الفاشر، بارا، بورتسودان، مدن سودانية تعيش حالة ما بين الحرب والسلام
حاتم السر سكينجو – المحامي
أعددت كلمة لتقديمها في الجلسة الافتتاحية للورشة التي ينظمها مجلس الأحزاب السودانية في بورتسودان، حول إصلاح قانون الأحزاب السياسية لسنة 2007، بيد أني عدلت عن رأيي، وغبت عن المشاركة، على إثر ما جرى متزامنًا مع الورشة من أحداث مؤسفة، وجرائم وحشية، وانتهاكات فظيعة، ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع في الفاشر وبارا، أدت إلى ترويع المواطنين، وإراقة الدماء، وإزهاق الأرواح، وتدمير الممتلكات.
في أوقات الألم العميق، تُختبر الأمم. تُختبر إرادتها، ويُختبر وعيها، ويُختبر صدقها مع ذاتها.
اليوم، والناس يتحدثون عن تطوير الحياة الحزبية في السودان، هناك مدينةٌ سودانية تبكي، وبلادٌ تُشد أطرافها كي تتمزق.
لكن التاريخ يُعلّمنا أن الأمم لا تُقاس بما تسقط منه، بل بما تنهض به. وعلمتنا الأزمات أن الدروس والعِبر تكون بالخواتيم، وبما ينتهي إليه وعي الأمم بعد المحن الكبرى.
فالفاشر جُرحٌ في الجسد، لكنها أيضًا نداءٌ للروح: نداءٌ بأن الاستشفاء الوطني ممكن، وأن الصمود الوجداني هو أول درجات النصر، وأن التماسك الروحي هو السلاح الأخير. لقد صمد أهل الفاشر جميعًا، ومن الهزيمة وإعادة التموضع سيُصنع النصر، وسيُعبّد الطريق إلى عودة الفاشر إلى حضن الوطن.
البندقية تصنع الانتصار، لكن السياسة الرشيدة هي التي تحميه، والفكر الوطني هو الذي يمنحه المعنى. فلا يكفي أن نربح الحرب، بل يجب أن نربح السلام بعدها.
لهذا السبب، على القوى السياسية السودانية رسم معالم الضمير الوطني المخلص: إعادة بناء العقل السوداني والوجدان الذي طالما صنعته الحركة السياسية، وطالما حصّنته من الاختراق، وطالما جعلت الوطنية أساس التفكير، والوطن هو الغاية.
الشعب يريد من القوى السياسية الوطنية أن تتعاهد على إصلاح ذاتها، وأحزابها، وهياكلها، ويريد قانونًا يجعل من الأحزاب أدواتٍ للوعي لا مطايا للسلطة، ومن التنافس تنظيمًا للتنوع والاختلاف، لا لعنةً في الانقسام يستغلها الأعداء.
إنّ ما نحتاجه اليوم ليس فقط نصوصًا تُنظم الأحزاب، بل رؤية تُعيد للحياة السياسية كرامتها وأخلاقها ومغزاها.
نحن نريد أن تعود السياسة لتكون فنّ خدمة الناس لا حرفة إقصائهم، وأن تُصبح الأحزاب ساحاتٍ لتدريب المواطن على الحوار، لا منصاتٍ للسباب أو الفتنة.
إنّ قانون الأحزاب يجب أن يفتح الطريق إلى انتخابات حقيقية، انتخابات تُعيد للشعب صوته، وتُعيد للسلطة مشروعيتها، انتخابات لا يُقصى فيها أحد، ولا يُشترى فيها أحد، انتخابات تُعيد للناس ثقتهم بأن المستقبل يُبنى بالاختيار لا بالقهر والإكراه.
ولأننا نريد هذا المستقبل، علينا أن نؤمن بأن الحوار السوداني – السوداني هو الطريق إليه: حوار لا تُديره عواصم العالم، بل ضمائر السودانيين أنفسهم، حوار لا يتحدث فيه أحد باسم الوطن إلا إذا كان الوطن يتحدث فيه.
فالحوار ليس ضعفًا، بل هو أعظم أشكال القوة، لأنه لا يصدر عن الخوف، بل عن الثقة. ولأننا نؤمن بالسلام، يجب أن نؤمن أيضًا بالمصالحة المجتمعية، فالأمم لا تُشفى بالقوانين وحدها، بل بالمغفرة أيضًا.
علينا أن نتصالح مع بعضنا… مع جيراننا، مع تاريخنا، مع من اختلفنا معهم، لأن مستقبل السودان لا يمكن أن يُبنى بنصف قلب ونصف ضمير.
حين نتحدث عن المصالحة، نتحدث عن حقوق الإنسان أيضًا. فكرامة الإنسان السوداني ليست منحة من أحد، بل هي أصل وجود الدولة. وحقوقه في الحياة، والحرية، والمشاركة، ليست رفاهية، بل شرطٌ للاستقرار. إن من واجبنا أن نكتب قوانين تحفظ هذه الحقوق، لا لأن العالم يطلبها منّا، بل لأننا نُدين بها لأنفسنا، لأننا نريد أن نعيش في وطن لا يخاف فيه المواطن من رأيه، ولا يُطارد فيه الصحفي بقلمه، ولا يُهان فيه الإنسان بعرقه أو فكره أو انتمائه.
نحن نعلم أن الخارج امتلك الخطاب الوطني حين قصّرنا في تمثيل أنفسنا، وأن الداخل سيطر عليه التطرّف حين غبنا عن ساحته.
اليوم، آن الأوان أن نستعيد الأمرين معًا: أن نعود إلى الخارج بعقل موحّد ولسان واحد، وأن نعود إلى الداخل بروح جامعة لا تُقصي أحدًا.
إن على الأحزاب، بالتنسيق مع الحكومة ومجلس الأحزاب، أن تبدأ من هذه اللحظة في بناء هوية وطنية حزبية راشدة، تُعيد الثقة بين المواطن والسياسة، وتُثبت أن الديمقراطية ليست مغامرة، بل هي طريق الخلاص.
علينا أن نُثبت للعالم أن السودان ليس وطن الحروب، بل وطن السلام، وأنه ليس وطن الأزمات، بل وطن الإمكانات، وأن فينا طاقة حياة أكبر من كل هذا الخراب.
فكل ما نحلم به يبدأ من هنا: من قانون عادل، من كلمة صادقة، من نية صافية.
فلنجعل من هذه الورشة الخاصة بإصلاح قانون الأحزاب السياسية بدايةً لعهد جديد من الاستشفاء الوطني، ومن العمل المدني النبيل، ومن الإيمان بأن البندقية تُقاتل، ولكن الفكرة هي التي تُنقذ.
دعونا نُعيد الإيمان بأن هذا الوطن، مهما جُرح، لا يموت، وأن أبناءه، مهما اختلفوا، سيجدون طريقهم إليه، لأن في السودان، كما في القلب، متّسعًا للجميع.
