عودة الى مؤتمر باريس (2-2)
ملاحظات على المشروعات النفطية
بقلم : السر سيد أحمد
أحسنت وزارة الطاقة عندما استعانت ببعض الخبرات السودانية من خارجها لا عداد المشروعات التي قدمتها الى مؤتمر باريس، وهي خطوة أرجو تقنينها وتعميمها لتشمل كل الوزارات وتتيح بذلك فرصة المشاركة للسودانيين الراغبين.
على ان المشروعات النفطية التي فصل فيها وزير الطاقة جادين عبيد ومعاونوه تتطلب وقفة وابداء بعض الملاحظات. وأولها ان فكرة الدور المحوري الذي يلعبه قطاع النفط في تحقيق قفزة اقتصادية لا تزال مهيمنة في أروقة الوزارة وتحتاج الى مراجعة. وأهمية هذه النقطة تتمثل في انها مؤشر قوي على انه ليس هناك توافق واضح وملزم على مستوى القيادة التنفيذية للدولة بالوجهة التي تتجه اليها لتحقيق اختراق أقتصادي، ثم ان هذه القناعة تتجاهل ما يجري في ساحة صناعة النفط العالمية، التي يبدو انها تتجه لتحقيق نبوءة وزير النفط السعودي الاسبق أحمد زكي يماني وتعليقه على مستقبل الصناعة النفطية أن العصر الحجري لم ينته لنقص في الحجارة وانما لظهور البرونز وأن بروز تقنية جديدة سينهي العصر النفطي.
فمنذ التصديق على اتفاقية باريس للتغير المناخي والاشارات بدأت تترى ان شمس الوقود الاحفوري أذنت بالمغيب. ففي العام الماضي وفي تقريرها الاحصائي السنوي الذي يصدر منذ 62 عاما قالت شركة “بريتش بتروليوم” أو “بي بي” ان الصناعة وصلت الى مرحلة ذروة الطلب. وهذا التعبير الذي يعود الى الجيولوجي الامريكي كنق هوبرت كان يعني أساسا عدم قدرة الصناعة النفطية على تلبية احتياجات النمو المستمر على الطلب، لكن تقرير “بي.بي” يشير الى العكس وان حجم الطلب الذي بلغ 100 مليون برميل يوميا في العام 2019 سيكون السقف الذي ستتراجع عنه الكميات في الاعوام التالية رغم تقديرها أن حجم الاحتياطيات العالمية تصل الى 1.7 ترليون برميل.
“بي بي” أتبعت ذلك بخطوات عملية تتمثل في زيادة أنفاقها في مجالات الطاقة المتجددة على حساب ميزانيات الوقود الاحفوري وتبعتها مختلف الشركات بصورة أو أخرى.
ثم جاء أعلان الوكالة الدولية للطاقة، التي تضم الدول المستهلكة الرئيسية للنفط لتقول في تقرير منتصف الشهر الماضي انه ليست هناك حاجة للأستثمار في النفط الاحفوري والعالم يتجه الى وقف الانبعاثات الحرارية، وهو الموقف الذي يعاكس كل ما قامت به الوكالة منذ تأسيسها عقب الحظر النفطي في 1973 بتشجيع المزيد من الاستثمارات لتوفير الامدادات.
على ان التغيير الكبير ما شهده الشهر الماضي من حدثين مهمين أطلق عليهما يوم الاربعاء الاسود بالنسبة للصناعة النفطية. فقد فرض معارضو الوقود الاحفوري على مجلس أدارة شركة أكسون/موبيل عضوين في مجلس الادارة ليعملوا على دفع الشركة في أتجاه تغيير مسارها التقليدي وذلك للتعاطي مع أزمة الوجود التي تواجهها. وأكسون كانت تعتبر أيقونة الصناعة النفطية وتملكت في فترة ما ناقلات تجاوز عددها ما لدى الاتحاد السوفياتي عندما كان دولة عظمى. ثم جاء الحكم الذي أصدره قاض هولندي على شركة شل أن تضاعف من سرعة الاجراءات التي ستتخذها للتقليل من الانبعاثات الحرارية الناجمة عن حرق الوقود الاحفوري مما يعني تقليل أو وقف الاستثمارات في هذا المجال. والقرار الذي يتناول أنشطة الشركة المستقبلية سيشجع قوى الضغط ضد الوقود الاحفوري خاصة النفط على تشديد حملاتها. فشركة شيفرون مثلا التي يعرفها أهل السودان واقعة تحت ضغط أعلامي ودعاوى قضائية انها تتبنى منهجا اعلانيا مضللا مما يعد خرقا للإرشادات الخضراء التي اعتمدتها هيئة التجارة الفيدرالية الامريكية، ودعوة حملة الاسهم أدارة شيفرون أن تعمل على خفض الانبعاثات الحرارية من منتجاتها.
وهذا ما يحتاج نفطيو السودان وضعه في الاعتبار. فالصناعة النفطية تتميز بالترابط والتأثر بما يجري حول العالم. صحيح هناك مسافة زمنية تصل الى 30 عاما حتى تنفيذ اتفاقية باريس، لكنه ليس وقتا طويلا لنموذج اقتصادي يكون أساسا لتنمية مستدامة.
ويتطلب هذا تحديدا أن يوضع في الاعتبار ان مرحلة الشركات الكبرى الباحثة عن احتياطيات نفطية لاستغلالها ربما تكون قد انتهت الى الابد.
وإذا كان هذا ما يخص الاتجاه العام، فأن بعض المشروعات التي طرحت في باريس تحتاج الى نظرة ثانية. فمثلا ما الذي يجعل شركة أجنبية تدخل في مشروعات في المربعات الحالية لزيادة الانتاج المحلي في السودان لمقابلة الاستهلاك وفي وجود صعوبات في توفير العملة الصعبة وحالة التضخم المنفلت، هذا بالإضافة الى القضايا المعلقة مع الشركات الاجنبية التي تم استغلال حصتها من الانتاج ولم يتم الدفع لها حتى الآن.
وهناك أيضا مشروع تحديث وتوسيع مصفاة بورتسودان. المشروع قديم وبرز بعد تزايد انتاج السودان النفطي حيث تم الاتفاق مع “بتروناس” الماليزية لإعداد دراسة عن المشروع، لكن في تلك الفترة تصاعدت الاسعار وسحبت معها تكلفة المواد وأجور المهنيين الى مستويات قياسية مما جعل الخيار الافضل تأجيل المشروع حتى تستقر الاوضاع قليلا، وبعد ذلك بدا واضحا أن الجنوب، حيث معظم الاحتياطيات، يتجه الى الانفصال وبالتالي أثير سؤال الامدادات للمصفاة المقترحة، وهو سؤال لا يزال قائما. فالمصافي في العادة أما تعتمد على امدادات من بلدها نفسه أو يتم أنشاء مصفاة قريبا من مناطق الاستهلاك كما تفعل “أرامكو” السعودية مع المصافي التي أنشأتها في كورية الجنوبية والولايات المتحدة وغيرها وتوفر لها الخام المطلوب، أو تقام المصافي في أمكنة مثل سنغافورة تتمتع ببنية أساسية وبيئة أعمال مناسبة ومثل هذا الوضع غير متوفر في السودان. ولهذا يبدو أفضل خيار لجذب أي شركات أجنبية أن تكون للمشروع قابلية تصديرية وبالتالي واغراء المستثمر الاجنبي بضمان الحصول على عائد.
التطورات التي تشهدها الساحة النفطية العالمية تفرض على الدول الباحثة عن استثمارات مثل السودان النظر في خيارات أخرى، كأن تعتمد على أسلوب التواصل المباشر مع بعض الشركات المحددة وكيفية جذبها للاستثمار. وللسودان تجربة مقاربة في مربع عدارييل (3و7) الذي تم ترسيته للكونسورتيوم العامل إثر مفاوضات مباشرة ولم يطرح في إعلان عام مفتوح للمنافسة. وفي تقديري ان شركة مثل “ستات أويل” النرويجية يمكن أن تمثل أحد أفضل الخيارات لمثل هذا الاتصال المباشر. فالنرويج ظلت منغمسة في الشأن السوداني وهي عضو في الترويكا مع أمريكا وبريطانيا مع ملاحظة انه ليس لديها ماض استعماري ولا طموحات دولة كبرى وظلت مهتمة بقضايا النفط السوداني ولها علاقات تحتاج الى تطوير خاصة وجامعتها في بيرجن تضم واحدة من أكبر مجموعات الوثائق والادبيات السودانية بعد جامعة درم البريطانية.
الخيار الآخر الذي يمكن النظر اليه بجدية انه ازاء انكفاء شركات النفط الكبرى على قضاياها الداخلية واكتفاءها ربما بما توفر لها من احتياطيات وعلاقات موجودة حاليا، فان شركات أخرى متوسطة الحجم يطلق عليها صفة المستقلة تسعى الى ملء الفراغ الذي تركته تلك الشركات الكبرى مثل “تللو Tullow” أو أباشي وغيرها، بل وهناك شركة حديثة تدعى Africa Energy Transition (AFENTRA) تم تأسيسها خصيصا لهذا الغرض أن تعمل في أفريقيا في المشاريع التي لن تباشرها الشركات الكبرى.
يبقى من المهم في الختام أن تلتفت الوزارة الى تنظيم قطاع النفط بما يسمح بقدر من المؤسسية وتوزيع للمهام يسهم في زيادة الفعالية خاصة والصناعة النفطية قامت وتوسعت حسب الحاجة وفي ظروف حصار وانقسام وطني لم يسمح بوضع خطة عامة ليتطور القطاع على هديها.
والحاجة الى هذا التنظيم برزت منذ عدة سنوات ووصلت الى مرحلة اجراء العديد من الدراسات وتنفيذ بعض الخطوات، لكنها تحتاج الى نظرة حديثة تستصحب الواقع السياسي والاقتصادي الجديد الذي يتشكل في السودان وفي أطار جوانب ثلاثة رئيسية لزيادة فاعلية الاداء في هذا القطاع: جانب وضع السياسات والتشريعات والموافقة على منح الامتيازات للشركات الاجنبية والرقابة الذي يمكن أن تختص به الوزارة، ثم الجانب العملياتي خاصة ما يتعلق بالإمدادات وتلبية احتياجات السوق المحلي وما يتبع ذلك من خطوط أنابيب ومخازن وهي مهام المؤسسة العامة للنفط، ثم سودابت، التي تمثل شركة النفط الوطنية التي تنشط في مجالات الاستكشاف والانتاج وتمثيل البلاد في شراكات مع الشركات الاجنبية، وكل ذلك بهدف تعزيز الاداء العام في القطاع والعمل من خلال بنية مؤسسية ينبغي أن تكون أحد أهداف الحكومة عموما ولتكون لبنة في عملية التغيير المأمولة في البلاد.