الآثار المترتبة على توقف الممارسة المهنية في سلطة الطيران المدني
ابراهيم عدلان
مقدمة
أدى اندلاع الحرب وانتقال العاصمة الإدارية إلى مدينة بورتسودان إلى توقف نحو ٨٠٪ من عناصر ومنسوبي سلطة الطيران المدني عن العمل قسرًا، نتيجة للظروف الأمنية واللوجستية التي صاحبت الأحداث. وفي مواجهة هذا الواقع الاستثنائي، لجأت الإدارة العليا إلى إنشاء فرق طوارئ محدودة العدد لتسيير بعض الأعمال الحيوية، خاصة ما يتصل بالمراقبة الجوية، والاتصالات، وخدمات الملاحة الجوية، إلى أن تم إعادة فتح جزئي للمجال الجوي الشرقي في محاولة لتخفيف الآثار التشغيلية والإدارية الناجمة عن الإغلاق الكامل، ومعالجة شح الموارد المالية الذي تأثر بشكل مباشر بانقطاع الإيرادات السيادية للقطاع.
ورغم الجهود التي بذلتها الإدارة في المحافظة على الحد الأدنى من التشغيل، إلا أن طبيعة العمل الفني في الطيران المدني — القائم على الاستمرارية والتدريب والتحديث المستمر — جعلت آثار هذا التوقف عميقة وطويلة الأمد.
أولًا: الإجراءات الإدارية للمحافظة على الكوادر والتراخيص
حرصت الإدارة العليا خلال فترة التوقف على المحافظة على صلاحية التراخيص والرخص المهنية الخاصة بالعاملين الفنيين في مجالات المراقبة الجوية، وهندسة النظم الملاحية، والسلامة، والنقل الجوي.
فتم التواصل مع منظمة الإيكاو وعدد من الجهات الإقليمية لضمان الاعتراف المستمر بالرخص السودانية والسعي لتجديدها في الحدود الممكنة.
كما تم تمديد فترات الصلاحية لبعض الشهادات المهنية مؤقتًا لحين عودة التدريب الدوري، في محاولة لتفادي سقوط الأهلية الفنية للعاملين، والحفاظ على الحد الأدنى من الجاهزية عند استئناف العمل الطبيعي.
ثانيًا: ضعف التخطيط وغياب الرؤية المرحلية
رغم الجهد المبذول في التشغيل الجزئي، إلا أن الممارسة التي تمت في فتح المجال الجوي الشرقي كانت متقطعة وغير متقدمة فنيًا، وافتقرت إلى الرؤية المرحلية التي توازن بين الإمكانيات المتاحة ومتطلبات السلامة.
فقد اتسمت الإجراءات بطابعٍ ردّ فعلي، أكثر من كونها ناتجة عن دراسة تشغيلية شاملة، مما قلل من كفاءتها الفنية ومن أثرها في بناء الثقة الدولية بمقدرات المؤسسة.
ثالثًا: أثر غياب الكوادر الفنية المتخصصة
توقف الممارسة المهنية لفترة طويلة تسبب في فقدان الخبرة التراكمية لدى العناصر الفنية، وغياب الحس الإجرائي في المرافق الحيوية.
انعكس ذلك في تراجع الكفاءة في مجالات المراقبة الجوية، وهندسة النظم الملاحية، وإدارة السلامة الجوية، إلى جانب ضعف القدرة على مواكبة المتطلبات المستحدثة من منظمة الإيكاو ومعاييرها التشغيلية، مما أدى إلى اتساع الفجوة بين الأداء المحلي والممارسات الدولية المعتمدة.
رابعًا: اختلال التوازن بين العناصر الفنية والإدارية
وبالرجوع إلى التقسيم الأساسي لمنسوبي السلطة بين العناصر الفنية والمساندة الإدارية، فقد دفعت ظروف التوقف الإدارة العليا إلى الاعتماد على الاجتهاد الشخصي وغياب المرجعية المؤسسية في اتخاذ القرار.
هذا الأمر أدى إلى تحكم نفرٍ محدود في مسار السلطة، وصدور قرارات فردية في بعض الإدارات الحيوية مثل دوائر السلامة والنظم الملاحية، دون استناد إلى هياكل تشغيلية أو خطط معتمدة، وهو ما زاد من هشاشة البناء المؤسسي في فترة ما بعد الحرب.
خامسًا: ضعف العدالة في اختيار فرق الطوارئ
تجلّى أثر الاضطراب الإداري أيضًا في غياب الأسس الواضحة والعادلة لاختيار فرق الطوارئ.
إذ طغى الطابع الشخصي في الترشيحات بدلًا من المعايير المهنية التي تراعي الكفاءة والخبرة، مما أضعف أداء الفرق الميدانية وخلق حالة من الإحباط بين الكوادر الفنية غير المشاركة.
إن مثل هذه الممارسات تُفقد فرق الطوارئ مصداقيتها وتُضعف روح الفريق داخل المؤسسة.
سادسًا: المفارقة بين الطموح الخارجي والواقع الداخلي
من المفارقات اللافتة في هذه المرحلة الحرص الكبير على المشاركة الإقليمية والدولية، وكأنها غنائم رمزية، في وقتٍ تعيش فيه البلاد ظرفًا استثنائيًا يستدعي ضبط الطموح واستغلال الموارد المحدودة في بناء القدرات المحلية أولًا.
فالمشاركة الخارجية يجب أن تكون وسيلة للتأهيل واستجلاب الدعم الفني، لا غاية شكلية تُستنزف فيها الجهود دون مردود مؤسسي حقيقي.
سابعًا: المعالجات المطلوبة
- مخاطبة منظمة الإيكاو رسميًا لتقديم المساعدة الفنية في برامج إعادة التأهيل وتفعيل مكتب ممثلية السودان في مونتريال ليكون منصة دعم واتصال فني مباشر.
- التعاقد مع بيوتات خبرة دولية متخصصة في إعادة التأهيل المهني للكوادر الفنية بمراحل تدريجية تبدأ بالمراقبة الجوية والسلامة.
- تشكيل لجنة قومية عليا تضم خبراء من الطيران المدني، وممثلين من وزارات النقل والخارجية والمالية، لتقييم الأضرار ووضع خارطة طريق لإعادة البناء المؤسسي والتشغيلي.
خاتمة
إن توقف الممارسة المهنية في سلطة الطيران المدني ترك آثارًا عميقة تمس جوهر الكفاءة والانضباط الفني في هذا القطاع الحيوي.
ولا يمكن تجاوز هذه الآثار إلا من خلال رؤية إصلاحية شاملة تتأسس على العدالة، والتخصص، والاستقلالية المؤسسية، مع الاستعانة بالشركاء الدوليين لإعادة السودان إلى موقعه الطبيعي في منظومة الطيران العالمية.
المدير العام الأسبق لسلطة الطيران المدني
