطر محاولات إفراغ القضايا السياسية العادلة من محتواها، بتحويلها الي صراعات أثنوجغرافية ستفرض وجودها وتتحكم بمصير الكثير من التطورات القادمة والمهمة في تحديد مسار ومصير الدولة والمجتمع في السودان.

إن رغبة نظام الإنقاذ في السيطرة علي الآخرين وإخضاعهم هي أخطر أنواع الرغبات المريضة المعادية للقيم الليبرالية السياسية والاجتماعية، فهي نفس تلك الرغبات التي ظلت تنتج الطغاة والمستبدين وتكّرس لثقافة الغدر والغبن وتنتج الابادات الجماعية والجرائم البشعة ضد الإنسان والإنسانية استنادا علي التجارب السياسية الإقليمية والعالمية المشابهة للحالة السودانية.

فثقافة السيطرة الاجتماعية والقصاص الإستباقي كممارسة سياسية لدي الانظمة الفاسدة هي التي تحوّلُ الإنسانَ من كائن طبيعي يستمد قوته من تواصله مع الآخرين وإحترام حقوقهم، إلى وحش كاسر تتحكم فيه القسوة والمشاعر المضطربة والرغبة في السيطرة على الآخرين لأنه فاقد الثقة بنفسه. تلك هي معضلة التشوهات النفسية والبؤس الأخلاقي لمعظم قادة الإنقاذ والذي دفع بهم للسير علي طريق “القصاص الاستباقي” (Retributive Genocide) ، و”السيطرة الاجتماعية” (Social Control) كأحد أهم الأدوات التي تقف وراء العنف والإبادات الجماعية ضد المدنيين في معظم الأقاليم المتأثرة بالحرب في السودان.

تعريف وجذور منهجي السيطرة الاجتماعية والقصاص الاستباقي:

إن منهجي “القصاص الاستباقي” و”السيطرة الاجتماعية” هما من أهم المناهج الشائعة لدي المجموعات العرقية المنغلقة صفوياً عندما تسعي للتخلص من أو إخضاع مجموعات عرقية محددة تعتقد أنها تشكل خطراً يهدد مصالحها وبقائها. أنهما يعتمدان على ذات النهج والطريق الذي عمدت الآرية النازية علي استخدامه للتخلص من اليهود والغجر حين رأت فيهما خطراً يهدد القوة الاقتصادية والنقاء العرقي للأمة الآرية، وفقاً لشروط الهوس النازي، مما أنتج أبشع الجرائم الانسانية علي مر التاريخ الحديث للبشرية.

إن السلوك النازي الدخيل علي القيم الانسانية هو الذي دفع علماء الاجتماع وعلم الاجرام لدراسة ظاهرة القتل الجماعي ومحاولات تفسيره وتصنيفه كمهدد للبشرية وقيمها. لذلك في هذا المقال سأستلف بعض نظريات علم الجرائم الدولية في محاولة لتحليل نظام الإنقاذ كمؤسسة إجرامية سعت وتسعي بوعي أو دون وعي، إلي جر الأجيال القادمة في السودان إلي معارك متصلة علي امتداد التراكيب الاثنية المختلفة، بعد أن كرّست لفكر إجرامي كانت نتائجه الحالية قتلاً وسحلاً لمواطنين أبرياء في سياق عمليات انتقامية هوجاء، سوف نسعى إلي تحليلها بناءاً علي نظريتي “القصاص الاستباقي” و”السيطرة الاجتماعية”.

ما شجع قادة الإنقاذ علي استدعاء منهج “السيطرة الاجتماعية” في إدارة الأزمة السياسية هو الوضع الإجتماعي- السياسي المعقد منذ النشاة الاولي للدويلات السودانية في وسط السودان، وتأثرها بالمحيط الثقافي للمنطقة، مستعيره بعض الأفكار الإقطاعية التي مارسها الاستعمار في اجزاء متفرقة من المستعمرات الأفريقية المجاورة. ظلت الأزمة الاجتماعية – السياسية تتشكل عبر التاريخ نتيجة لغياب الحس الوطني والقيادة النوعية الملمة بطبيعة مسؤولياتها السياسية والأخلاقية.

ساهم في ذلك أيضاً عدم اكتمال مشروع بناء الدولة الموحدة سياسياً واجتماعيا، نتيجة للصراع التاريخي حول السلطة بين البيوتات الصفرية والتي مارست “السيطرة الاجتماعية” علي أتباعها من المريدين و المؤمنين بالكرامات والميتفايزيقيا السياسية (Metaphysical Politics) التي لا تجتهد في السؤال عن أصل السلطة وأدوات اكتسابها بل تقر بتبعية عمياء.

كذلك ساهم غياب معارضة سياسية مسئولة، تقفز بحسها السياسي الوطني بعيداً عن التطلع لاقتسام كعكة السلطة مع نظام يبني أيدلوجيته وطموحه السياسي علي دماء ودموع أبناء وبنات الوطن، في إفساح المجال لنظام الإنقاذ لتشويه الممارسة السياسية وجر الدولة والمجتمع إلي ساحة حرب داخلية ضحاياها المدنيين ووقودها التناحر ومنتهاها تصدع الوحدة الداخلية للمجتمع. إن كل المؤشرات الراهنة من تراكم إخفاقات سياسية سوف تفضي قطعاً الي عنف مجتمعي وقتل عشوائي علي أساس العرق واللون والانتماء.

إن أدعاء قيادات الإنقاذ الشعور بالتهديد للعنصر العربي الإسلامي هو أحد المبررات المفصلية التي ألهمت تلك القيادات الي استخدام منهج “القصاص الاستباقي” في مواجهة المطالب السياسية للأقاليم الطرفية. هذا الشعور نابع من عدم الثقة بالنفس واضطراب في الموروث القيمي لدي قادة النظام والذي تمت تغذيته بواسطة تراكم ذكريات عنف تاريخي علي مستوي المجتمع، إبان فترة الدولة المهدية.

تلك الحقبة وبالرغم من محاولات عرضها كونها ثورة وطنية ضد الاستعمار، إلا أنها أرست دعائم وعي جهوي علي مستوي رايات جيشها ووزعت المجتمع الي أصول ذات مدلولات عرقية (أشراف وغير أشراف) . ويستطيع أي قارئ مبتدئ للتاريخ من خلال الإطلاع علي حراك تلك الفترة ضبط المنطلقات التاريخية للازمة السودانية والتي كانت أكثر حضوراً في الإعلام الشعبي والأدب والثقافة الشعبية منها في الوثائق عن تلك الفترة من تاريخ السودان.

صاحبت المهدية الكثير من التطورات السياسية السالبة والتي ظلت حبيسة في ذاكرة الوعي المجتمعي، وهي التي كرست لسيادة ثقافة الغدر والخذلان كمنهج ثابت في حاضر السياسة السودانية تحت شعارات “وحدة البلاد وصيانة إستقلالها” وكمبرر لاعتماد العنف وبالتالي خلق مساحة لتبني منهج “القصاص الاستباقي”.

إنكار المسؤولية والقصاص الاستباقي وفق المنهج الإنقاذي:

بالرغم من تميز قضايا السودان كونها قضايا صراع داخلي محدود الأبعاد الخارجية وملئ بالمظالم السياسية التي يمكن معالجتها بحسن الاستماع لتلك المظالم والتجرد في معالجتها، إلا أن نظام الإنقاذ عمد إلي تكتيك “إنكار المسئولية” (of Responsibility Denial) كأحد أدوات “القصاص الاستباقي”، مستخدماً شعارات “وطنية” كغطاء لأجندة استعلائية تحقيقاً لأهداف عنصرية غير معلنة يسعى عبرها النظام جاهداً لحشر صيغة عقد اجتماعي جديد للدولة المتنوعة عرقياً وثقافياً، وفق منظور ثقافي يخص المحيط الاسلاموعروبي، غير قابل للتطبيق وفق حالة التنوع السودانية وتعقيداتها.

“الإنكار” ظل التكتيك الحاضر في الخطاب السياسي للإنقاذ منذ مجيئها، حيث بدأت بإنكار انتماءها الايدولوجي للإسلاميين ثم بالتنكّر لمنظريها الاسلاميين والانقلاب عليهم لصالح مجموعة عرقية صغيرة تعاني من عقد وتشوهات نفسية.

بدأ النظام مرحلة طويلة من إنكار المسؤولية تجاه الاخفاقات والتردي السياسي والاجتماعي بإيجاد مبررات واهية وساذجة في كثير من الاحيان تمثلت في إنكار الحق السياسي للمواطنين بالسطو علي السلطة بليل أولاً، ثم إنكار التنوع الثقافي والديني والاجتماعي بمحاولات فرض ثقافة ودين أحاديين تحت شعارات أسلامية ثانياً، ثم إنكار المطالب السياسية للجماهير والتقليل من شأن المعارضة المسلحة وغير المسلحة كونها حلقة من حلقات التآمر والعمالة والإرتزاق لصالح جهات أجنبية ثالثاً.

لاحقاً تم إنكار حقيقة الوضع الاقتصادي المتردي والفقر المدقع وتوصيف المجاعات بكونها فجوات غذائية وتحولات في وضع السوق العالمي، ثم تلاها إنكار حق المدنيين في التعبير وممارسة الحريات العامة والشخصية كونها إزعاج عام وأفعال فاضحة وانحلال أخلاقي، ثم أخيراً إنكار حالات الاعتداء علي المدنيين وقتلهم إما بإخفاء الأرقام الحقيقية للضحايا أو بتحميل المسؤولية “للمليشيات القبلية” كون أن الأزمة صراع داخلي لا يخص الإنقاذ في شي أو بإنكار حق الضحايا في الحياة باعتبارهم متمردين وخونة ومارقين.

ترابط ذلك مع استخدام عنف واسع ضد المدنيين وصل إلى حدود الإبادة الجماعية. وحتى أكون أكثر موضوعية في تحليل منطلقات قادة الإنقاذ يجب أن أذكر ان الإبادة الجماعية في حد ذاتها لم تكن هدفاً واعياً للقيادة “المتصفونة” (أي مدعية الصفوية: علماً بأن معظم قيادات الإنقاذ جاءوا من خلفيات إجتماعية متواضعة وترعرعوا في مجتمعات قروية بسيطة) ذات الأجندة الاقصائية، بل أتت كنتاج لسياسات غير مدروسة يحفزها الخوف والرغبة في العنف والتشفي وفق لمنهج “جر الرجل” (Dragging Feet Technique) والذي يبدأ بشرعنة العنف ثم تبرير القتل ثم إستخدامه كأداة للتصفية والتخلص من المهددات الافتراضية.

في مثل هذا الوضع تظل النظرة سلبية تجاه الضحايا باعتبارهم أقل درجة من البشر في محاولة لتحييد الشعور بالذنب تجاههم، ومن ثم إيجاد صيغة مقبولة نفسياً لجلاديهم كمبرر للإبادة. يبدأ منهج “القصاص الاستباقي” عادة بتكتيك تحييدي للأفعال غير الإنسانية (Neutralization Technique) بالسعي ل”سلب الصفة البشرية” من الضحايا (Dehumanization)، بتوصيفهم وتصنيفهم وفق درجة أقل من البشر وإطلاق مصطلحات دلالية مثل “فرخ” و “عب” و”خادم” و”زرقة” وغيرها من المصطلحات التحقيرية التي تضع الضحايا في مكانة وضيعة لتبرير قتلهم.

علي ذات الاتجاه استلف جهاز امن النظام وذراع قمعه الطويلة ذات المنهج لتبرير مصادرة الحريات والاغتصاب والتعذيب في مواجهة النشطاء السياسيين و الحقوقيين، وذلك باختصارهم إلي توصيفات تجريمية مثل “الطابور الخامس” و “عملاء المحكمة الجنائية” و “الجواسيس” “المخربين” لشرعنة العنف وتبرير الاستئساد علي الحقوق الدستورية للأفراد ومصادرة حقوقهم في الاحتجاج والتظاهر أو السعي لتغيير النظام.

تعقب مرحلة مصادرة الإرادة البشرية مرحلة تحييد أخرى تكتيكي تسمي “إدانة المعارضين/المحتجين” علي سياسات وممارسات الابادة (Condemn the Condemners). حيث ظل النظام يتبع ذلك التحييد ضد المختلفين معه والمحتجين، سواء كانوا من القوي السياسية المعارضة في الداخل وكذلك تجاه المؤسسات الحقوقية الخارجية التي تعترض علي منهج العنف الإنقاذي.

يظهر ذلك في “التبرير التجريمي” لنظام الإنقاذ تجاه المحتجين والمعارضين لسياساته داخلياً بوصفهم “خونة” و “مارقين” و “عملاء للاجانب” و “قطاع طرق/لصوص” و “أعداء للاسلام” و”قتلة متغولين علي حق المواطن” ، وغيرها من المبررات التي تتحاشى الاعتراف بالقضايا السياسية والسعي لتجريم المحتجين والتقليل من شأنهم السياسي. حدث ذلك في عدة مناسبات سعي خلالها نظام الإنقاذ لشحن العاطفة الشعبية ضد تمرد الحركة الشعبية ومن بعدها حركات دارفور والقوي السياسية التي عارضت نهج الإنقاذ وسياساته.

أما في ساحة “المواجهة التبريرية” لنظام الإنقاذ ضد المناصرين المدنيين والحقوقيين الأجانب فقد سعى الانقاذيون لإلصاق تهم مثل “التنصير/التهويد” و”الأطماع الخارجية” و “التربص والحقد علي المسلمين” و”الاستعمار الجديد” و”استهداف الإسلام” بتلك المجموعات التي أدانت ممارساتهم البشعة ضد المدنيين وطالبت بحق الحماية والقضاء الدولي لنصرة الضحايا في مواجهة جلاديهم.

تناقضات الخطاب الانقاذي وتأويلا ته الغريبة:

هناك مع ذلك سلوك متناقض وغريب يدفع جلادي النظام أحياناً إلي فض عذرية “مبادئهم” وهتك عرض شعاراتهم السياسية والدينية بالسعي للتفاوض والمهادنة مع من تصفهم بالخونة والمارقين والمأجورين دون الالتفات كثيراً لما يعتبر منافي للقيم “الاسلامية” في حرمة التفاوض مع “اللصوص وقاطعي الطريق” وفق مبدأ “إسلامي” راسخ وفق قواعد الشريعة المدرسية.

الواضح إن منطلقات “المتأسلمين” الإنقاذيين تقوم علي مبدأ “فقه الضرورة” حين تجدهم يهرولون لاستقبال منظمات ومنابر حقوقية أجنبية أو تمرير معلومات مفيدة للمخابرات الأمريكية “لتمكينهم” من ضرب “أخوة الإسلام من المجاهدين الصوماليين” أوحين يعقد الانقاذيون حوارات سرية مع “إسرائيل” عبر وساطة قطرية دون اعتبار “لفقه الابلسة والتجريم” الذي ظل النظام يستخدمه منذ العام 1989.

من جهة أخرى ظل “التأويل إلي سلطة عليا” (Appeal to a Higher Authority) أحد التكتيكات الثابتة في الممارسة السياسية للنظام منذ الإنقلاب المشئوم. حيث سعت الإنقاذ في أيامها الأولي لرفع شعارات تأويلية تضع كل حمل الإخفاقات السياسية للنظام علي أكتاف سلطة روحية عليا. فصورت الإنقاذ قتل الأبرياء وسحل المدنيين كونه “جهاداً” في “سبيل الله”، فدفعت بمئات الآلاف من الشباب و البسطاء أو السذج إلي ميادين الحرب وعّمقت الفتق و التصدع في جدار التماسك الاجتماعي والتسامح الديني بفعل تلك الممارسات.

لم يخجل نظام الإنقاذ من التهجم علي حرمة الدين و إحترام الذات الإلهية بإقحام المولي عز وجل في عمليات القتل والتشريد والسرقة والفساد عبر شعار “هي لله”. ثم تطور النظام في إستمراء التأويل ليتحول الشعار من “هي لله” إلي “كل شي لله”. شعار تغني به كبار الانقاذ وصغارها بعاطفة دينية أخفت ورائها كم هائل من الإجرام و الجبروت والفساد.

“التأويل إلي سلطة عليا” أعطي النظام مساحة للِّعب علي العاطفة الدينية وسماحة الأخلاق السودانية، حيث أعطت تلك الشعارات الرنانة جواز مرور للنظام لكي يخاطب تطلعات بعض الدوائر المحافظة في المجتمع السوداني، مما خلق حالة من الاستقطاب تحولت لاحقاً إلي بعدها الإثني الجغرافي إبان المفاصلة في عامي 1999- 2000 لتُظهر وجهاً قبيحاً للعنصرية والإثنية الضيقة في إطار تنظيم ادعي أن ما يربط “الإخوة” في “الدين” أقوي من الأهداف الدنيوية.

مارس النظام أيضاً وعن قصد وسوء منهج إختزال القضايا السياسية في السودان كونها صراع جهات جغرافية، ثم عمل لاحقاً على حصرها في بعد أثني ضيق، ليعمد بعد ذلك على استخدام الحزازات الاثنية لتصفيتها بالعنف وبواسطة جهاز الدولة القمعي وخصوصا آلته العسكرية مع تجييش مجتمعي على أساس اثني وعرقي وديني فيما يعرف بحملات المجاهدين والدفاع الشعبي والدبابين والقوات الصديقة وغيرها من المليشيات التي قامت بدور الأسد في تنفيذ ممارسات الابادة ومنهج القصاص الاستباقي.

حافظت الإنقاذ بذلك – في ظل ضعف فكري وكساح نظري للقوى المعارضة لها – علي وعي ضبابي في فهم وتفسير الأزمات والتحديات الوطنية علي مستوي المجتمع، وبالتالي قطعت الطريق أمام أحد أهم أدوات التغيير الجماهيري الذي يتم عبر الوعي والاستنارة للتخلص من التبعية.

ما يحزنني كثيراً ويؤسفني قوله في هذا المقال هو أننا لا نستطيع إنكار أن منهج النظام وسياساته وجدت في كثير من الأحيان آذاناً صاغية لدي مواطنين بسطاء تم إستدراجهم لمساندة البؤس السياسي للنظام ، وذلك إما باستدرار عاطفهتم الدينية أو بمخاطبة قناعاتهم ومخاوفهم الثقافية، وبالتالي نجحت الإنقاذ ببساطة في جرجرة بعض فئات المجتمع السوداني إلي محاكاة خطابها العنصري في التعاطي مع الأزمات السياسية، كما نجحت بجدارة في هدم لبنات الوحدة الداخلية وتغبيش وتشويش الوعي الوطني وطمس الأبعاد الحقيقية للازمة الراهنة ومآلاتها.

خلاصة: نهج السيطرة والقصاص الاستباقي وواقع الأزمة المجتمعية:

بعد تجربة امتدت لأكثر من 23 عاماً لم تبق الإنقاذ إلا علي شبح مجتمع ضعيف وشعب مفكك يعاني من فقدان الثقة داخل مكوناته المختلفة، مستعد لمحاربة بعضه البعض ومتشككاً في نفس الآن في صدقية شعارات قوي المعارضة ونواياها، وخصوصا أن اغلبها لا تطرح تفسيراً مختلفاً ولا منهجاً مغايراً لمنهج القصاص الاستباقي بل قد مارسته حين كانت في السلطة، بينما بعض أجنحتها الأخرى الجديدة تطور خطابا اقصائياً وانتقامياً يشكل الوجه الآخر لعملة الخطاب الإنقاذي المهترئة.

هذا بالضبط هو السبب الرئيسي في ضعف تجاوب الشارع العام مع دعوات الانتفاض ضد النظام وخلق ثورة شعبية جماهيرية تطيح بالنظام وتنهي عقوداً من القتل والتشريد والتجويع. فمكونات الشعب وجغرافياته المختلفة تعاني من عدم إتفاق حول هدف سياسي معين و تتباين في ترتيب جدول أولوياتها السياسية. فالبعض لا يرى في ذهاب نظام الإنقاذ أي حلول جذرية إذا ما انتهي الحكم في أيدي القوي التقليدية من جديد، و التي في نظر الكثيرين، هي وجه أخر لنظام الإنقاذ ومساند لسياساته من تحت الطاولة. البعض الآخر يشعر بالتهديد علي حياته في حال وصول المعارضة المسلحة للسلطة بالقوة تحسباً لعمليات تشفي وانتقام كردة فعل علي الممارسات العنصرية الاقصائية لنظام البشير. بينما هناك الكثيرون الذين يضعون رغبتهم في الانتقام من القتلة ومعاونيهم كهدف لا يثنيهم عنه تغيير النظام من عدمه.

ماذا ينتظر الوطن والأجيال القادمة بعد أن فكك النظام لبنات الوحدة الوطنية وكرس لمنهجي “السيطرة الاجتماعية” و “القصاص الاستباقي” حتى صارت سياسات النظام جزء من ثقافة مجتمع اليوم؟ ما هي الخطوة القادمة؟ وهل هي بالفعل الخطوة الأخيرة قبل أن ينفجر الوضع إلي تطاحن اثني بين مكونات المجتمع كما حدث في رواندا؟ ماهي الحلقة المفقودة في سلسلة الأحداث التي ستؤدي للانهيار التام، وما هو المطلوب للخروج من الأزمة الحالية التي لم تعد أزمة حكم بل أزمة مجتمع؟

هذه الأسئلة يجب أن تطرح نفسها على كل منظمات المجتمع المدني والقوي السياسية التي يجب أن تضع في حساباتها خطورة الوضع الحالي وفداحة ثمن مآلاته. فبعد أن كشف النظام عن البعد الحقيقي لمخططاته العنصرية وخوائه الفكري وتعّرت أدوات ثقافة العنف المجتمعي والسيطرة أمام الجميع، فليس هنالك مبرر من وقوف الناس في خانة المتفرجين حتى يأتي يوم يفرض فيه على المرء الخيار المر بين أن يكون قاتلاً أو مقتول.

هنا تكمن المعضلة ويظهر مفترق الطرق حيث يصبح رتق فتق اللحمة الوطنية واستعادة الوعي الجماهيري مهمة ذات أولوية قصوى في ظل الوضع الحالي، حيث إن ما تبقي علي مرحلة الانهيار التام هو بروز أي حدث ذو تأثير علي العاطفة الشعبية بحيث يستدعي المواطنين للخروج للشارع، ليس لإسقاط النظام ولكن للثأر والتشفي، وذلك وفق السيناريو الرواندي عندما قتل رئيس الوزراء في حادث تحطم طائرة مدبر فكان الحدث الذي أشعل حريق الابادة.

هل يعنى هذا إن دوامة العنف المجتمعي والعنف المضاد ستتواصل في السودان بلا نهاية وإن مصير بلادنا هو الوقوع في التفكك والفوضى؟ نزعم أن لا ، ولكن هذا التحول لن يتم إلا بشرط توفر ظروف سياسية واجتماعية مغايرة وبروز قيادة سياسية ملهمة قادرة على تقديم البديل الإنساني عن منهج القصاص الاستباقي بكل جذوره الفكرية والثقافية، وفي أول هذه الشروط الإطاحة بنظام الإنقاذ، ومن ثم تقديم مشروع وطني قابل لجمع الناس حوله بدلا من تصارعهم الحالي، وهو ما سنتناوله في مقال قادم.

Leave a Reply

Your email address will not be published.