الدولة المدنية طريقاً للوحدة الوطنية
بقلم : محمد عتيق
هل لأحد من المواطنين أن يستعلي على زميله الآخر في الوطن ؟ ، لنترك ألإنسانية والانسان في كل مكان جانباً ، ولنبق في بلادنا فقط : كلنا في وطننا هذا ، السودان ، سواسية لا فضل لأحد على الآخر بسبب عرقه أو جنسه (ذكر أم أنثى) أو لونه أو دينه أو نسبه ، سواسية أمام القانون وفي التنافس في الوظائف العامة ..الخ .. الخ .. أما العنصرية الموجودة هنا أو هناك ، (والتمييز بهذا القدر أو ذاك) ، فإن علاجها ومعالجتها في القانون وفي التعليم : القانون يجرمها ويحدد المواد الواصفة لها بعقوباتها ، هذا حالاً ، أما العلاج المستقبلي فإنه يكمن في التعليم الذي ينتج اجيالاً مبرأةً من مثل هذه النظرة وغيرها من جوانب التخلف في حياتنا وسلوكنا ومفاهيمنا ، والتربية التي تغرز عميقاً في النفوس ازدراء العنصرية والتمييز بين الناس ثم في منهج الدولة ونظامها ..
ولكن ؛ كيف لنا ذلك ؟
قيم المساواة ومحاربة العنصرية والتمييز هي القواسم المشتركة بين الأديان السماوية والوضعية الكبرى طوال التاريخ البشري ، والتي هدفت جميعها لتحرير ألإنسان من القهر والاستعباد والخوف ، ولإطلاق الطاقات والأعنة أمام الإبداع والخلق والابتكار ..
وبغض النظر عن التسمية (علمانية ، ليبرالية ، حريات .. إلى آخره) فإن المواريث والتقاليد القيمية في كل مجتمع تسقط نفسها وتفرضها على الواقع ، بمعنى أننا في السودان مثلاً ننشأ على قيم النزاهة والتكافل والمساواة والعفة والصدق …الخ ، وهي التعاليم الجوهرية لمختلف الأديان ، والدعوة لفصل الدين عن الدولة لا يمكن أن تلغي تلك القيم التي تطبع حياتنا في المعاملات والرؤى والمواقف ، ولا تحول دون الدعوة لهذا الدين أو ذاك ، ولا بين الناس وتنشئة أبنائهم على قيم الدين المعين ، ولا هي تعني إغلاق الخلاوي أو إلغاء مادة الدين من المناهج المدرسية ، هي ، أي دعوة فصل الدين عن الدولة ، تعني ببساطة ، توحيد الشعب حول الدولة ؛ بالمساواة أمام القانون – صيانة حقوق الانسان وكفالة الحريات العامة – التنافس على أساس الكفاءة في كل شيء ، فهي عناصر الوحدة والتوحيد .. عدم انحياز الدولة لدين من الأديان مدعاة لتعميق روح الوحدة الوطنية بين الناس .. فإذا لم يكن الدين عنصر توحيد فإن القبيلة كذلك عنصر تفريق وكذلك اللون والجهة والجنس … إلى آخر أسس التمييز ..
وحدة المواطنين هي الأساس لوحدة الوطن ، ولا تكون إلا على الدولة التي تساوي بينهم أمام قوانينها وتتيح لهم أن يتنافسوا على وظائفها بفرص متساوية وتطلق لهم حرية التعبير والإرادة والاختيار الديمقراطي لممثليهم في البرلمان وكل مراتب الحكم عبر صناديق الاقتراع ..
هذه المعاني لمبدأ فصل الدين عن الدولة بارزة في موقف الشعب السوداني من النظام الساقط وشعاراته الاسلاموية ، ومتضمنة في شعارات ثورته العملاقة في ديسمبر ٢٠١٨ (حرية سلام وعدالة)، إذ لا عدالة في تمييز دين للدولة على دين آخر مهما كانت غالبية أتباعه ، ونفس الشيء بالنسبة للقبيلة وللجهة واللون ولا لكون المرء أنثى أو ذكر ، وبغياب العدالة يغيب السلام إذ يتجه البعض لحمل السلاح فتندلع الحروب الأهلية ، كما أن غياب العدالة تعني مصادرة الحريات .. كان مبدأ فصل الدين عن الدولة في قلب أسباب وأهداف الثورة السودانية في ديسمبر ٢٠١٨ ، وهو أساس جذريتها ومددها المقبل في التقدم والارتقاء ..
وعلى هذا فإن إتفاق حمدوك والحلو (سبتمبر ٢٠٢٠ بأديس ابابا) ، أو اتفاق البرهان والحلو (مارس ٢٠٢١ بجوبا) لا يعدوان أن يكونا تفسيراً أو القاءاً للضوء على ذلك المبدأ وتلك الأهداف ..
كذلك مواقف فقهاء السلطان النابحة على منابر بعض المساجد هي تتويج لمواقفهم عشية تفاقم التظاهرات عندما تصايحوا على نفس المنابر تشكيكاً في الثورة وسلميتها وعلى موائد السلطان يفتون بقتل ثلث الشعب أو نصفه !! دون أن يكترثوا لأن الثورة قد وفرت لهم حريةً حرموا منها الشعب في عهد سلطانهم ، وذلك فرق ..
ورغم التشوهات والملابسات التي تكتنف الفترة الانتقالية فإن أغلب أهل السودان يلتفون حولها وحول حكومتها بالدعم والتأييد ، وهم في ذلك أقسام وفئات : منهم من يؤيدها في كل شيء ، ومنهم من يؤيدها إلا في البرنامج الاقتصادي ومنهجها فيه فهو ضدها ، ومن يؤيدها ولكنه يعارض سياسة التطبيع مع “إسرائيل” … إلى آخر درجات التأييد الشعبي .. غير أن المهم في كل ذلك هو أن نتوحد (فيما بيننا) – منطلقين من مبدأ فصل الدين عن الدولة والاحتفاظ بها (ألدولة) محايدةً بين الهويات والثقافات المختلفة – وابتكار برنامج تفضيلي في التنمية للمناطق الأكثر تخلفاً ، وللارتقاء بجماهيرها ، يرتكز على تطوير وسائل الإنتاج وتحديثها وتزويد تلك المناطق بالخدمات الصحية والتعليمية بأحدث المستويات الممكنة والمتوفرة ، مشروعاً عملياً للوحدة واستكمال الاندماج الوطني ..
المدنية تكمن في مبدأ فصل الدين عن الدولة وهي الديمقراطية وطريق الوحدة الوطنية.