روسيا واثيوبيا.. سلاح قديم قناني جديدة
بقلم : امير بابكر عبد الله
هل تحاول روسيا نفخ الروح في ترسانة اسلحة امبراطوريتها السابقة بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، واستعادة بعض من نفوذها الذي جرفته تطورات اكثر من ثلاثة عقود أعاد فيها العالم رسم خريطته الجيوبولوتيكية؟ هو أول سؤال يتبادر إلى الذهن، بعد توقيع الاتفاق العسكري بين موسكو واديس أبابا الايام الماضية، تلك الخطوة التي أثارت جدلا كثيفا ما كانت لتثيره في ظل أوضاع غير تلك التي تسود منطقة القرن الأفريقي.
مشهد قديم
في إطار الصراع الشرس بين قطبي العالم إبان الحرب الباردة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تلقت الإمبراطورية السوفيتية اكثر الصفعات إيلاما من غريمتها واشنطن عندما استطاعت الأخيرة ازاحتها من المشهد السياسي والعسكري في جمهورية مصر العربية، بعد صعود أنور السادات إلى سدة الحكم فيها عقب وفاة الرئيس جمال عبدالناصر. وكانت موسكو قد ألقت بثقلها السياسي والعسكري في مصر أبان حكم عبد الناصر، ونفذت من خلال القاهرة للتمدد في القارة الأفريقية مساندة لحركات التحرر الوطني فيها. وبلغت جملة مبيعات الأسلحة السوفيتية لمصر في الفترة من 1967 بعد النكسة حتى 1969 حوالي 3.5 مليار دولار.
لم يستسلم الدب الروسي معيدا تنظيم خطواته متغلغلا في بعض الدول الافريقية والشرق الوسطية، داعما للأنظمة الصاعدة فيها، إذ أحكم بناء مثلثه الشهير إثيوبيا جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وليبيا في إفريقيا وسوريا والعراق في الهلال الخصيب ودعم الحركات الفلسطينية، واضعا القاهرة التي تمردت عليه في كماشة الرافضين لسياسات التغلغل الأمريكي في المنطقة، في ذلك الوقت.
مع انهيار الاتحاد السوفيتي، فقدت صناعة السلاح الروسية كثيرا من أسواق السلاح حول العالم وتراجعت الصفقات المليارية، خاصة وان السلاح السوفيتي من أصغر قطعه إلى أكبرها كان متاحا لدول العالم الثالث إلى جانب دول الكتلة الشرقية. وكان يمثل موردا مهما ورئيسيا من موارد اقتصادها.
لم يكتف الغرب بنتيجة انهيار الإمبراطورية السوفيتية، بل عمل على محو كل آثارها في الكثير من المناطق حول العالم. وكانت عينه على تدمير كل أنواع السلاح السوفيتي الصنع الكثيرة الموجودة في مخازن تلك الدول. وعمد إلى تدميرها ، مثلما فعل في ليبيا التي خدع فيها موسكو إبان الثورة الليبية ضد حكم القذافي، وتدخل الغرب عسكريا من وراء ظهر روسيا رغم قرار مجلس الأمن المتوافق عليه، ووضع يده على كل أنواع الأسلحة السوفيتية ودمر جزء كبير منها. وذلك ما حدث في جمهورية اليمن بعد الوحدة واشتعال الحرب الأهلية فيها، وما حدث في العراق.
الا ان روسيا فاقت من ثباتها بعد ان شعرت بالأرض تتحرك تحت قدمي نفوذها أثناء محاولات الغرب التدخل في سوريا، وبخلاف ان سوريا تمثل موقعا استراتيجيا للامن القومي الروسي لإطلالها على البحر المتوسط فإنها آخر معاقل التسليح السوفيتي. لذلك رمت بكل ثقلها السياسي والعسكري في محاولة منها للحفاظ على اكبر مكاسب لها هناك، وهو ما نجحت فيه بالفعل ووقفت سدا منيعا أمام محاولات الغرب قلب نظام الحكم وإزاحة حليفها بشار الأسد.
بدأت روسيا محاولات العودة التدريجية إلى الساحة الأفريقية التي تمددت فيها الصين أثناء نومة دبها في موسم جليد استطال لسنوات بعد انهيار الاتحاد، إضافة إلى الوجود الأمريكي الذي لك تغرب شمسه منذ أن وطات قدماه القارة السمراء. وبدأت في السعي لتعطيل كل المشاريع الدولية تجاه ليبيا، بل وأصبح لها وجودها المؤثر في غرف صنع القرار بعد ان فاقت من حالة استغفالها، وذهبت إلى أبعد من ذلك بالتحالف الوثيق مع عدوها اللدود، تركيا وتنسيق خطواتهما معا في هذا الملف. ثم اتجهت إلى وسط أفريقيا بقواتها وسلاحها.
في ظل كل هذه التحركات، لم تغفل عين موسكو عن البحر الأحمر والقرن الأفريقي كمناطق إستراتيجية كان نفوذها يتمدد فيهما يوما ما، عندما كانت علاقاتها مع مصر والسودان واليمن الجنوبي واثيوبيا، في ازمنة متفاوتة، سمن على عسل.
وها هي اخيرا تضع قدميها في إثيوبيا بموقعها المميز وثقلها السياسي القاري، ولم تجد صعوبة كبيرة في التأقلم مع الواقع الجديد، بعد نحو عقدين من انهيار نظام العقيد منقستو هيلي ماريام الذي كان مواليا لموسكو سياسيا وعسكريا ويمثل الضلع الثالث والأهم في استراتيحيتها منذ سقوط الإمبراطور هيلاسلاسي.
احتفظت إثيوبيا، الدولة الخارجة من آثار ثورة طويلة الأمد منهكة اقتصاديا، احتفظت باستراتيجيتها العسكرية مستخدمة ذات نظام التسليح الذي ورثته عن نظام منقستو، بل وساعدها في اسقاطه. فقد خلف منقستو ترسانة من الأسلحة من أصغر قطعة كلاشنكوف وإلى أحدث طرازات الطائرات المقاتلة من فئة ميج وسخوي، مما جعل من الجيش الأثيوبي قوة عسكرية ضاربة لا يستهان بها.
وعلى الرغم من علاقات النظام الجديد في أديس بعد نجاح الثورة مع الغرب، الا أنه ظل محتفظا بطبيعته العسكرية الشرقية اسلحة وتكتيكا، وذلك لوجود كثير من الكادر الخبير الذي تلقى تدريباته في كيفية التعامل مع تلك الأسلحة وصيانتها. ولأن خزينتها لا تسمح باستبدال ذلك بتسليح غربي مكلف إضافة لوضع إقليمي متوتر لا يحتمل الغياب، غضت ادبس الطرف عن الدخول في صفقات ذات بال في مجال الأسلحة مع الغرب.
موسكو تدرك جيدا طبيعة الوضع في أديس أبابا والاقليم، فهي ستحاول الدخول في هذا العش بحذر، من خلال الاتفاق الاخير مع اديس. فبعد تجربتها مع السودان والتغيرات التي حدثت فيه واثرت على مركز صنع القرار فيه مما اطاح بقاعدتها فس فلامنجو على البحر الأحمر، ترى بعين واعية وفاحصة ما يدور في إثيوبيا وما يمكن أن تكون تداعياته. فهي لم تذهب إلى الحد الذي ذهبت فيه مع النظام السوري بتوقيع معاهدة دفاع مشترك لها التزاماتها، وإنما اكتفت بالتوقيع على اتفاقية تضمن لها استمرار سوق الأسلحة في منطقة مهمة كم القارة والعالم، تعج بالصراعات. فطبيعة الاتفاق الاخير تذهب إلى التدريب وتأهيل الأسلحة، وبالتركيز على تحديث منصات الدفاع الجوي والطيران العسكري المعتمد على طرازات ميج وسوخي الروسية لمقابلة التحديات والتهديدات التي تواجهها أديس.
إن عودة إثيوبيا كسوق للسلاح الروسي يمثل أهمية كبرى بالنسبة لموسكو من الناحية الاقتصادية والسياسية، فهي بوابة مهمة يمكن الولوج من خلالها إلى كل منطقة القرن الأفريقي، ولا تزال عينها على البحر الأحمر.
إنها اسلحة قديمة موجودة في أديس أبابا تعبئها موسكو في قناني جديدة.