العدالة أوّلاً وأخيراً : الحرية لنا ولسوانا… ولن يصح، إلّا الصحيح !
فيصل الباقر
جرس أوّل:
“إنّ حبّى الحقيقى الذى يروينى هى الشعلة التى تحترق داخل الملايين من بائسى العالم المحرومين …شُعلة البحث عن الحرية والحق والعدالة” ((آرنست تشى جيفارا)
-1-
أعلم أنّ هذه الكتابة ستُغضب “الكثيرين”، وستُفرح “القليلين”، ولكن، تُرى هل مهمة الكتابة هى (الترفيه) و(التسلية)، وهل هدفها السعى لاسعاد البعض واغضاب البعض الآخرفقط؟ أم أنّ مسئولية الكاتب/ة التعبيرعن القناعات وعن ما يجيش بالنفس؟ وهذا حديث يطول عن ما الهدف من الكتابة؟.
-2-
ولأنّ جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوين فى الكرامة والحقوق، وقد وُهبوا العقل والوجدان، لنبدأ – معاً – نقرأ : تنص المادة 19 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان على التالى : “لكل شخص الحق فى التمتُّع بحرية الرأى والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته فى اعتناق الآراء دون مضايقة، وفى اِلتماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأيّة وسيلة ودونما اِعتبار للحدود”، وبهذا، فإنّ شرح وتفسير هذا النص المُحكم، يُفيد أنّ المادة 19 من العهد الدولى لحقوق الإنسان، تكفل للأشخاص/ للأفراد الحق فى اعتناق الآراء (بدون مُضايقة، ودون أيِّ تدخُّل)، فيما يشمل الحق فى حرية التعبير حريته فى اِلتماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دون اعتبار للحدود الجغرافية، سواء عبر شكل مكتوب أو مطبوع أو فى قالب فنّى أو بأيِّ وسيلة أُخرى يختارها.
-3-
ومن هنا يرى كاتب هذا المقال – أنّ اعتقال أيِّ شخص بسبب آرائه العلنية، وحرمانه من الدعوة لأفكاره وآرائه عبر الوسائل المختلفة – (السلمية حتماً) – يشكّل مسّاً صريحاً وجسيماً بحرية الرأى والتعبير، وانتهاكاً شائناً وغير مقبول وفقاً للمواثيق والاتفاقيات الدولية – والإقليمية – ذات العلاقة، وانتهاكاً فظّاً، لنصوص وروح الوثيقة الدستورية السودانية، لعام 2019، التى يجب أن تُحترم ويحتكِم لها الجميع.
-4-
أمّا جرائم القذف وإشانة السمعة، وبث ونشر خطاب الكراهية، فهناك فى القانون الجنائى، ما يُعاقب مرتكبيها، حماية لسمعة الأفراد من الإشانة، وحقّهم فى الانصاف، وعلى الجميع الاحتكام للقانون، عبر اللجوء للقضاء الطبيعى، فهو كفيل بوضع الأمور فى نصابها، وترسيخ مبدأ سلامة وأمن المجتمع.
-5-
أمّا النقد الذى يوجّهه الأشخاص لأداء المسئولين الحكوميين، وكل من يخرج للعمل العام، فهو – بلا شك – مكفول للجميع، ولا يحتاج لأيِّ تغطية، تحت ما يُسمّى بجريمة “تقويض النظام الدستورى”، فهذه الجريمة بالذات، لها تعريف محدّد ودقيق، وشروط محددة وبائنة، لا يمكن أن تكتمل بدونها، ولا تحتمل التأويل، ولا التخمين، وقد عرف شعبنا العظيم، كيف كان نظام الانقاذ المُباد، يحاول استخدام هذه المادة الفضفاضة و”حمّالة الأوجه” فى قمع خصومه السياسيين، وهذا ما يجب أن لا تقع فيه سلطة يُفترض فيها أنّها جاءت من رحم ثورة أهم شعاراتها الحرية والعدالة.
– 6-
عطفاً على ما سبق، نستطيع أن نقول : لا يستطيع أحد – لا من السابقين، ولا الحاليين، ولا اللاحقين – أن يُزايد علينا فى موقفنا من الدفاع عن حريّة التعبير والصحافة، واحترام الكرامة الإنسانية، والوقوف ضد التعذيب، ونعتقد أننا ظللنا نقوم – مع غيرنا – بواجبنا المهنى والأخلاقى بصورة مؤسسية وفردية، بقدر استطاعتنا وما نملكه من طاقة ومعرفة وخبرات، فرفعنا الصوت – عالياً – مع زميلاتنا وزملائنا فى حركة المدافعين عن حقوق الإنسان، وحرية الصحافة والتعبير، ضد انتهاكات حقوق الإنسان فى وطننا السودان، فى الزمن الصعب، بل، الأصعب، ويشهد على ذلك خصومنا الفكريين والسياسيين الأبعدين، قبل أصدقائنا وأهلنا الأقربين، والمهم والأهم – ومن قبل ومن بعد – أُسر وعائلات وذوى الضحايا والناجين والناجيات من التعذيب، ولمن أراد/ت التأكُّد من زعمنا هذا، فكتابنا مفتوح، وما كتبناه طيلة سنوات الإنقاذ – بل، وقبلها، وبعدها – مُتاح فى أرشيف الصُحف، ومجلس الصحافة والمطبوعات الصحفية، ودار الوثائق، وكذلك، فى الصحافة المطبوعة، والصحافة والمواقع الإليكترونية، بعد انتشار ثورة الانترنيت، ولذلك لن نخجل، ولن نتردّد فى الصدح بما نراه حق، وواجب مهنى وأخلاقى، ولو عادت بنا الأيّام لبيوت الأشباح، وفُتحت من جديد مكاتب ومقرّات وزنازين جهاز الأمن، للاستدعاء والاعتقال – القصيروالطويل – والتحذير والوعيد والتهديد، والترغيب والترهيب، وحتّى التهديد بالتصفية الجسدية، والقتل خارج القانون، وحملات إشانة السمعة، فقد عرفنا، ورأينا، من قبل كل هذا، وذاك، و”ليس من رأى كمن سمع”، ولم يزدنا كل ذلك – وقتها، وبعدها – سوى الاصرار على مواصلة السير فى طريق الدفاع عن حقوق الإنسان، بما فى ذلك الحق فى التعبير والتنظيم، وحرية التفكير والضمير، والحق فى المحاكمة العادلة لكل إنسان، وهذا درس من دروس التاريخ البعيد والقريب، يا أولى الألباب!.
-7-
على المستوى الشخصى، وبدون أىّ إدّعاء، أستطيع، وبكل يقين واطمئنان، وبلا كلل ولا ملل، أن أُواصل مناصرتى للحق فى التعبير والصحافة، وأن أُعيد ما ظللت أكتبه واستشهد به “الحرية لنا ولسوانا” وهى المقولة التاريخية الخالدة التى قالها شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه، وأستطيع بصورة أكثر دقّة – فى هذا المقام والمقال – أن أُطالب بإطلاق سراح معتقلى الفكر والمعتقلين السياسيين، أو تقديمهم لمحاكمات عادلة، تتوفّر فيها شروط المحاكمة العادلة المعروفة، وقبل ذلك المطالبة بحقهم فى توفير الظروف التى تحترم الكرامة الإنسانية فى الاحتجاز القانونى – فى فترة التحقيق – وفق المعايير الدولية المعروفة، وأن لا تتطاول فترات الاحتجاز، بغير حق، مهما كانت الأسباب والمبررات، فواجب النيابة العامّة، الالتزام بالمعايير المعروفة، فى التحقيق، وأستطيع بصورة أكثر دقّة أن أُطالب بإطلاق سراح الصحفيين، سواء كان المعتقل هو حسين خوجلى، مالك مجموعة المساء(صحيفة ألوان وقناة أم درمان الفضائية وإذاعة المساء)، أو غيره من الصحفيين والكُتّاب الصحفيين، بل، والناس أجمعين، إذ المطلوب بكل بساطة ، توجيه اتهام جنائى واضح وصريح، ضد المعتقل، وكذلك المطالبة بالإسراع بتقديمه للقضاء، ليحكم – القضاء الطبيعى – له أو عليه، وفى البال، إنّ أغلب ما يكتبه الطيب مصطفى، واسحاق أحمد فضل الله يُشكّل خطاب كراهية، (بصورة واضحة ومفضوحة)، ويمكن تجريم تلك الكتابات، وتقديم أصحابها للقضاء، إن وجدت فيه السلطة الجديدة، أو حتّى أىّ مواطن مُتضرّر، خطاب كراهية، وفق التعريف المعروف عن خطاب الكراهية وخطاب إثارة العنصرية، أمّا كتاباتهم الأُخرى، فيكفى أنّها لم تنفع الانقاذ فى الاستمرار.
-8-
وبالنسبة لزميل المهنة الصحفى حسين خوجلى، ولطالما هو – الآن- فى وضعٍ لا يسمح له بالرد على مقالى هذا، لكونه معتقلاً، أجد من العيب تحرير نقاط الاتفاق والاختلاف بيننا، وبينه والثورة، فى هذا المقال، وعليه، فإنّ الواجب الأخلاقى، يُحتّم علىّ ويلزمنى – فى هذه المرحلة – بالإكتفاء بالمطالبة بحقّه فى المحاكمة العادلة، والدفاع عن حقّه فى العلاج والاحتجاز الذى يحفظ الكرامة الإنسانية، وفى البال السؤال المشروع، هل استطاعت كتابات حسين خوجلى الصحفية، وبرامجه التلفزيونية، أن تحمى الإنقاذ من غضبة الشعب؟! وهل استطاعت أن تمنع اسقاط النظام القديم؟!.. إن كانت الإجابة (لا) إذن، لماذ الخوف والهلع من ما يكتبونه فى عهد الثورة ؟!.
-9-
وقبل أن أدفع بهذا المقال للنشر، جاء فى الأنباء، خبر اطلاق سراح حسين خوجلى يوم 17 مارس 2021، بواسطة “السلطات المختصة” بعد نحو أربعين يوماً قضى بعضها حبيساً على ذمة التحقيق، وبعضها فى المستشفى، بعد أن توالت الأخبار عن تدهور حالته الصحية، حيث ألقت نيابة مكافحة الثراء الحرام والمشبوه، القبض على حسين فى ذات يومٍ فى فبراير المنصرم، بدعوى إجراء تحرّى معه على خلفية تعاملات مالية، تتعلّق بوجود أموال طائلة فى حساباته البنكية، وتمّ تدوين بلاغ فى مواجهته تحت المادة (6) من قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه، و”يُقال” أنّ النيابة وجّهت له ولأخرين اتهاماً تحت مواد أُخرى من القانون الجنائى !. وعطفاً على هذا وذاك، سأعود فى مقالٍ آخر للكتابة عن (لجنة تفكيك نظام الإنقاذ)، وفى مقاربة أُخرى، عن شكوى وبلاغ رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان، ضد الشاعر الشاب يوسف عوض الكريم الدوش، بسبب كتابته قصيدة جاء فيها: ” نفس الزول الكاتل ولدك … شال لى روحو الفاتحة ، وقلدك … حاكم بلدك رمز سيادة… شال من إيد الكوز السوط والسلطة وجلدك” …..إلخ.
-10-
إن كان لثورة دسمبر 2018، هذه الثورة العظيمة، من حسنةٍ واحدة، فهى إتاحة و إشاعة وإعلاء قيمة الحرية للجميع، حرية التعبيروالصحافة، بدون تمييز، وقد بدأنا نقرأ – بفضل المناخ الجديد الذى وفّرته الثورة – لكُتّاب وكاتبات – ومن بينهم زملاء وزميلات – لم نعرف لهم، من قبل، وطيلة سنوات الانقاذ مواقف علنية ضد قمع الحريّات، واضطهاد الخصوم السياسيين، ولم نقرأ لهم كتابة بلغة وأحرفٍ واضحة لا لبس فيها، فى الدفاع عن الحق فى التعبير والصحافة، ولا رفض التعذيب، وكان جّلّهم – إن لم نقل كُلّهم – كمن ” فى فمه/ا ماء”!. وهذا ممّا يُسعد بطبيعة الحال، ونامل أن يكونوا قد وعوا الدرس من هذه الثورة العظيم، وما أريد أن أقوله بإختصار، “نحن طُلّاب عدالة، ولسنا ناشطى ثأر”، و”فش غبينة”، وأجد نفسى متصالحاً تماماً مع المثل التركى القائل :” حينما يدخل الثأر من الباب، تخرج العدالة من المدخنة”. وهذا ما يجب أن ينتبه له الجميع، وبخّاصة الثوّار والثائرات، مهما كانت المغريات والمحفّزات، للانتقام والثأر من الأعداء، لأنّ العدل نور، والظلم ظلمات، وقديماً قيل “السلطة مفسدة، والسلطة المُطلقة، مفسدة مطلقة” !.. فانتبهوا يا أولى الألباب !.
جرس أخير:
“قضيتنا نحن المثقفين هى الحرية والعقل والعدالة…من دون هذه المفاهيم نفقد دورنا ونتحوّل إلى شهود زورعلى زمننا” ((نصر حامد أبو زيد))