فيزياء اللحوم الحلال
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
تعيشُ المُجتمعات الإسلامية حالة من التخلف الحضاري مستمرة منذ عدة قرون، وتتجلى تلك الحالة في الهوَّة الواسعة التي تفصل بين الهموم والأفكار السائدة في تلك المجتمعات وبين ما يعيشه العالم من تطور معرفي وكشوف علمية وتقدم تقني غير مسبوق.
أحد أسباب إستمرار حالة التخلف الحضاري يتمثل في إهتمام تلك المجتمعات بالقشور والهوامش في أمور الفكر وترك وإهمال الأولويات الضرورية لإحداث النهضة، فالفكر في هذه المجتمعات يغوصُ في أمور لا طائل منها والمناقشات تنحصر في قضايا هامشية تغطي على القضايا الأساسية والحيوية والضرورية.
ويتطلبُ الخروج من حالة التخلف والسعي للحاق بركب العصر بذل جهود كبيرة و جبَّارة على أصعدة الثقافة والإجتماع والسياسة من أجل تطوير الفكر والعلوم والمعرفة وأدواتها المطلوبة لإحداث النهضة وكسر حالة الجمود والتخلف الحضاري.
وقد تستعصي بعض المُجتمعات والدول على الإنتقال من حالة التخلف، ليس بسبب نقص الثروات المادية أو الموارد البشرية، ولكن بسبب الإنغلاق وعدم تحديد الأولويات والإصرار على التمسُّك والتركيز على القضايا الشكلية مع إهمال المطلوبات الجوهرية لعملية الإنتقال.
ومن أمثلة عدم تحديد الأولويات الخبر الذي أوردته وكالة السودان للأنباء هذا الأسبوع عن منتدى بعنوان ” كيف تميز بين اللحوم المذكاة من غيرها بطريقة فيزيائية سهلة” إستضاف فيه “مركز التنوير المعرفي” الدكتور عبدالله بلال آدم استاذ الفيزياء بجامعة حائل بالسعودية و “الباحث في خصائص اللحوم الحلال”.
قال الدكتور آدم بحسب الخبر أنه ( ثبت بالتجارب لمعرفة اللحوم الحلال عن طريق ماء البحر أو الماء العادية بأن اللحوم الحلال اذا وضعت في الماء ترسب الى أسفل أما اللحوم المحرمة فتطفو في الماء علي السطح ، إضافة الي أن اللحوم الحلال تلصق(تتماسك)على الجمر(الشية) أما اللحوم الحرام كالخنزير فلا تلصق علي الجمر، وأشار الي أهمية تسخير البحر لمعرفة اللحوم الحلال من الحرام ).
بالطبع أنا لستُ مؤهلاً لمناقشة مدى صدق الأحكام العلمية التي أصدرها هذا الدكتور الكريم، ولكن بالطبع قد يكون لعلماء الفيزياء رأىٌ في خلاصات تجاربه التي تحدث عنها، وهو أمرٌ سأجتهد في الحصول على إجابات عليه، ولكنني بحكم التجربة والمعايشة أستطيع القول أنّ قضية اللحوم الحلال هذه صارت مجالاً للخداع والغش والتكسب من قبل “المسلمين” أصحاب أماكن بيعها في الدول الغربية.
كذلك فإنَّ هناك العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا الإطار من بينها : هل باتت مشكلة التمييز بين اللحوم الحلال والحرام تمثل أولوية في العالم الإسلامي لدرجة أن يتخصص علماء الفيزياء للبحث فيها ؟ وهل نجح العلماء المسلمون في التصدي للمشاكل العلمية التي تستجيب لأسئلة وأشراط النهضة حتى يتفرغوا للبحث في أمور التفريق الفيزيائي بين اللحوم الحلال والحرام ؟
الإجابة على السؤال الأول تتمثل في أن عدد المسلمين الذي يعيشون في المجتمعات غير المسلمة قليل جداً بالمقارنة مع أولئك الذين يعيشون في مجتمعات المسلمين التي تعاني من المرض و الفقر والجهل وجميع أدواء التخلف العلمي والمعرفي والحضاري والذين يحتاجون لعلماء يعالجون مشاكلهم “الوجودية” التى تجعلهم يموتون في أعمار صغيرة بالملايين لإفتقارهم لأبسط مقومات الحياة من مأكل ومشرب ومسكن.
هل يعلم هذا الأستاذ الجامعي الكريم أنَّ الناس في بلد مثل السودان يتمتع بأكبر ثروة حيوانية في القارة الأفريقية يضطرون لأكل لحوم الخراف الميتة والدجاج النافق في أطراف العاصمة بسبب الفقر الشديد وليس بسبب رفاهية عدم القدرة على التمييز بين حلالها وحرامها ؟
وهل يعلم أنَّ معظم الناس في بلاد النيلين والأنهار الكثيرة لا يجدون سبيلاً للحصول على المياه النظيفة الصالحة للشرب ؟ وأنَّ مئات الآلاف بل ملايين الأطفال يعانون من سوء التغذية الحاد ؟ فلماذا يوجه أبحاثه لقضايا هامشية لا تهم غالبية الناس ؟
الشرائع السماوية نزلت في الأصل لخدمة الإنسان و لهدايته و تحقيق وحفظ مصالحه المعتبرة على هذه الأرض، ولم يُخلق الإنسان من أجل خدمة “الشرائع السماوية”، فالانسان خلق أولاً، ثم جاء الدين ليُرشدهُ ويهديه إن أراد وإلا فعليه أن يتقبل مصيره يوم القيامة.
إنَّ غالبية مجتمعات المسلمين في إفريقيا وآسيا تُعاني من المشاكل الوجودية الأساسية، وهى مشاكل تقع في صميم الحالة الحضارية المتخلفة، وبالتالي فإنَّ الأولويات يجب أن تتَّجه للنظر في هذه المشاكل وتوجيه كل الموارد المادية والبشرية، ومن بينها مراكز الأبحاث والجامعات، من أجل التوصل للحلول والخروج من ظلمات التخلف إلى أنوار النهضة.
في هذا الإطار كنت قد كتبتُ قبل عدَّة أشهر مقالاً يُناقشُ إعلاناَ صدر عن “مُجمع الفقه الإسلامي الدولي” التابع لمنظمة التعاون الإسلامي عن تنظيم ندوة عالمية للإجابة عن أسئلة شرعية منها ما يتعلق بأكل لحوم البرمائيات، والطبخ بالخمر وما يضاف إلى الطعام من أحجار كريمة ومعادن ثمينه كالذهب والفضة كجزء من الغذاء !
قلت أنني أُصبت بدهشةٍ كبيرة عند مطالعة هذا الإعلان، ولم يكن مصدر دهشتي هو الإهتمام “بالرأي الشرعي” في هذه الأنواع من الأطعمة، بل هو مساحة “الإهتمام” التي تحتلها مثل هذه الموضوعات في ترتيب أولويات “العقل” في العالم الإسلامي مُقارنة بما تهتم به بقية الدول والمُجتمعات في العالم.
وأضفت أنني لا أنفي أهمية “الرأي الشرعي” في مثل هذه القضايا ولكن السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه في هذا الإطار هو : هل تمثل هذه القضايا ولو نسبة ضئيلة جداً من هموم ومشاكل وتطلعات الشعوب الإسلامية حتى توجه منظمة كبرى مثل منظمة التعاون الإسلامي مواردها لعقد ندوة دولية بهذا الخصوص ؟
وأين هى الشعوب الإسلامية التي تأكل طعاماً مضافاً إليه أحجاراً كريمة ومعادن ثمينة كالذهب والفضة ؟ وأين هى الشعوب التي تأكل لحم الحيتان وتستخدم الخمر في الطبخ ؟
علم الفيزياء يمثل عصب العلوم المعاصرة وهو أكثرها إرتباطاً بالتكنولوجيا المتقدمة إذ أنَّ تطبيقاته المتعددة هى التي أدَّت إلى إحداث النقلات الكبرى في الحضارة المعاصرة، فعلى أساسها أضيف إلى حياتنا العديد من الإكتشافات والإختراعات الهامة مثل المصباح الكهربائي والتلغراف والراديو والهاتف والسيارة والطائرة والتلفاز والترانزيستور والكمبيوتر والصواريخ والأقمار الصناعية وغيرها من الاكتشافات والاختراعات التي ساهمت في التقدم الاجتماعي والحضاري للبشرية وأمنت رفاهية الإنسان المعاصر.
ومن هذا المنطلق فإنه يصبح من الضروري على علماء الفيزياء – وغيرها من العلوم الأخرى – في المجتمعات الإسلامية أن يوجهوا جهودهم و أبحاثهم العلمية في أمور ذات أهمية قصوى تستفيد منها بالدرجة الاولى مُجتمعاتهم المنكوبة والمتخلفة، وذلك بدلاً من الإنصراف إلى بذل الموارد والجهود في إكتشافات هامشية من شاكلة أنَّ (اللحوم الحلال تلصق(تتماسك)على الجمر(الشيَّة) أما اللحوم الحرام كالخنزير فلا تلصق علي الجمر) !