Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

لزوم ما لا يلزم.. فضلاً لا تقرأ هذا المقال !!

بقلم: خالد التيجاني النور

“لن يتم تجاوز أية أزمة مستخدماً نمط التفكير ذاته الذي تسبب في خلق الأزمة” بتصرف من عبارة شهيرة لألبرت إنشتاين.

اعترف أنني تفاديت حتى آخر لحظة الكتابة في موضوع هذا المقال تحديداً، هروباً من التكرار الممل، حول ما بات يُعرف في الأدبيات العامة بـ “الارتفاع الجنوني في سعر الدولار”، وما هو كذلك بل في الواقع حالة تدهور مريع غير مسبوقة لقيمة العملة الوطنية “الجنيه” التي لا تعني في حد ذاتها شيئاً سوى أنها إحدى معايير مؤشرات قياس أداء الاقتصاد الكلي، أو ما تُسمي بالعناصر المتغيرة، التي تكشف مدى تداعي حالة الاقتصاد السوداني، والحقيقة أن تردي حالة الاقتصاد هي الأخرى ليست قائمة بذاتها بل نتيجة مباشرة تعكس حجم الخلل الخطير في الإطار السياسي الحاكم، أولوياته وسياساته وحساباته، في إدارة الدولة السودانية، وما الحالة الاقتصادية الراهنة المعلومة إلا نتاج حصاده.

تبدأ قمة المفارقة حين عقدت صحيفة “إيلاف” في العام 2006 ندوة كان المتحدث الرئيسي فيها الدكتور صابر محمد حسن، محافظ بنك السودان المركزي حينها، وذلك في عنفوان فورة عصر النفط السوداني القصير العمر، فقد كان الدكتور صابر في تلك الندوة يدافع بشدة عن سياسته الرافضة لتعزيز قيمة الجنيه السودانية في مواجهة العملات الحرة بعدما أصبحت للبنك المركزي احتياطات معتبرة منها، وكان من المفترض أن يقود ذلك إلى تراجع قيمة العملات الأجنبية أمام الجنيه، وكان قرار المركزي هو ألا يدع قيمه الدولار تقلّ عن جنيهين، لتحسين فرص الصادرات السودانية ضمن اعتبارات أخرى.

ولكن لأن الناس عهدوا سياسات اقتصادية قصيرة النظر، في غياب تام لأي بعد استراتيجي، ما أن مرّ عامان على تلك القصة حتى بدأت المتاعب تطل برأسها مع تباشير الأزمة المالية العالمية التي بدأت تضرب أسواق الولايات المتحدة، قبل أن تضرب بقية أنحاء العالم في أواخر العام 2008، وكان لافتاً إنكار الفريق الاقتصادي للحكومة أن تكون البلاد عرضة للتأثر بذلك الزلزال، متناسين أن الاقتصاد الأمريكي إذا أصابه زكام تداعى له سائر الاقتصادات العالمية بالسهر والحمى، وما أن حلّ العام 2010 حتى بدأت حقبة الاستقرار الاقتصادي قصيرة العمر في السودان تبدأ فصول التراجع المستمر حتى اليوم.

وظللنا نحذر منذ بواكير الأزمة المالية من تبعاتها، ثم تبعات تقسيم السودان وانفصال الجنوب المحتوم وذهابه بموارد النفط، ولم يكن هناك أحد في كابينة القيادة من متخذي القرار على استعداد للاستماع لأي قول ناصح يحذر من عواقب وخيمة ستطال اقتصاد البلاد إن بقيت بلا حلول جريئة ناجعة، وتفنّن المسؤولون في إنكار أية تبعات محتملة على أوضاع البلاد الاقتصادية، حتى ظلت الأزمات تكبر ككرة الثلج المتحدرجة حتى أضحت على ما هي عليه اليوم.

ولذلك فإن اللوم لا يقع كله على وزير المالية الحالي، وإن كان يتحمل قسطاً من المسؤولية بحكم أنه كان ضمن الفريق الاقتصادي للسلطة الحاكمة، صحيح أن العبء الأكثر من التدهور الاقتصادي حدث في عهده وتفاقم على نحو غير مسبوق، بغض النظر عن محاولاته إنكار ذلك أو تجميل الواقع المرير عبثاً، لكن ما يحدث اليوم نتيجة طبيعية لتراكم تلك الأخطاء والخطايا الكارثية التي تكاثرت حتى لم يعد بالإمكان تداركها بالعقليات والفريق نفسه الذي قاد إلى هذا الوضع المأزقي.

عندما أصدرت الحكومة سلسلة إجراءات في الربع الأخير من العام 2010 في أول محاولة للتصدي متأخراً جداً لبواكير الأزمة الاقتصادية في عصر ما بعد النفط الذي تراجعت أسعاره بشدة، قبل أن يفقد السودان المورد نفسه بسبب انفصال الجنوب، كتبت في هذه الزاوية مقالاً بتاريخ 22 سبتمبر 2010 بعنوان “الأسوأ قادم.. أزمة النقد الأجنبي مجرد رأس جبل الجليد”، اقتطف منه بعض الفقرات للإشارة إلى التحذيرات المبكرة التي ظللنا نبذلها منذ أكثر من ست سنوات خشية أن يصل الحال إلى ما وصلنا إليه اليوم.

“لو كنت صاحب القرار لأمرت المسؤولين الذين طفقوا يحاولون عبثاً تبرير الإجراءات الحكومية الأخيرة، التي أصابت حياة المواطنين المطحونين أصلاً، بالكف فوراً عن الإدلاء بتصريحاتهم التي فضلاً عن استفزازها واستهانتها بالعقول، فإن تضارب المبررات التي ساقها كل واحد يغالط بعضها بعضاً، وتغالط الواقع أيضاً، كشفت عن أمرين مهمين أولهما أن هذه القرارات لم تصدر عن رؤية موحدة لإنقاذ الوضع الاقتصادي المتداعي، ولا عن بصيرة مستقبلية ولا بعد نظر لمآلاتها، بل مجرد إجراءات تحت وطأة الخشية من حدوث انهيار اقتصادي بأعجل مما هو متوقع، وبدلاً من أن تعالج جذور الأزمة بسبب سوء الإدارة السياسية والاقتصادية التي قادت إلى هذا المصير المحتوم فقد لجأت الحكومة كالعادة إلى الحل الاسهل تحميل المواطن كلفة تبعات هذا الفشل وهي تستند في ذلك أن المواطنين المغلوبين على أمرهم لن يثوروا ضد هذه الإجراءات بسبب ضعف المعارضة السياسية، وإن ثاروا فإن استعراض القوة التي الذي عمدت إليه الحكومة قبل الإعلان عنها بدعوى تأمين الاستفتاء، وهو أمر لا معنى له بعد أن سلمت الحكومة حتى قبل قيام الاستفتاء بانفصال الجنوب، كافياً لقمع أية محاولة للخروج للشارع.

والأمر الثاني الذي كشفته عن هذه التصريحات المتضاربة ان جوهر الأزمة سياسياً لا اقتصادياً، فقد فشلت محاولة تصوير هذه الإجراءات باعتبارها تأتي من باب برنامج إصلاح اقتصادي مستمر، في حين أنه يصعب حتى وصفها بأنها إجراءات اقتصادية، ففي خضم التبريرات المتزاحمة لهذه القرارات المثيرة في مضمونها وفي توقيتها سقطت من أحد المسؤولين عبارة كشفت عن حقيقة كون الأزمة سياسية حين حاول التبرير بأن تخفيض مرتبات الدستورية تعادل كلفة إعفاء نحو عشرين بالمائة منهم وهو خيار لم يستطيعوا اللجوء إليه لاعتبارات سياسية، والمعنى واضح أن الحزب الحاكم يستطيع أن يجرؤ على مضايقة المواطنين في لقمة عيشهم ولكنه لا يستطيع المخاطرة على معالجة الخلل الخطير الذي أحدثه الترهل الحكومي وضغطه على الإنفاق العام بسبب التوسع غير المسبوق في كسب الولاء السياسي عن طريق توزيع هذا العدد الكبير من الوظائف الدستورية مركزياً وولائياً في سابقة لا نظير لها عالمياً حتى في أعتى الأمبراطوريات وأغنى الدول.

تلك هي إذن هي علة الاقتصاد السوداني اليوم أنه يدار وفق اعتبارات ومصالح سياسية ضيقة، وليس وفق رؤية وطنية مبصرة وحسابات اقتصادية سليمة لا تحتاج إلى عبقرية لإدراكها، ولذلك تتعثر محاولات النهوض الاقتصادي، ولذلك بلغ العجز مبلغه بوزارة المالية والاقتصاد الوطني على مر السنوات الماضية فلا هي قادرة على القيام بواجبها في ولايتها على المال العام، ولا هي تملك المبادرة في إدارة الاقتصاد الوطني، فكلاهما أصبح خارج سيطرتها ولذلك تحديداً انتشرت الفوضى والفساد اللذان ينبه إليهما تقرير المراجع العام كل عام, ولا يجد إلا رجع صدى صوته، لأن البرلمان المناط به محاسبة ومراقبة الجهاز التنفيذي يؤكد كل يوم أنه لا ضرورة البتة لوجوده ما دام مستعداً دائماً ليبصم بالعشرة على كل ما تفعله الحكومة”. كان ذلك قبل ستة أعوام بالتمام.

وفي مقال بعنوان ” فتش عن الأيدي الخفية” في الأزمة “غير الاقتصادية”، الذي نشر في هذه الزاوية في 6 يونيو العام 2012، مما جاء فيه: ومشكلة الاقتصاد السوداني، كما هي كل مشاكل البلاد العويصة الاخرى التي اختلقت اختلاقاً وأدت إلى تمزيق البلاد وشرذمتها وإغراقها في أزمات لم تكن محتومة ولا قدراً مقدوراً، ذلك أن الحكومة السودانية أصبحت تدار في عهد الحكم الحالي من خارج مؤسسات الدولة، نعم توجد كل المؤسسات السياسية والدستورية والتنفيذية المعروفة بالاسم، ولكنها ليست سوى ظل باهت لأطراف شبحية خفية تدير شؤون الحكم من وراء ستار دون أن تخضع لمحاسبة أو مساءلة أو حتى مراجعة لما تفعل، وبقيت المؤسسات الرسمية مجرد هياكل لتمرير قرارات “الأيدي الخفية” التي لا يعرف لها أحد صرفاً ولا عدلاً.

ظلت وزارة المالية والاقتصاد الوطني، كما يشير اسمها الرسمي، وتقول صلاحياتها إنها صاحبة الولاية على المال العام، والمرجعية في إدارة الاقتصاد الوطني، لا تملك ولاية ولا تحكم شيئاً وليس لها سوى رسمها شكلاً، إذ تحولت إلى مجرد صندوق خزانة لصرف جل الأموال العامة التي تفلح في الوصول إليها على مصارف ذات إتجاه واحد، فالمال العام تفرق دمه بين الوزارات ذات الشوكة، وبين المؤسسات والشركات الحكومية وشبه الحكومية، و”الخاصحكومية”. تشكو وزارة المالية لطوب الأرض ضيق ذات اليد وهي المأمومنة على مال عام لا تعرف حتى كم يبلغ، بينما ترفل في النعيم وزارات ومؤسسات حكومية أخرى تجبي الاموال كما تشاء دون ضابط ولا رابط، ولا أحد يعرف أين تصرف تلك الأموال.

ولم تعد الوزارة تذكر حتى أنها مسؤولة عن إدارة الاقتصاد الوطني، الذي تحول بقدرة الأيدي الخفية إلى اقتصاد خواص على الطريقة الفريدمانية، اغتنى الأفراد وظهرت طبقة الأثرياء الجدد، ولتولد ظاهرة الموظفين الأكثر ثراءً من رجال الأعمال، بينما تشكو الحكومة الإفلاس ويعاني الشعب من الإملاق. وجاءت عشرات المليارات من الدولارات من أموال النفط وذهبت لا يدري أحد إلى أين ذهبت. وكل المشروعات التنموية الكبرى التي تسنى لها أن ترى النور لم تكن من خير الأموال النفطية، وليست سوى أعباء على المواطن والأجيال القادمة لأنها شيدت بقروض جديدة قفزت بحجم الديون السودانية إلى ما يفوق الخمسة وأربعين مليار دولار.

وما الأزمة الحالية إلا نتاج طبيعي لإفساد نظام إدارة الدولة، ولتجاوز المعايير والتقاليد المركوزة في شأن إدارة الحكم، وما الفساد المؤسسي المستفحل والمحمي سوى مجرد عرض للمرض الأخطر، افتقار الدولة للنظم المرعية المحققة للشفافية والمساءلة والمحاسبة، ولذلك تحولت تعهدات قيادات الحكم بمحاربة الفساد إلى مجرد تصريحات غير قابلة للتطبيق في نظام بطبيعته لا يتحمل إصلاحا حقيقيا دون أن يؤدي بأسس بنائه وبقائه، لأنه من يحاسب من، وعلى ماذا، في ظل استحالة الوصول إلى مكامن الفساد الحقيقية.

ليس صحيحاً أن وزارة المالية أو البنك المركزي، أو الفريق الاقتصادي للحزب الحاكم لا يعرف ما هي البدائل الحقيقية لمعالجة الأوضاع الاقتصادية المأزقية الحالية، يدركون بالطبع ما المطلوب ومن بينهم اقتصاديون مرموقون يعرفون أن البدائل الاقتصادية أكثر من أن تحصى، ولكن من قال إن الأزمة هي اقتصادية بالأساس، ومتى كان يدار الاقتصاد أصلاً بمعايير واعتبارات اقتصادية؟، ومنذ متى كانوا هم من يديرون الاقتصاد حقاً؟. هي بالقطع ليست كذلك، بل هي في جوهرها أزمة سياسية بامتياز، وأزمة حكم أرهقته مطاردة الأزمات تجلت في إفلاس خزائن الدولة من أموال قادرة على مقابلة احتياجات غول “النظام خارج النظام” الذي لا يشبع، ولذلك يحاول أن يجعل الشعب المرهق أصلاً من يدفع من جيوبه الخاوية لملء خزائنها.

عبثاً يرهق أنفسهم أؤلئك الذين يظنون أن الحكومة تنقصها البدائل لمعالجة الأوضاع الآخذة في التدهور بشدة، فيجتهدون في تقديم المقترحات والحلول بلا طائل، يعرف قادة الحكم جيداً ما هو المطلوب لحل الأزمة، ولكن من يجرؤ على الدخول في عش الدبابير، ومن يستطيع تعليق الجرس على رقبة القطط السمان في طبقة الأثرياء الجدد ؟، ببساطة، من يستطيع أن يأخذ السلطة من الأيدي الخفية ويعيد الحكم والقرار إلى الشعب، وإلى دولاب الدولة ؟.

عن صحيفة إيلاف 24 يوليو 2016

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *