Friday , 19 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

المحبوب عبد السلام ونهاية الإسلام السياسي

بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

في مقالٍ سابقٍ لي بعنوان “الترابي يستغفر الله ولا يعتذر للشعب السوداني” أشدتُ بشجاعة الأستاذ المحبوب عبد السلام في مطالبته للمرحوم الترابي بالإعتذار العلني عن إنقلاب الإنقاذ وذلك في رسالته التي بعثها له وقال فيها (الأعراف السياسية المعاصرة تؤكد أنَّ من إقترف خطأً كبيراً فى السياسة ويعترفُ به يعمد رأساً الى الاعتذار والاعتزال).

وأعودُ اليوم لأكرِّر الإشادة بالأستاذ المحبوب في أعقاب الآراء الجريئة التي صدع بها الأسبوع الماضي وقال فيها إنَّ ( الإسلام السياسي إستنفذ أغراضه وانتهى ) وأنَّ (حركة الأخوان المسلمين المصرية وهى أم الحركات الإسلامية تحولت إلى طائفة )، وذلك في إطار تعقيبه على ورقةٍ تناولت التحولات الأخيرة في خطاب حركة النهضة التونسية بزعامة راشد الغنوشي.

من أكثر المشاكل التي ترتبط بالمثقفين الملتزمين سياسياً هى اللجوء للمداراة والإلتفاف حول الفشل الذي يصادف تطبيق المبادىء وإنزالها على أرض الواقع، فمنهم من يلجأ للحجة الساذجة والمعروفة التي تقول أن الفشل ليس في الأفكار ولكن في التطبيق، ومنهم من يُعزي ذلك الفشل لعوامل خارجية و مؤامرات “برَّانية”، ولكن القليلون منهم يُصوبون فكرهم نحو الخلل الأساسي و البنيوي “الداخلي” الذي أدَّى للفشل.

وفي حال نموذج الإسلام السياسي، فإنَّ هناك العديد من المشاكل التي إرتبطت به من حيث التماهي والإشتباك العضوي مع “الدين”، ذلك لأنَّ الأخير بطبيعته معنىٌ بالحقائق “المطلقة” بينما السياسة في أصلها “نسبية”، وهذا التناقض يقود بدوره إلى خلق أعظم الأدواء في ممارسات وخطاب وتوجهات معتنقيه، وفي مقدمتها الإقصاء والإنغلاق وغياب الديمقراطية، وهذه بلا شك تؤدي لفشل كل التجارب التطبيقية لذلك النموذج.

كذلك فإنَّ التداخل العضوي مع الدين، والذي كما ذكرنا أنه يوفر الإجابات الكاملة لجميع الأسئلة، يعفي أصحاب ذلك التوجه من السعي لإستحداث البرامج و الحلول التفصيلية للقضايا المرتبطة بالسياسة، ولذلك فإنهم يكتفون “بالشعارات” بإعتبار أنَّ الدين يملك حلاً لجميع المشاكل، وبمُجرَّد وصولهم للسلطة يكتشفون مدى العجز والقصور في مفاهيمهم و تصوراتهم لشئون الحكم وإدارة الدولة.

أدرك الأستاذ الغنوشي هذه “العُقدة” الرئيسية والخلل البنيوي في أفكار الإسلام السياسي، بالإضافة للعديد من المشاكل الأخرى، فقرَّر فصل “الدعوي” عن “السياسي”، بمعنى أنه لم يعُد يُعوِّل على “الدولة” كأداة لإعمار النفوس بل جعل “المجتمع” هو مجال العمل للإصلاح الأخلاقي، بينما الدولة هى أداة التغيير ومجال التنافس في السياسة، وبذلك فإنَّه يتلافى الأخطاء الحتمية التي تقع فيها منظمات الإسلام السياسي وتؤدي لفشلها.

في ظنى أنّ الأستاذ المحبوب كذلك أدرك هذه المعضلة ولذلك قال أنَّ الإسلام السياسي أستنفذ أغراضه، وأضاف شيئاً في غاية الأهمية وهو أنَّ ( الخطاب المفهوم للناس الآن هو الديموقراطية كأداة لتحقيق مفاهيم الحرية والعدالة ).

لا شك أنَّ الأستاذ المحبوب قد تيقن من فشل الإسلام السياسي – بمعاييره السائدة وأدواته المشهورة – في تحقيق أكبر المقاصد الدينية “الحرية والعدالة”، وأنَّ السبيل إلى ذلك لا يكون إلا عن “الديموقراطية” التي هى ليست من ضمن تلك الأدوات فلا مناص إذن من مراجعة البنية الفكرية الأساسية التي قام عليها ذلك التيار.

في هذا الإطار يكون الهدف الغائي هو الخروج من الإطار المفهومي الضيَّق الذي ظلت تطرحهُ مدرسة الإسلام السياسي للشريعة والذي يختصرها في تطبيق الحدود وبعض الأمور الثانوية الأخرى وذلك بتبني إطار أشمل آخر يوائم بين الديموقراطية و المقاصد الكبرى للدين المتمثلة في الحُريَّة والعدالة.

لإنجاز تلك النقلة، لا بُدَّ من الفصل بين المجالين المذكورين “الديني والسياسي” كخطوة أولى، وهو ما فعلته النهضة، ومن ثم يتوجب نقد الأفكار التي نهض عليها بنيان الإسلام السياسي كما طرحها المرشد المؤسس حسن البنا، ومن بعده الأستاذ سيد قطب، وحتى الدكتور الترابي، فالأول والثاني – على سبيل المثال – لا يؤمنون بالديمقراطية من حيث المبدأ، بينما الثالث يستخدمها بطريقة ذرائعية غرضها الوصول للسلطة.

حسن البنا يرى في الديموقراطية (نظاماً تافهاً متداعياً)، وسيد قطب يؤسس لاستخدام العنف وتكفير المجتمع، بينما الترابي يُعوِّل على السلطة في إحداث التحوُّل القيمي والأخلاقي، وهنا يكمُن الخطأ، ذلك لأنَّ الدولة في الأساس أداة “إكراه”، بينما لا أكراه في الدين، وكذلك فإنَّ مشروع السلطة “السياسة” يقوم على المساومة والحلول الوسط والإختيار بين البدائل بينما الدين يقوم على الحقيقة المطلقة والحق الواحد، ولذا فإنَّ التصادم بينهما أمرٌ حتمىٌ ولا بدَّ أن يسود في النهاية منطق الدولة “القوة والإستبداد”.

إنَّ مُجرَّد ربط الدين بالسلطة يعني إهدار معناه، ذلك لأنَّ السلطة تفسد الآيديولوجيا (العقيدة) وهو إفساد – كما يقول جمال البنا – في طبيعة السلطة ولا يُمكن أن تتخلص منه، وكل نظام يحاول الإقتران بالسلطة بقصد اصلاحها وتطويعها لا بُدَّ أن يقع فريسة لها وبدلاً من أن يكون سيدها يصبحُ تابعها.

المهمة التي تقع على عاتق الأستاذ المحبوب وإخوانه هى أن يعملوا على ترسيخ المفاهيم التي تؤدي للقطع مع الإستبداد، بالمفهوم الخلدوني – كما يقول القيادي في حركة النهضة سيد الفرجاني – وأن يسعوا لخلق خطاب ديموقراطي بديل مقصده ترسيخ الحرية كمبدأ حاكم، وإعمال العقل في الطرح السياسي، وهذا كما ذكرت لا يتأتى إلا بالتخلي عن ثوابت خطاب الإسلام السياسي.

وكما قلتُ في مناسبة سابقة فإنه لا يخفى على الأستاذ المحبوب أنَّ “طائفية الجماعة” التي تحدث عنها هى نتاج الفكر الإستعلائي الذي غرسهُ البنا ورعاهُ من بعده سيد قطب، وهو فكرٌ يُطابقُ بين الجماعة والإسلام، ويُثبِّتُ في عقول “الأعضاء/الجنود” أنهُّم الجماعة المختارة، تأمَّل كلمات المرشد المؤسس وهو يخاطبهم :
( نحنُ ولا فخر أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وحملة رايته من بعده ورافعوا لواءه كما رفعوه وحافظوا قرآنه كما حفظوه، هذه منزلتكم فلا تصغروا في أنفسكم فتقيسوا أنفسكم بغيركم. لقد دعوتم وجاهدتم، فواصلوا جهودكم واعملوا والله معكم فمن تبعنا الآن فقد فاز بالسبق ومن تقاعد عنا من المخلصين اليوم فسيلحق بنا غدا وللسابق عليه الفضل ).

لا شك أنَّ التحولات التي أحدثتها حركة النهضة التونسية تعكسُ في جانبٍ كبيرٍ منها إختلاف التطور التاريخي والفوارق الثقافية والإجتماعية مع مجتمعات إسلامية أخرى ومنها السودان الذي أصابته هجمة تديُّن صحراوي كاسحة خلال الثلاثة عقود الأخيرة، ولكن ذلك لا يعني أن يرفض أهل الإسلام السياسي – خصوصاً المفكرين منهم – توجهات الحركة التونسية خصوصاً بعد الفشل الذي أصاب التجربة السودانية.

قد فشل أهل الإسلام السياسي في إقامة دولة “العدل الرشيدة” التي كانوا يتطلعون إليها في السودان، بل إنَّ التجربة أفرزت نقيض الغايات المنشودة في ما يلي قضايا الحُرية السياسية والعدالة ووحدة النسيج الإجتماعي إضافة للإنحرافات الهائلة في القيم الفردية المُرتبطة بالطهر والتجرُّد والزهد وحفظ الحق العام في المال والوظيفة وغير ذلك، وبالتالي فهم أجدر من غيرهم بالنظر في كيفية الخروج من مأزقهم الفكري.

جُرأة الأستاذ المحبوب في إعلان رأيه حول مستقبل تيار الإسلام السياسي يجبُ أن يصحبها جُهد فكري معمَّق يهدف لتفكيك الأفكار الأساسية التي إنطلقت منها جماعة الأخوان المسلمين بوصفها التنظيم الأكبر الذي عمل على نشر مبادىء وتوجهات وخطاب ذلك التيار، ويتطلع الناس في هذا الإطار لكتابات ناقدة لرسائل وخُطب وكتابات المُرشد المؤسس، بجانب أفكار سيد قطب ومحمد قطب والترابي وغيرهم.

Leave a Reply

Your email address will not be published.