مسألة مياه حوض نهر النيل (1)
دكتور فيصل عبدالرحمن علي طه
[email protected]
1
في ديسمبر 2010، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبارعام 2013 السنة الدولية للأمم المتحدة للتعاون في مجال المياه. وذلك بغرض لفت الانتباه إلى فوائد التعاون في مجال المصادر المائية. وقد ذُكر في تبرير ذلك:-
* إن الماء مورد حيوي لا مثيل له، وهو المورد الذي لا يعرف الحدود.
* إن التعاون في مجال المياه يعد مفتاحاً للأمن والقضاء على الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين.
* إن المياه توفر فرصاً اقتصادية، ويعتبر الحفاظ على الموارد المائية عاملاً في حماية البيئة وحفظ السلام.
* إن التوسع العمراني السريع وتغيرات المناخ وزيادة الطلب على المواد الغذائية، وضعت ضغوطاً على موارد المياه العذبة.
هكذا قدرت الأمم المتحدة. ولكن ما الذي دهى أحد عشرة دولة تشاطئ أحد أطول المجاري المائية في العالم- أي نهر النيل، تعجز إلى يومنا هذا عن الاتفاق على نظام قانوني ومؤسسي لهذا النهر العظيم!
2
تشترك في حوض نهر النيل وروافده إثيوبيا وإريتريا وكينيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي والسودان ومصر ودولة جنوب السودان. وباستثناء السودان ومصر، فإن كل دول حوض النيل دول منابع. وأما السودان فهو دولة معبر ومصر دولة مصب. ويقدر عدد سكان دول حوض النيل حالياً بحوالي 487 مليون نسمة. يعتمد حوالي 257 مليوناً من هؤلاء على النيل في معيشتهم .
3
لقد تصرمت عقود من الزمان على تحرر دول حوض النيل من الإستعمار الأوروبي. ولكن مياه النيل لا تزال محل خلاف وتنازع. ولا يزال النيل بدون نظام قانوني ومؤسسي يستوعب كل دول الحوض. ومع أن هذا الخلاف قد يوظف أحيانا كأداة سياسية أو كعامل تأزيم، إلا أنه في رأينا خلاف قانوني في المقام الأول. فهو يتمحور حول خلافة المعاهدات والاتفاقيات التي أبرمت بشأن النيل إبان فترة النفوذ الأوروبي في أفريقيا. وكذلك حول الاتفاق الذي أبرم بين مصر والسودان في عام 1959 «للإنتفاع الكامل بمياه النيل». وتعيب دول المنابع على هذا الاتفاق أنه قد تم بدون استشارتها، وقسَّم كل ايراد النيل بين مصر والسودان دونما أي اعتبار لإحتياجاتها .
4
ورب سائل: وما هو حجم المياه بحوض نهر النيل التي يدور الخلاف حولها؟ يقدر الإيراد السنوي للنيل بحوالي 84 ملياراً من الأمتار المكعبة في أسوان. وقد سجل النيل أعلى إيراد له في موسم 1878-1879 حيث بلغ 151 ملياراً. وسجل أدنى إيراد له في عامي 1913 و1984. ولعل بعضنا يذكر القلق الذي اصاب السودانيين حكومة وشعباً عندما أبلغ وزير الري آنذاك المرحوم صغيرون الزين رئاسة الجمهورية، ثم أعلن على الملأ في 17 اكتوبر 1984 عن انخفاض في إيراد النيل لا مثيل له منذ عام 1913 حيث بلغ إيراد النيل 42 مليارا. وخلال الفترة 1984-1987 هبط متوسط الإيراد السنوي من 84 ملياراً إلى 52 مليار متر مكعب. ولولا ان الله لطف، وكان فيضان عام 1988 استثنائياً لما سلم السودان ومصر من كارثة مائية محققة.
5
إن كثرة الدول التي تشترك في نهر النيل لا تؤثر على طبيعته كوحدة. وباعتباره مورداً مشتركاً، فإن ذلك يقتضي إقامة إدارة تعاونية لتنميته وحماية بيئته لتحقيق الانتقاع الأمثل بمياهه. وحتى نهاية القرن الماضي حالت عقبات عديدة دون الوصول إلى أي شكل من أشكال التعاون يستقطب كل الدول المشاطئة لنهر النيل. ومن هذه العقبات نذكر على سبيل المثال الحروب الأهلية، والتوترات الثنائية، والخلاف القانوني الأساسي الذي سبق ذكره، والتفاوت في القدرات. وقد أسهم تبادل التصريحات الرئاسية والوزارية المترعة بالتهديد والوعيد، وبعض الأدبيات في الشأن النيلي في بث الريب وإشاعة أجواء عدم الثقة. فمن الكتّاب من كان يعزو مطالبة دول المنابع بحصتها المشروعة في مياه النيل إلى همسات خارجية في الآذان الأفريقية. وهناك من ذهب إلى أن التمسك بالحقوق المكتسبة أو التاريخية يرمي إلى تكريس هيمنة دول أسفل النهر على النيل واستئثارها بكل إيراده. وشكك أخرون في حاجة دول المنابع على مياه النيل بدعوى أن الأمطار التي تسقط فيها كافية لو أحسن استغلالها.
6
إنّ عدم وجود نظام قانوني متفق عليه بين دول حوض النيل، لا يعني أنّ النّهر يسوده فراغ قانوني. فالاتفاقيات ليست هي المصدر الوحيد للقانون الدولي. وهذا الفراغ يسده القانون الدولي العرفي. وقد استقرت في هذا القانون ثلاثة مبادئ أساسية. تلزم هذه المبادئ الدول المشاطئة للمجری المائي الدولي باستخدامه بطريقة منصفة ومعقولة، وبعدم التسبب في ضرر ذي شأن للدول المشاطئة الأخری، وبإبلاغ الدول المشاطئة الأخری مسبقاً بأي إجراء تزمع دولة مشاطئة تنفيذه على المجرى المائي. وقد دُونت هذه المبادئ الآن في اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لعام 1997.
دخلت هذه الاتفاقية حيّز النفاذ في 17 أغسطس 2014. وحتی 13 يونيو 2021 لم تصبح أي دولة من دول حوض النيل طرفاً في الاتفاقية. ولكن هذا لا يقدح في قيمتها القانونية أو في مرجعيتها كاتفاقية إطارية يجوز للدول أن تسترشد بها متى ما رأت ذلك ملائماً بغض النظر عن تصديقها عليها أو انضمامها إليها. فبما أنها صادرة من لجنة القانون الدولي التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنها بذلك تمثل البيان الأكثر موثوقية للمبادئ والقواعد التي تحكم الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية.
بإذن الله، سنتناول في الحلقات التالية تباعاً توجه دول الحوض نحو التعاون.