Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

حركة النهضة : وداعاً للإسلام السياسي

بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

إستضافني مركز الدراسات السودانية قبل أربعة أعوام للحديث في ندوة عن مستقبل الحركات الإسلامية بعد ثورات الربيع العربي وقلت في حديثي أنَّ الفرصة متاحة أمام هذه الحركات أكثر من أي وقت مضى لتطوير خطابها بما يتماشى مع أهم مفهومين يتطلع إليهما الشارع : الديموقراطية والوطنية, وأوضحتُ أنَّ “حركة النهضة التونسية” تبدو الوحيدة بين جميع حركات الإسلام السياسي المؤهلة للسير في ذلك الطريق.

بنيتُ قراءتي تلك على حقيقة أنَّ حركة النهضة تتمتع “بخصوصية” لا يُمكن تعميمها على الحركات الشبيهة في المنطقة العربية والإسلامية, وهى خصوصية نابعة من تأثر الحركة و سعيها للإستجابة لضغط معطيات الواقع الفكري والسياسي التونسي الذي يتميز على العديد من المجتمعات الأخرى.

فمن الناحية الفكرية طغى على ذلك الواقع تراث “التنوير الديني” الذي أفرزه “جامع الزيتونة” على يد علماء مستنيرين كبار من أمثال الطاهر الحدَّاد و الطاهر بن عاشور وغيرهم, كما ساد مجتمع سياسي و مدني قوي تأثر كثيراً بقيم “الحداثة الغربية”.

وهذا على العكس من القطيعة التي أحدثها “حسن البنا” في مصر مع إرث “الإصلاح الديني” الذي قاده الإمام محمد عبده وعلماء ومصلحين آخرين مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي و الشيخ حسن العطار و قاسم أمين وعلى عبد الرازق وغيرهم.

كذلك إستندتُ في تحليلي ذاك على “التكوين الفكري” لقيادة النهضة ممثلة في الأستاذ راشد الغنوشي الذي بدأ حياته السياسية “يسارياً” مُعجباً بأفكار الرئيس الألباني “أنور خوجة” ثم إعتنق أبَّان دراسته في سوريا الفكر “القومي” المؤيد لجمال عبد الناصر قبل أن ينحاز لفكر الأخوان المسلمين. هذه التحولات حرَّرت الرجل من آفة “الإنغلاق والجمود” التي وسمت فكر الأخوان وقياداتهم وجعلته منفتحاً على تيارات فكرية مختلفة.

ليس هذا فحسب, بل أنَّ تجربة المنفى التي قاربت العشر سنوات في بريطانيا منحت الغنوشي فرصة نادرة لمعايشة الثقافة الغربية و المجتمعات الديموقراطية بما تمتاز به من حرية و تنوع وقبول للآخر المختلف.

إنعكست هذه الإختلافات في “السلوك السياسي” لحركة النهضة في أعقاب الثورة حيث أنها لم تسع مثل جماعة الأخوان المسلمين في مصر “للإستئثار” الكامل بالحكم كما أنها وافقت على التخلي عن السلطة في مطلع 2014 لحكومة غير حزبية بهدف إخراج البلاد من أزمة سياسية حادة وأخيراً دخلت في تحالف مع حزب “نداء تونس” الذي نشأ خصيصاً لوقف مد الإسلاميين وخلق توازن سياسي مع النهضة.

كذلك قبل أن يُجيز البرلمان التونسي الدستور الجديد، دافع الشيخ راشد الغنوشي عن موقف حزبه الرافض لتضمين مادة في الدستور تنصُّ على أن “الشريعة الاسلامية” هي المصدر الرئيسي للقوانين والتشريعات في تونس.
وقال الغنوشي إنَّ ( التمسك بمبدأ إعتماد الشريعة في الدستور كان سيُقسِّم التونسيين إلى صف مع الإسلام وصف ثان مع الشريعة )، واعتبر أنَّ ( المفاهيم غير الواضحة لدى التونسيين حول الشريعة هي التي أدخلت الكثير منهم في جدل عقيم )، وأكد أنَّ ( الدولة التونسية، دولة إسلامية وكل تشريعاتها تستلهم مفاهيم الإسلام ومقاصد الشريعة ). كما جزم بأنَّ ( تونس لم تكن أبداً دولة علمانية بل هي دولة إسلامية).

وفي النهاية أجازت تونس دستورها بموافقة “حركة النهضة” دون أن ينص على أنَّ الشريعة هى مصدر القوانين والتشريعات, وكذلك يعلم الكل أنَّ “الحدود الشرعية” غير مطبقة في تونس اليوم كما كانت غير مُطبقة منذ الإستقلال ومع ذلك لم يعترض الشيخ الغنوشي أو حركته ولم يصدروا فتاوى تكفر الدولة والمجتمع كما يفعل إخوانهم من بقية جماعات الإسلام السياسي في الدول الأخرى.

غير أنَّ التطوُّر الأهم في توجه حركة النهضة الجديد تمثل في التمسك بمبدأ “الوطنية” ورفض “الأممية الإسلامية” التي شكلت مرتكزاً أساسياً من المرتكزات التي ينطلق منها خطاب الإسلام السياسي حيث نصت “لائحة المشروع السياسي الاستراتيجي” التي أجازها مؤتمر الحركة العاشر مطلع هذا الأسبوع على أنَّ ذلك المشروع :
( يتأطر في السياق الوطني العام الذي تشهده البلاد في مرحلة ما بعد الثورة، ويستهدف فهم ومعالجة التحديات الوطنية الكبرى، ويقدم قراءات وإجابات وطنية مسؤولة، بقطع النظر عن الموقع المستقبلي للحركة، في المشهد السياسي).

لم تتحدث اللائحة عن إرتباط المشروع السياسي للحركة بمشاكل المسلمين في العالم أو بالتطلع للعب دور في توحيد “الأمة الإسلامية” ولم تُشر لأية إنتماء خارج الإطار الوطني التونسي, وهو ما يشكل نقلة نوعية كبرى في خطاب الحركة وتعارضاً جذرياً مع الأسس الفكرية التي نادى بها المرشد المؤسس حسن البنا.

أمَّا التغيير الأكثر جذرية في فكر وتوجهات الحركة فقد تبدى في التصريحات المدوية التي أطلقها الغنوشي عشية إنطلاق المؤتمر العاشر للحركة حيث قال في حوار مع مجلة لوموند الفرنسية يوم الخميس 19 مايو أن الحركة سوف “تخرج من الإسلام السياسي” وأضاف أنَّ المؤتمر سيؤسس ل “فصل الدعوي عن السياسي” وتحوَّل الحركة إلى “حزب مدني”.

وتابع: ( نتحدث عن أن الحزب السياسي لا مصلحة له في أن يفرض وصايته على المجال الديني، والمجال الديني لا مصلحة له في أن يظل مرتبطا بالسياسة لأن للسياسة تقلباتها. نحن لا نريد وصاية لمجال على مجال أخر، وإنما نريد مجالات مستقلة تنظيمياً، ومستقلة في خططها وفي الشخصيات التي تديرها).

وأضاف ( نريد أن يكون النشاط الديني مستقلاً تماماً عن النشاط السياسي, هذا أمر جيد للسياسيين لأنهم لن يكونوا مستقبلاً متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية. وهو جيدٌ أيضاً للدين حتى لا يكون رهين السياسة وموظفاً من قبل السياسيين ).

وفي ختام جلسات المؤتمر العاشر للحركة صادق المؤتمرون على الخيار الإستراتيجي و “لائحة فصل الدعوي عن السياسي” وهو الأمر الذي يُشكل – في ظن كاتب هذه السطور – نقلة فكرية هائلة في مسار حركات الإسلام السياسي الحديثة.

وفي إطار تبريره للخطوة قال الغنوشي إنَّ ( التخصص الوظيفي بين السياسي وبقية المجالات المجتمعية, ليس قراراً مسقطاً أو رضوخاً لإكراهاتٍ ظرفية، بل تتويجٌ لمسارٍ تاريخي تمايز فيها عملياً السياسي عن المجتمعي والثقافي والدعوي في حركتنا ).

وأضاف ( إننا حريصون على النأي بالدِّين عن المعارك السياسية ، وندعو الى التحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة والتوظيف الحزبي لتكون مجمعة لا مفرقة ).

أمَّا القيادي في حركة النهضة “لطفي زيتون” فقد أكد أن المؤتمر العاشر قد أنهى فصلاً من التوتر بين الحركة والدولة تجاوز الأربعين سنة وقال أنَّ ( النهضة تخلصت الآن من سجن الإسلام السياسي الذي حشرت فيه لسنوات بدءاً من مزاعم الاقتداء بالنموذج السياسي التركي وصولاً لداعش نحن الآن حزب مدني سياسي عصري لا علاقة له بتنظيم الإخوان المسلمين الذي لم ننتم له أصلاً ).

هذا الإنتقال الهائل للنهضة من حزب يتدثر بعباءة الإسلام إلى حزب مدني يدعو للفصل بين السياسة والدين ويؤمن بالوطنية والديموقراطية سيميز موقفها من المواقف المبدئية للأخوان المسلمين فيما يتعلق بتلك القضايا من أمور مثل التداول السلمي للسلطة وعدم الوصول للحكم بالقوة, وهى القضايا التي أثبتت التجربة أنَّ الغالبية العظمى من حركات الإسلام السياسي ظلت تتمسك فيها بتعاليم المرشد المؤسس رغم مزاعم التجديد.

فالشيخ البنا كان في غالبية كتاباته وخطبه ومقالاته يخاطب أعضاء جماعته بلفظ “الجنود”, و”التنظيم العسكري” كان العمود الفقري للجماعة, وهو لم يكن ينفي إستخدام “القوة” للوصول للأهداف وإحداث التغيير ولك أن تتأمل حديثه أدناه :
( يتساءل كثيرٌ من الناس : هل في عزم الإخوان أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم ؟ وهل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة على النظام السياسي أو النظام الاجتماعي؟ ولا أريد أن أدع هؤلاء المتسائلين في حيرة، بل إنني أنتهز هذه الفرصة فأكشف اللثام عن الجواب السافر لهذا في وضوح وفي جلاء، فليسمع من يشاء. أما القوة فهى شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته, ولابُدَّ لمن يتبع هذا الدين أن يكون قوياً، والاخوان المسلمون لابد أن يكونوا أقوياء, قوة العقيدة والايمان، ثم قوة الوحدة والارتباط ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح ).

وهو كذلك لا يؤمن بالديموقراطية حيث يقول في رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي (ولو أخذنا بالحزم وأعلناها صريحة واضحة : أننا معشر أمم الإسلام لا شيوعيون ولا ديمقراطيون ولا شئ من هذا الذي يزعمون ).

وهو لا يكتفي بذلك بل يصفها (الديموقراطية) بالتافهة حين يضيف في حديث الثلاثاء قائلاً : (هذه هي دعوتنا ليس لها منهاج إلا الكتاب الكريم، ولا جنود إلا أنتم ولا زعيم إلا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فأين من نظامنا هذه النظم التافهة المتداعية ؟ هذه الديمقراطية، والشيوعية، والدكتاتورية ).

البنا كذلك لا يؤمن بمفهوم الوطن فهو مَنْ أسَّس لطريقة إنتقال الجماعة من واقع “الإستضعاف” إلى قوة “التمكين” عبر ست مراحل تبدأ بالفرد ثم الأسرة ثم المُجتمع ثم الدولة ثم “الخلافة الإسلاميَّة” وأخيراً “أستاذية العالم”.

لم تستطع جميع حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية – ربما بإستثناء المغرب – الخروج من عباءة البنا, ولم يتعد التجديد لديها سوى إضافة بعض الحواشي الشكلية على متن أفكاره الأساسية التى نادى بها في الربع الثاني من القرن الماضي ولكن الخطوة الأخيرة لحركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي تمثل نقلة كبيرة في ذلك الفكر ستكشف السنوات القادمة أنها كانت نقلة في الإتجاه الصحيح للتاريخ.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *