هرولة الخرطوم نحو السعودية وأثرها على مصالح السودان
بقلم: واصل علي
[email protected]
في مارس 2012 ترأس الرئيس السوداني عمر البشير وفدا لزيارة المملكة العربية السعودية ضم وزير رئاسة الجمهورية بكري حسن صالح، وزير الخارجية علي كرتي، وزير المالية علي محمود، وزير الزراعة عبدالحليم المتعافي، وزير النفط عوض الجاز، وزير المعادن كمال عبداللطيف ومحافظ بنك السودان محمد خير الزبير.
كان واضحا من تركيبة الوفد ان الهدف الرئيسي من الزيارة ومقابلة العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز هو الحصول على مساعدات مالية لدعم الإقتصاد السوداني الذي وصفه كرتي قبلها في سبتمبر 2011 خلال زيارة للعاصمة الفرنسية باريس بأنه على شفا الإنهيار.
ويبدو أن الرياض حينها إمتنعت عن التعهد بتقديم أية مساعدات وخرج المسؤولون من الجانب السوداني في ختام الزيارة بتصريحات عامة وفضفاضة عن ترحيب الخرطوم بمبادرة الملك عبد الله التي أطلقها في يناير 2009 لتحقيق الأمن الغذائي العربي من خلال تنفيذ مشروعات زراعية في عدة دول من ضمنها السودان.
كانت هذه هي المرة الأخيرة التي يلتقى فيها البشير بالملك عبد الله حتى وفاة الأخير في يناير 2015 رغم تعدد زيارات الرئيس السوداني للملكة السعودية للعلاج أو حضور مؤتمرات إقليمية تستضيفها الرياض حتى أن وكالة الأنباء السودانية (سونا) نقلت في نوفمبر 2012 أن البشير توجه الى السعودية في زيارة وصفت بأنها “خاصة” تتضمن لقاءاً مع الملك عبدالله بن عبدالعزيز ولم تتم أية مقابلة بين الطرفين في حينها.
كان جفاء الرياض للخرطوم في تلك الفترة متعمداً كما يتضح من الرسالة التي ارسلها مستشار الرئيس السوداني مصطفى عثمان اسماعيل لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في 10 أبريل 2012 والتي نشرها موقع ويكيليكس في يونيو 2015.
إشتكى مصطفى عثمان إسماعيل في الرسالة من أنه حاول مراراً وتكراراً ترتيب لقاء له مع وزير الخارجية السعودي منذ أواخر 2011 دون جدوى وأنه والحال كذلك فقد قرر البشير القيام بزيارة الرياض بنفسه لمقابلة الملك عبد الله والتي تمت كما ذكرت آنفا في مارس 2012.
قال مستشار البشير في الرسالة أن الرئيس عاد من تلك الزيارة وهو “محبط” و “ماخد في خاطره شديد” دون إعطاء أي تفاصيل. وليس من الواضح ما الذي سبب الفتور الشديد بين البشير والملك عبد الله ولكن أحد الأعلاميين السعوديين المعروفين ذكر لي أن مصدر غضب العاهل السعودي من الرئيس السوداني أنَّ الأخير أعطى الضوء الأخضر لقيام الرياض بمبادرة لإيقاف الحرب في دارفور ثم تراجع وأعطى الدوحة هذا الملف في قمة توتر العلاقات بين السعودية وقطر. وكان الشائع وقتها أنَّ التقارب بين الخرطوم وطهران هو الذي إستفز الرياض وتسبب في توتر العلاقات.
وأياً كانت الأسباب فإنَّ الخرطوم إستمرت رغم ما حدث من عاهل السعودية الراحل تجاه البشير في محاولات التقرب للرياض فقامت رئاسة الجمهورية السودانية في يناير 2013 بإرسال طائرة اليوشن محملة بالهدايا لخادم الحرمين الملك عبد الله حسب ما ورد في برقية للسفارة السودانية نشرها أيضاً موقع ويكيليكس.
ولكن الهدية لم تنجح على ما يبدو في تلطيف الأجواء فقامت الرياض في أغسطس 2013 – في إجراء غير مسبوق – بمنع عبور طائرة البشير لأجوائها حيث كان الأخير في طريقه لحضور مراسم تنصيب الرئيس الإيراني المنتخب حسن روحاني وبررت هيئة الطيران المدني السعودي الخطوة في حينها بأنَّ الخرطوم لم تحصل على إذن مرور مسبق عبر الطرق الدبلوماسية قبل 48 ساعة من الرحلة كما جرى العرف.
رفضت الحكومة السودانية هذا التبرير وفندته ولكنها آثرت عدم تصعيد الأمر رغم الإهانة الشديدة التي حملها الإجراء تجاه رئيس الدولة وترتب عليه غيابه عن حضور حفل التنصيب. وتظهر المفارقة بين رد فعل الخرطوم على هذه الحادثة وقرارها السريع بطرد السفير الكيني في نوفمبر 2011 رداً على مذكرة توقيف أصدرها قاضي في المحكمة العليا في نيروبي بحق البشير رغم أنَّ الحكومة الكينية لم يكن لها ضلع فيما حدث.
وكان اللافت في موضوع الطائرة أنَّ الحكومة السعودية تجاهلت الأمر برمته ولم تعلق وتركته لهيئة الطيران المدني السعودي.
التحول
في أواخر 2014 إتخذت الخرطوم قراراً مفاجئاً بإغلاق عدد من المراكز الثقافية الإيرانية في البلاد وطرد الملحق الثقافي الإيراني وآخرين معه تحت ذريعة قيامهم بنشر التشيع في البلاد وتأثير ذلك على الأمن القومي السوداني. ورغم هذا التأكيد فانه كان واضحاً للعيان أنَّ القرار كان يهدف لتقديم قربان لإستعادة العلاقات مع دول الخليج وخاصة السعودية.
بوفاة الملك عبد الله وتسلم سلمان مقاليد الحكم بدأت أكبر عملية هرولة من الخرطوم تجاه الرياض وتوِّجت بقرار إنضمام السودان لتحالف عملية عاصفة الحزم التي قادتها السعودية بمشاركة عدة دول أغلبها من دول الخليج.
وكان من المؤسف أن يتخذ قرار ارسال قوات سودانية والرئيس البشير في السعودية دون أن نسمع عن مشاورته لأجهزة الدولة المختلفة بما فيها المجلس التشريعي حتى وإن لم ينص الدستور صراحة على ذلك لأن الدخول في عملية عسكرية هجومية خارج البلاد لا يمكن أن يتخذ دون دراسة مستفيضة عن الآثار المترتبة عليه من الناحية الدبلوماسية والعسكرية والإقتصادية والقانونية والأمنية خاصة لدولة مثل السودان لديها من المشاكل والحروب ما يكفيها ووضعها الدولي ليس على ما يرام.
قامت الحكومة السودانية بالتسويق لمشاركتها في عاصفة الحزم بشكل إحتفائي مبالغ فيه وكان أسوأ ما فيه هو بيان القوات المسلحة الذي تلاه ناطقها الرسمي العقيد الصوارمي خالد سعد موجهاً للمواطنين ” الثوار الأحرار” و الذي جاء مليئاً بالهتافية والشعارات ويشبه البيانات التي تصدر عن إتحادات الطلبة او الإتحاد الإشتراكي وليس عن مؤسسة عسكرية يفترض أنها محترفة ومنضبطة تنحصر مهمتها فقط في تنفيذ أوامر القيادة السياسية.
والغريب أنَّ بيان القوات المسلحة تحدث عن أنَّ التدخل أملته ضرورة “حماية أرض الحرمين الشريفين ، وحماية الدين والعقيدة” وأنَّ الشعب السوداني ” لن يبقي مكتوف الأيدي ، والخطر يحدق بقبلة المسلمين ، مهبط الوحي والرسالة الخاتمة” رغم ان الأراضي السعودية لم تكن ابداً مهددة كما يوحي البيان ولم تكن قوات الحوثيين على أعتاب الرياض أو الحرمين الشريفين.
وأعلن الصوارمي في بيانه أنَّ القوات المسلحة السودانية بدأت “التحرك تجاه مواقع العمليات” وهو أمر كرره أيضاً وزير الدفاع الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين في نفس اليوم عندما قال أنَّ الجيش السوداني “بدأ الحركة الميكانيكية لمواقع العمليات إلى جانب القوات السعودية” رغم أنَّ إرسال القوات لم يبدأ الا بعد هذا البيان بستة شهور كاملة.
واختتم البيان الحماسي بآية من سورة آل عمران “وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم” وثلاثة تكبيرات وكأن الجيش السوداني في طريقة لتحرير اراضيه المحتلة.
وأجد من المفيد هنا أن اقارن بين بيان الجيش السوداني والبيان المشترك لدول مجلس التعاون الخليجي المشاركة في عاصفة الحزم – وهم أهل الشأن – حيث ركز البيان الأخير على أن التدخل كان بالأساس إستجابة لطلب رسمي من الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي “لحماية اليمن وشعبه من عدوان المليشيات الحوثية المدعومة من قوى إقليمية هدفها بسط هيمنتها على اليمن وجعلها قاعدة لنفوذها في المنطقة” وأيضا “مساعدة اليمن في مواجهة التنظيمات الإرهابية”.
ولم يختلف موقف الدبلوماسية السودانية عن موقف القوات المسلحة اذ قال وزير الخارجية السوداني علي كرتي أنَّ الخرطوم إتخذت القرار “مشاركة في الدفاع عن أمن السعودية” وأضاف إليه أمن السودان وأمن المنطقة إيضاً ولم يشر لطلب الرئيس اليمني الذي إستنجد بدول الخليج لدحر الحوثيين الذين سيطروا على العاصمة صنعاء وأطاحوا بحكومته.
وأعلن المتحدث بإسم وزارة الخارجية السودانية في مارس 2015 أنَّ وتيرة التنسبق بين الخرطوم والرياض بشان عاصفة الحزم ستزيد خلال الفترة المقبلة وأنَّ قيادات سعودية رفيعة المستوى ستصل البلاد إلى جانب قيادات من بلدان التحالف.
كان موقف السودان من عاصفة الحزم متقدماً بمراحل على دول أخرى حليفة للسعودية وتتمتع بقوة عسكرية ضاربة وقوات أحدث تسليحاً وتدريباً.
من بين هذه الدول باكستان التي أحال رئيس وزراءها نواز شريف موضوع مشاركة بلاده في العملية للبرلمان – الذي رفضه بالاجماع – رغم أنَّ الدستور يعطيه صلاحية إتخاذ هذا القرار دون الرجوع للسلطة التشريعية. وكان من الواضح أنَّ هذه الخطوة من نواز شريف تعكس عدم حماسه للإنخراط في هذه الحرب وسعيه لإيجاد مبرر معقول أمام ضغط الرياض التي أكدت سابقاً على مشاركة إسلام أباد في عاصفة الحزم.
ويجب أن يدرك القارئ أنَّ رئيس الوزراء الباكستاني يدين بالفضل للسعودية التي توسطت لدى الجنرال برويز مشرف للسماح له بالخروج من البلاد بعد الحكم عليه بالسجن المؤبد واستضافته منذ عام 2000 وضخت المليارات في إقتصاد بلاده عندما تولى الحكم في 2013.
ولكن هذا الجميل لم يكن ليدفع نواز شريف لاتخاذ قرار ضد مصلحة بلاده – التي فيها نسبة كبيرة من الشيعة – وضد الرأي العام الذي لايرى آي ضرورة للتورُّط في حرب خارج الحدود خاصة وأنَّ ليس هناك تهديد جدي لحليفته السعودية.
الدولة الثانية هي مصر التي إستفادت من سخاء السعودية المالي ومن دعمها السياسي اللامحدود لحكم المشير عبد الفتاح السيسي منذ أن قام بالإطاحة بالرئيس محمد مرسي في 2013. ورغم ذلك رفض السيسي إرسال قوات برية للحرب في اليمن لأسباب بعضها سياسي وبعضها تاريخي وبعضها عسكري واكتفى بارسال مقاتلات حربية والمشاركة في تأمين باب المندب عن طريق القوات البحرية.
كان الشارع السوداني كما الحكومة يتوقع أن تقدِّر الرياض موقف الخرطوم وأن تغدق عليها بالأموال حتى تنتشل الإقتصاد من عثرته وتفك عزلتها الدولية عن طريق نفوذ السعودية لدى الغرب.
وبدا الحديث في الأسابيع والشهور التي تلت مشاركة السودان في عاصفة الحزم عن مليارات بدأت تتدفق من السعودية في صور ودائع لدى البنك المركزي وأنَّ استثمارات مليارية في الطريق أيضاً. وكان الملفت للاهتمام أنَّ هذه الأخبار كان مصدرها دائماً هو الجانب السوداني وليس السعودي.
ويبدو أنَّ هذه الأخبار أثارت حفيظة السفير السعودي في الخرطوم فيصل بن حامد معلا الذي نفي في لقاء رتبه مع رؤساء تحرير الصحف في أبريل 2015 أن تكون المملكة قدمت أي دعم نقدي للسودان وأبدى ضيقه من تصوير وسائل الإعلام للأمر وكأنه صفقة وانتظار لقبض الثمن وليس موقفاً مبدئياً.
وانشغلت الخرطوم بعد خفوت قضية تدفق الأموال من الرياض بزيارة الملك سلمان المرتقبة للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس البشير لفترة رئاسية جديدة حسبما أعلنت اللجنة العليا المسؤولة عن الحفل في مايو 2015. وكانت ستكون الاولى لزعيم سعودي منذ السبعينات.
وكانت الصدمة لدى كثير من السودانيين أنَّ السعودية إكتفت بإرسال مستشار الملك وهو الأمير منصور بن متعب بن عبدالعزيز مما حدا برئيس مجلس إدارة صحيفة المجهر السياسي الأستاذ الهندي عز الدين – وهو بالقطع ليس محسوباً على المعارضة – لأن يصف في عموده بتاريخ 3 يونيو 2015 مشاركة دول الخليج بأنها “أدنى من مواقف البشير القوية .. النبيلة والمحترمة تجاه هذه الدول خلال الآونة الأخيرة”.
كتب الهندي أنَّ “البشير الذي قاطع إيران حليف السودان الإستراتيجي بجرة قلم وفي ساعة واحدة، وكان أول رئيس دولة يعلن على الملأ مشاركة جيش بلاده في (عاصفة الحزم)، كان يستحق مشاركة (ولي العهد) من كل دولة كحد أدنى للتمثيل في مراسم تنصيبه…..الدعم (المعنوي) للحلفاء أهم من الدعم (المادي) في أكثر الأحيان، وإن كنا لم نلمس لا دعماً مادياً يذكر، ولا سنداً معنوياً يرى !!ّ “.
ومن الطبيعي أن يثير مستوى المشاركة المنخفض الغضب خاصة والبشير قد قام ب 8 زيارات للمملكة العربية السعودية منذ يناير 2015 اي بمعدل زيارة كل 3 شهور تقريبا وذهب للقاء الملك سلمان في يوليو الماضي في مقر إقامته في مدينة طنجة المغربية. هذا بخلاف المكالمات الهاتفية وزيارات مدير مكتب الرئيس البشير الفريق طه عثمان الحسين.
في المقابل كان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير هو أرفع مسؤول سعودي يزور الخرطوم منذ التقارب في العلاقات بين البلدين ولم تستمر الزيارة أكثر من بضع ساعات.
والطريف أنَّ الصحف السودانية سقطت في فخ مماثل في يوليو الماضي عندما نشرت خبراً مفاده أنَّ ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان سيصل الخرطوم ليتضح أنَّ الأمر هو زيارة من مدير مكتب الرئيس البشير للرياض.
ويتضح لنا من جدول زيارات الملك سلمان ونجله الأمير محمد أنَّ أولويات السياسة الخارجية السعودية لا تشمل السودان بأي حال من الأحوال رغم إنضواءه تحت راية المحور السعودي وكونه البلد الوحيد خارج مجلس التعاون الخليجي الذي أرسل قوات برية للقتال في اليمن.
فقد قام الملك سلمان بزيارة أربع دول منذ توليه الحكم هي مصر وتركيا و المغرب والولايات المتحدة الأمريكية. أما ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان فقد قام يزيارة روسيا، فرنسا، مصر، باكستان، الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، اليابان، الأمارات العربية المتحدة، الأردن، المغرب، الكويت، قطر و بلجيكا .
ورغم تلك الحقائق التي توضح أنَّ العلاقات السعودية – السودانية أصبحت أشبه بعلاقة حب من طرف واحد، لم تغير حكومة الخرطوم من نهجها بل إنغمست أكثر في سياسة موالاة الرياض. وأكثر من ذلك فقد باتت رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية السودانية في حالة ترقب دائم لأي أحداث لها علاقة بالسعودية للمسارعة بإصدار بيان تضامني. وفيما يلي قائمة البيانات الصادرة من السودان ذات الصلة بالسعودية :
سبتمبر 2016: بيان رئاسة الجمهورية عن تشريع الكونجرس الأمريكي (قانون العدالة ضد رعاة الأرهاب)
سبتمبر 2016: بيان وزارة الخارجية عن تصريحات المرشد الإيراني ضد السعودية
اغسطس 2016: بيان رئاسة الجمهورية عن إعتداءات قوات الحوثيين على الحدود السعودية
مايو 2016: بيان وزارة الخارجية للتضامن مع السعودية ورفض تسييس إيران لفريضة الحج
يناير 2016: بيان وزارة الخارجية عن حرق السفارة السعودية وقطع العلاقات مع ايران
اغسطس 2016: بيان الخارجية السودانية لإدانة للتفجير في مسجد أبها
أما بيانات مجلس الوزراء السعودي في نفس الفترة فقد خلت من أي اشارة الى قضايا السودان مثل تجديد العقوبات الأمريكية او العمليات العسكرية للجيش السوداني ضد المتمردين واكتفت باستعراض المباحثات مع الرئيس البشير التي تمت من خلال الزيارات او المكالمات الهاتفية أو مذكرات التفاهم التي وقعت. بل أنَّ بيان مجلس الوزراء السعودي في ابريل 2015 أشاد بإعلان المحكمة الجنائية الدولية بشكل رسمي إنضمام دولة فلسطين عضواً كاملاً فيها دون النظر لموقف الخرطوم من محكمة لاهاي ووضع البشير كشخص مطلوب منها.
قام السودان في يناير 2016 بقطع العلاقات مع ايران عند قيام مجموعة من الإيرانيين بالهجوم على مقر سفارة الرياض في طهران ولم يتبنى خطوة مماثلة غير البحرين و جزر القمر وجيبوتي والصومال وجمهورية المالديف بالإضافة الى حكومة عبدربه منصور هادي في اليمن أما دول الخليج الأخرى أو الحليفة للرياض فاكتفت إما بتخفيض التمثيل الدبلوماسي أو الإدانة الكلامية.
سارع مدير مكتب الرئيس البشير بإبلاغ ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالقرار قبل أن يصدر بيان رسمي بذلك من الخارجية مما يؤكد أنَّ الخطوة تمت دون أي دراسة وبرغبة شخصية من رئيس الجمهورية بهدف إرضاء السعودية.
وكنت قد ذكرت في مقال سابق ان قطع العلاقات في العرف الدبلوماسي هو اخر خطوة تتخذها الدولة عندما تفشل جميع الوسائل الأخرى مثل الأحتجاج ثم سحب السفراء ثم تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي وعندما تكون مصلحة البلاد العليا تتطلب ذلك.
فكيف بالسودان وهو لا ناقة له ولا جمل في قضية حرق السفارة السعودية يهرع لقطع العلاقات مع ايران مجاملة للرياض بعد اعوام طويلة من علاقات قوية مع طهران ودون مراعاة لتغييرات اقليمية بدأت تتشكل في منطقة الشرق الأوسط خاصة بعد الأتفاق النووي بين الدول الكبرى وطهران. الم يكن من الحصافة الأكتفاء باجراء دبلوماسي اقل حدة يرضي الرياض وفي نفس الوقت يراعي مصالح السودان المستقبلية؟
رد الجميل
قام الملك سلمان في أبريل الماضي بزيارة وصفت بأنها “تاريخية” لمصر تم التوقيع فيها على عشرات الإتفاقيات جلها تتعلق بالجانب الإقتصادي تناهز قيمتها ال 16 مليار دولار مما بدد التكهنات بفتور العلاقات بسبب عزوف القاهرة عن ارسال قوات لليمن وبسبب الموقف من الأزمة في سوريا.
وفي نفس الزيارة قام الملك سلمان بتوقيع إتفاق لترسيم الحدود البحرية يضع منطقة حلايب المتنازع عليها ضمن حدود مصر دون أي إعتبار لمطالبة السودان بها ولم تقم الرياض حتى بإخطار الخرطوم بتفاصيل الإتفاق المزمع ولو من باب رد الجميل للمواقف الداعمة للرياض.
ومن المثير للسخرية أنَّ الرئيس البشير صرح العام الماضي أنه يأمل أن تساعده السعودية بلعب دور لحل النزاع حول مثلث حلايبب.
ولم تكتفي الرياض بذلك بل أنَّ وزير خارجيتها عادل الجبير صرح في لقاء جمعه مع صحفيين مصريين على هامش الزيارة للقاهرة أنَّ الرياض “ستساعد مصر فى ترسيم حدودها الجنوبية بما يحفظ حقوقها فى حلايب وشلاتين”.
وجاء السفير السعودي في القاهرة أحمد القطان ليعمق جراح الخرطوم بتصريحه في لقاء تلفزيوني أنَّ حلايب وشلاتين هي “أراضي مصرية” تحت إدارة سودانية. وجاء وزير الخارجية السوداني ابراهيم غندور ليصرح ان الجبير قال له في اتصال هاتفي أنَّ هذا الموقف لا يمثل الرياض دون أن يصدر شيء رسمي عن الحكومة السعودية بهذا الخصوص.
لم تقم الحكومة السودانية بأي إجراء رداً على الإتفاقية السعودية – المصرية يشبه مواقفها الحازمة والقوية التي إتخذتها للتضامن مع الرياض ضد طهران واكتفت الخارجية السودانية باصدار بيان خجول يقول أنها سوف “تتابع بدقة” التفاصيل المتعلقة بالإتفاقية واعادت تكرار الاكليشيهات حول تجديد شكوى مجلس الأمن وفي الوقت نفسه رفضت إستدعاء السفير المصري أو السعودي أو ايداع تحفظ لدى الأمين العام للأمم المتحدة او دعوة مجلس الأمن للانعقاد لينتهي الموضوع عند هذا الحد.
بل إنَّ غندور هنأ نظيره السعودي على إتفاق ترسيم الحدود البحرية وكأنه لايمس أراضٍ سودانية في تصرف يوضح بجلاء فشل الدبلوماسية السودانية في التعاطي مع قضايا حساسة ومعقدة من هذا النوع.
خطأ الحسابات
كان تحول السودان نحو محور دول الخليج وابتعاده عن ايران قراراً صائباً بكل المقاييس بالنظر الى مصالحه ولكن الأمر تحوَّل الى ما يشبه الإرتماء في الحضن السعودي دون حساب على أمل أن ينتفع السودان، وقد أغفل هذا التحول أمرين :
1- أنَّ إنخفاض اسعار النفط جعل الإقتصاد السعودي في وضع صعب دفعها الى استخدام احتياطيها النقدي والإستدانة من أسواق المال لسد العجز المتزايد في الميزانية والإيفاء يالتزاماتها المتشعبة التي تشمل حرب اليمن مما يحتم عليها أن تحدد أولوياتها الخارجية وهي حتماً لا تشمل السودان.
2- أنَّ أهمية السعودية لدى الغرب والولايات المتحدة تحديداً بدأت تتراجع ولم تعد واشنطن تولي الرياض الأهمية والمعاملة الخاصة التي كانت توليها في السابق مما يعني أنَّ على السعودية الآن بذل الجهد لترميم علاقتها مع أمريكا وبالتالي ليس لديها متسع للتوسط لصالح السودان. واحيل القاريء لمقابلة الرئيس اوباما مع مجلة The Atlantic بتاريخ مارس 10 2016 ليفهم بالضبط ابعاد و طبيعة التغيير في نظرة امريكا لدول الخليج الذي يرتبط ارتباط وثيق بانخفاض وارداتها من النفط لادنى مستوياتها منذ عام 1970 كنتيجة لطفرة الإنتاج النفطي في الولايات المتحدة.
آن الأوان أن تقوم الحكومة السودانية بإعادة تقييم شاملة لعلاقاتها مع السعودية مع الأخذ في الحسبان أنَّ السياسة تجاه الرياض بشكلها الحالي فيها تقليل من قيمة البلاد خاصة مع تكرار زيارات الرئيس البشير للسعودية وتوشك أن تصبح مدخلاً للتراخي في قضايا سيادية تتعلق بتراب الوطن. ويجب أن تدرك الخرطوم أيضاً أنَّ المصالح السعودية لا تتقاطع دوماً مع مصالح السودان وأنَّ الأخير لم ولن يمثل أهمية استراتيجية للرياض تدفعها لضخ أموال مقدَّرة في الإقتصاد السوداني الذي إنهارت عملته الى مستويات غير مسبوقة في الوقت الذي قدمت فيه الرياض مليارات لمساعدة دول اخرى لم تقدم ربع ما قدمته الخرطوم للرياض من دعم سياسي وعسكري.