الفاشر وميض يتلألأ من ركام التاريخ
حسين اركو مناوي
اللهم لا اعتراض على حكمك، فأنت من هيّأت القدر، خيره وشره، وكنا على موعد مع قدرٍ مشؤوم، حرب 15 أبريل 2023. فلنستفد منها دروسًا وعِبَرًا، ونفهم فلسفة الحياة وكنه الموت، كما قال الشاعر محمد المهدي المجذوب:
“وجعل الموت بقاءً، ورجاءً، وغِراسًا منه لا يفنى الثمر”.
حرب 15 أبريل 2023، جريمة أعدت في مطابخ إقليمية ودولية .. هل الفكاك منها كان ممكناً ؟؟؟؟ كلا لا مفر منها لأنها قدر إلهي والقدر الإلهي لا مفر منه .
الفاشر،أيتها المدينة الصامدة، كنت على موعد مع الفاجعة التاريخية . التاريخ اطلّ عليك بجيناته التي تتحرك مع كل دورة من دورات الحياة وتسري على أصقاع المعمورة باحثة فرائسها في المجتمعات البشرية الامنة فتختار موقعاً على الكرة الأرضية حسبما يقتضيه القدر الإلهي وانت كنت يا الفاشر ذلك الموقع في هذه الدورة التاريخية المشؤومة.
هذه المرة القدر الإلهي اختارك يا الفاشر السلطان كي تتحمل عبء الابتلاء التاريخي لهذه الحرب اللعينة ومن نافذة التاريخ نشاهد الصاغ محمود أبوبكر يتنبأ لنا في قصيدته ” صه يا كنار” كيف يكون شكل هذا العبء وإن لم يذكر في قصيدته الرمزية مدينة الفاشر بالاسم. أحداث وفواجع وليالي مدلهّمات عبر التاريخ تكررت وتجمعت في مدينة الفاشر لتقدم لنا دروساً وعبراً. كانت غيوم تلبدت في سماء الفاشر لا لتسقي المدينة إنما لتمطر زوابع ورعود مصداقاً للمقولة الشهيرة التي سمعها كل سوداني الف مرة ” إن شاء الله تمطر حصو”. مقولة ربما مرت مرور الكرام عند البعض ولكن كانت فعلاً تعبيراً عن مقدار حقد دفين وكراهية تغلي كالبركان وتقطرت لاحقاً كسم الأفاعي على جسد السودان.
على قول الشاعر سيد عبدالعزيز ” من كل لون اخذت نصيب” في قصيدته يا مداعب الغصن الرطيب، ايضاً الفاشر في محنتها من كل مأساة في التاريخ نالت نصيب. انت يا الفاشر نلت المأساة من مدائن الإبادة والتطهير العرقي، تجسدت فيك مأساة رواندا ومدائنها ووحشية الهوتو وما سُفكت من الدماء التي فاضت نهر نيا ورنغو بغزارة … و سربرينتشا الصربية كانت ماثلة فيك بتفاصيل دقيقة تحكي عن قسوة وبربرية ملز وفتش وحليفه كراديتش. …طروادة هي الأخرى نفضت غبار القرون وتسللت خلسة في أزقة الفاشر بحصانها الرمزي؛ رمز التجسس والخيانة والغدر والخسة لكي تطعن من الخلف الأبطال في الفاشر الصامدة …. وكأنّ الشاعر ابو تمام يتحدث عن الأهوال التي ألمت بك في الأحياء السكنية الوادعة في ؛ الوحدة …في الثورة ..في التيمانات …وفي مكراكا. .. وفي حي المطار …وفي ملاجئ زمزم حين قال في محرقة مدينة عمورية في القرن التاسع الميلادى؛ وتركت فيها بهيم الليل وهو ضحى….يشله وسطها صبح من اللهب. ….كل هذه الأهوال كانت من نصيبك يا الفاشر الصمود … ماذا تكون يا تراك؟؟؟؟ هل انت “بروميثيوس” الذي قرأنا عنه في روائع الشاعر صلاح احمد ابراهيم: وبصدرينا “بروميثيوس” في الصخرة مشدوداً يُعذّب فبجسم الف نار وبجسم الف عقرب يا هيلين. … شاهدنا فيك أهوال أصحاب الأخدود الذين تنزّل فيهم القرآن الكريم من فوق السموات السبع في قوله تعالى ” قتل أصحاب الأخدود.. النار ذات الوقود.. إذ هم عليها قعود” .. إنت يا الفاشر الصمود انتزعت حقاً بكل جدارة مقاماً تقاصرت له مدائن التاريخ وأصبحتَ فعلاً رمزاً للصمود والجسارة والفداء ويحق للبشرية أن تتخذ مثلك محراباً للحرية.
في هذه المرثية النثرية نحن مع الصاغ محمود أبوبكر لنقف ونتأمل في جدارة اهل الفاشر وقوة شكيمتهم وكيف تحمّلوا كل تلك الأهوال.
الصاغ محمود السوداني الابىّ في الأربعينات القرن الماضي عندما عرض له الإنجليز مقايضة ويا لها من مقايضة. صفقة التحرر أي استقلال السودان في حالة مشاركة أبناء السودان معركة الصحراء الغربية سوف تمنح الدولة الاستعمارية الاستقلال للسودان بخطوات متسارعة وقَبِل الصاغ محمود الصفقة دون تردد ولكن صديقه عقيل احمد عقيل حاول أن يبث روح اليأس والخذلان في نفس الصاغ محمود فكتب الضابط السوداني محمود ابوبكر قصيدة رائعة وبليغة بعنوان ” صه يا كنار” وهي أنسب ما يقال في محنة الفاشر الصمود.
“صه يا كنار” ترميز للضعف والهوان لأن طائر كنار من أضعف الطيور. رسالة قوية لكل المتخاذلين لأغراض ذاتية وبخس لذا يقول لهم “دع المزاح لذي الطلاقة والدد”
رغم نداءات التخاذل التي كانت تتدفق كالشلال عبر الوسائط الاجتماعية لم يتخاذل أبناء وبنات الفاشر وظلوا يقدمون شهيد/شهيدة تلو الاخر بل بأعداد مهولة فوج إثر فوج جديد.
الفاشر كانت في حلبة مصارعة مع قوى غير متكافئة ولكن واجهتها بكل الشجاعة والتفاني ولم تأبه حجم العدو وقدراته. كانت الفاشر كأنها علي اتصال مع الصاغ محمود عبر توارد الخواطر telepathy.
فإذا صغرت فكن وضيئاً نيراً…. مثل اليراعة في الظلام الأسود.
يا لك من الرفعة، الفاشر الصمود!!! نعم انت مدينة صغيرة ولكن كنت ترسل وميضاً كاليراعة فأصبحت محط الانظار في العالم كله بل مصدرالإلهام لشعوب متعطشة بالحرية ومصدر إعجاب لانك صمدت أمام تكالب دولي رهيب . مليارات الدولارات تتدفق من خزائن دول مُتخَمة ببترودولار من أجل تحطيم إرادة مدينة صغيرة قياساً اسمها الفاشر وشعب يعشق السلام والمحبة قال لا للذل والإهانة والعبودية مردداً قول الشابي؛
فمالك ترضى بذل القيود….وتحني لمن كبلوك الجباه.
وتقنع بالعيش بين الكهوف….فأين النشيد وأين الإباه.
الفاشر كانت رواية فريدة وشخصياتها مميزة. القصة كلها تتلخص في درجة مواجهة ومقاومة الهجمة الدولية الشرسة وكيف صمدت الفاشر أمام قدرات هائلة فوق التصور. العتاد الحربي يتدفق عبر الحدود بلا توقف ‘ المجال الجوي يعج بحركة طيران غير مسبوق تحمل معدات تجسس وتشويش وتقنيات عالية لتغذي المليشيا بآلة الدمار والقتل. بالرغم كل هذا التفوق كان هناك رجال يتحركون كالنمل دون كلل وملل ويسهرون الليل من أجل صد العدوان وعلى امتداد المسافة من بورتسودان الي الفاشر. قيادة الدولة مع قيادة المشتركة يتسابقون مع الزمن لجلب عتاد حربي علّ وعسى يسد فجوة القدرات الوطنية في مواجهة التدفق الهائل للسلاح والمرتزقة عبر الحدود.
وعلى مدى 400 يوم كتائب من جنود وقادة عسكريين من الجيش والمشتركة والمستنفرين ترابط في كل زقاق من ازقة مدينة الفاشر لمنع أفواج المليشيات والمرتزقة من التسلل إلى المدينة . قوات مشتركة تارة تجوب الصحاري لمواجهة تدفق المقاتلين الأجانب والعتاد الي السودان عبر الحدود الليبية وتارة أخرى تخوض غمار معارك شرسة لتمتص وتبتلع الأعداد الهائلة من المليشيات كما تبتلع الثقوب السوداء المجرات. ومع كل هذا المجهود الضخم كانت العوازل أكبر مما يتصورها العقل حيث الإمكانات الدولية الضخمة وقفت عقبة كأداء أمام فك حصار الفاشر كأنّ الصاغ محمود انشد قصيدته “صه يا كنار” لهذه المناسبة حينما قال:
وارى العوازل حين يملكنا الظمأ…..فأموت من ظمأ أمام المورد.
في هذه الملحمة التاريخية تمايزت الصفوف كانت هناك كواكب عرفنا قدرهم ولم يبخلوا بحياتهم ولا بأوقاتهم وسوف يسطر لهم التاريخ بأحرف من النور وآخرون احبوا التقاعس والخذلان كما وصفهم الصاغ محمود:
وعرفت اخلاق النجوم… ..فكوكب يهب البيان وكوكو لا يهتدي.
وكويكب جم الحياء وكوكب يعصي الصباح بضوئه المتمرد.
وهكذا انشدت الفاشر الصمود آخر صفحة من روايتها الفريدة بمناحة من رائعة الصاغ محمود ابوبكر وأرسلها إلى مسامع العالم :
صه غير مأمور وهات مدامعاً…..كالارجوانة وابكى غير مُصَفّد.
أنا لا أخاف من المنون وريبها… ما دام عزمي يا كنار مهندي.
سأذود عن وطني وأهلك دونه …في الهالكين فيا ملائكة اشهدي.
