Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

شذرات من، وهوامش على، سيرة ذاتية (3-5)

بقلم الدكتور منصور خالد

هدفنا من تلك الدراسة والتحليل للأحداث كان هو الرد على سؤال ظل يدور في عقول الباحثين الجادين ، ومازال يهجس في رؤوس أبناء الجيل البازغ . الســـــــــــــــــــؤال هـــــــــو : ” ما هي الأسبــــــــــــــــاب التي جعلت من الســــــــــــــودان وطنــــــاً مُستهاضـاً وكتــــاباً مدرسيـــاً نموذجيــــــــــــاً للفشـــــــــــــــل (for failure textbook model) في رقعة من الأرض توفرت فيها من الموارد الطبيعية والبشرية ما لم يتوفر لغيرها ؛ وتاريخ حضاري ممتد يعتـــرف ، بل يحتفي به العالم ؛ ووضع استراتيجي مميز في قلب القارة الأفريقية وبمقربة من العالم العربي في المشرق والمغرب . ورغم قسوة الحكم على جيل آباء الاستقلال ، ثم جيلنا الراهن بالفشل ، نبدى أننا لم نتوصل إلى ذلك الحكم إلا عبر أسانيد مستمدة من حقائق تاريخية ووقائع معاصرة تروى متى وقع الفشل ، وممن ، وكيف . كما أن الرغبة في ، بل الحرص على ، تفادي الجدل الفارغ الذي كاد أن يصبح سمة ملازمة للحوار السياسي في السودان دفعانا إلي ضبط معاني المصطلحات . أمر آخر حرصنا عليه هو السرد التاريخي للإحداث ، ليس فقط لما لأحداث الأمــــــــــــــــــــس من أثر بــــــــــــــــــــالغ علي أوضاع اليوم ، بل أيضاً لما في تلك الأحداث من عبر . فالتاريخ لا يدُرس فقط للإلمــــــــــــــــــــــام بالحوادث الماضية ، وإنما أيضاً للاستهداء بما فيه من روايات ذات عبر (cautionary tales) . تلك الدراسة التاريخية للأحداث ، بما فيها ما ألممنا به عبر القراءات المتنوعة ، أفضت بنا إلى عدد من الأحكام . وبما أن طرح الأحكام يستلزم تفادي الخلط بين الموضوعي والذاتي لأن ذلك منهج فاسد في قراءة التاريخ آثرنا في تلك الفذلكة للكتاب التمييز بين ما هو نوعي موضوعي وما هو ذاتي .

القضايا النوعية الموضوعية :-

• مشاكل السودان السياسية الراهنة هي نتاج لفقدان الرؤية، لكيلا نقول قصر النظر ، عند آباء الاستقلال في معالجة اكبر مشكلة جابهتهم عند الاستقــــــــــــــــلال إلا وهـي ما يســــــــــمى ” بقضية الجنوب ” . وأن كان قصر النظر يجعل المرء عيياً بحجته عند المجادلة ، فأن فقدان الرؤية رغم توفر حل للقضية طرحه الجنوبيون وبعض الشماليين منذ الاستقلال يصبح عنداً ومكابرة .
• العجز الغريب من جانب جيل الآباء عن الاستهداء بتجارب الآخرين ، خاصة التجربة الهندية التي قرروا بأنفسهم أن تكون هي النبراس الهادي للحركة الوطنية السودانية في عملها السياسي، بل أسموا تنظيمهم الوطني ” المؤتمر ” تيمناً بحزب المؤتمر الهندي والذي حسبوا غانديه ونهروه وصحبهما أنبياء للوطنية.
• الاستعلاء الجامح نتيجة ظن موهوم من جانب تلك النخبة بأن أهل السودان أجمعين ” أمة أصلها للعرب ” مما يعني إلغاء أقوام آخرين في البلاد ليسوا بعرب أولا يدينون للإسلام ولكن يتشاركون ذلك الوطن مع العرب والمستعربة .
• تحول ذلك الانطباع الذاتي إلي نظرة دونية لكل من لا ينتسب لذلك الأصل الموهوم مما قاد إلي أنانية تجبن عن أن تُسمي نفسها باسمها الحقيقي . ففي قول للمفكر الفرنسي فرانسوا لاروشفوكو ” الاستعلاء علي الآخر هو أم الأنانية لأنه يدفع المرء لانتحال فضائل لا يملكها “.
• اللجلجة في الاعتراف بخطيئة ارتكبتها اغلب شعوب العــالم ألا وهي الرق والتي تمثلت في إنكار النخبة السياسية والثقافية في الســــــــــــــــــــــــودان استرقاق الســــــــــــــــــــــوداني للسوداني وبالتالي إنكارها لما أفرزه الرق من تراتبية اجتماعية (Social stratification) . ذلك الإنكار قاد إلى العجز عن محاصرة عقابيل تلك الظاهرة ثم علاجها ، إذ كيف يمكن للمرء علاج داء ينكر وجوده أصلاً .
• لجوء النخبة السياسية في ذلك الزمان ، بسبب الاستهانة بالآخر أو افتراض قصوره الفكري ، إلي التحايل على أهل الهامش بإطلاق وعود ضُمار تعرف تلك النخبة إنها ليست قادرة على ، أو راغبة في ، استيفائها.
• تعمق عدم الثقة بين أهل ” الحسب والنسب ” في الشمال ، من ناحية ، وبين المغموز في أنسابهم في الجنوب والوسط والغرب من ناحية أخرى ، أدى إلى رد فعل غير فطن من جانب كثيرين في المجموعة الثانية قادهم إلى توجيه جام غضبهم نحو أهل الشمال أجمعين ، لا نحو نخبتهم السياسية باعتبارها وحدها هي صانعة المــــــــــــآسي .
• تقاصر النخبة السياسية الشمالية عن اهتبال الفرص التي واتتها في مؤتمر المائدة المستديرة لكيما تتدارك خطأ القيادات التي رفضت قبول حل مشكلة السودان الكبرى (حرب الجنوب) مما قاد إلى انقلاب عسكري ( مايو 1969 )
• ازدراء النخبة السياسية الشمالية المعارضة لاتفاق أديس أبابا 1972 رغم إنهائه لحرب دامت سبعة عشرة عاماً ولنصوص الدستور الدائـــــــــــم (مايو 1973) حول الدين التي لولاها لما تم تجاوز السودان الجدل العقيم الذي استحال معه الوفاق السياسي على دستور للسودان منذ عام 1965 وحتى 2005.
• إلغاء اتفاق أديس أبابا 1972 ودستور 1973 من جــــــــــــــــــــانب الحاكــــــــــــــــــــــــم الشمــــــــــــــــالي ( نميري) الذي تم الاتفاق في عهده رغم تحقيق الاتفاقية لسلام دام عقداً من الزمان وإفلاح دستور (1973) في تجاوز عقبة الدين والسياسة التي حالت دون إقرار دستور دائم للسودان .
• الفشل في إدارة التنوع مما أدى إلي أذكاء الصراع بين أهل المركز و أهل الهامش ودفع بالعناصر الأكثر وعياً من أبناء وبنات المهمشين إلي النجاة بأنفسهم بالارتماء في أحضان مجتمعات ما قبل الدولة.
• طعن الديمقراطية في خاصرتها بهدم أهم عناصرها الأساسية : رعاية الحريات الأساسية ، حكم القانون ، احترام نتائج الانتخابات التي تمت في بيئة حرة وعادلة مما تمثل في طرد الشيوعيين من البرلمان ورفض الحكومة ” الديمقراطية ” لقرار المحكمة العليا بعدم شرعية ذلك القــــــــــــــــرار .
• طعن الديمقراطية لم يكن فقط من جانب الأحزاب التقليدية الكبرى (الأمة – الاتحادي الديمقراطي – حزب الشعب) أو الأحزاب الدينية الحديثة (جبهة الميثاق الإسلامي ، الأخوان المسلمين ) وحدهم ، وإنما أيضاً من حكومة ترأسها من يعتبر اكبر ديمقراطييّ السودان : محمد احمد محجوب صاحب المقولة الشهيرة : “أخطاء الديمقراطية تعالج بالمزيد من الديمقراطية “. وعندما أتيحت الفرصة لشيخ الديمقراطيين لكيما يدون مذكراته ( الديمقراطية في الميزان ) أغفل ذلك الكاتب المهموم بالديمقراطية حتى في هوامش ذلك الكتاب الإشارة إلى قرار حكومته بوأد الديمقراطية.
• مسايرة الحزبين الكبيرين الإسلاميين لجبهة الميثاق الإسلامي في إصرارها على حرمان المواطنين غير المسلمين من الولاية الكبرى ، وعلي رأسها رئاسة الجمهورية باعتبار أن أغلب أهل السودان مسلمين . وكان من المذهل أن يكون الاتفاق الذي جعل من المواطنة المؤهل الوحيد لكل الوظائف في الدولة بما فيها رئاسة الدولة نتاجاً لاتفاق تم بين الحركة الشعبية ، من جانب ، وأكبر أحزاب السودان المنادية بالدولة الدينية (المؤتمر الوطني) ، من الجانب الآخر . ذلك الحزب آثر أن لا يقول لأهل السودان لماذا عطل صدور دستور دائم للسودان منذ منتصف ستينات القرن الماضي لإصراره على أسلمة الدستور ، ثم عاد وقبل في مطلع القرن الراهن بما أنكره بالأمس . أو رأيتم كيف يكون التعابث بمصير الشعوب .
• الانقضاض علي ، والغدر بالديمقراطية من نوفمبر 1958 وحتى يونيو 1989 ثم عبر انقلابات عسكرية أسهمت فيها الأحزاب السياسية من اليمين إلى اليسار حتى لم يعد السودان دولة ذات جيش وإنما جيش دولة يصنع الحكومات .
• انقضاض الجيش علي الحكم لم يكن دوماً باندفاع ذاتي من جانب الجيش بل بدفع من حواضن الديمقراطية نفسها على اليمين أو اليسار وتثاقل كل من دفع الجيش للحكم أو وطد أركانه في الماضي أو الحاضر المعيش عن الإفصاح عن دوره في الزج بالجيش في السياسة دون إكثار من استخدام حرف ” لو ” ( لو كان هذا لحدث ذلك) . لو حرف شرط وامتناع أو تمني لهذا فأن الإكثار من استخدامه لا يقود إلا لواحد من شيئين : الهروب عن الحق ، أو الإسراف في التمني.
• تنكب التنظيمات السياسية الحديثة الطريق في سعيها لخلق أطر فكرية للعمل السياسي لا تتغابي عن الواقع المحلي . فبدلاً عن الاعتراف بهذا الواقع والعمل على معالجة المشاكل التي أفرزها هربت تلك التنظيمات إلي الإمام إلي محاولة لإصلاح الكون كله رغم أن إصلاح الكون يبدأ بالممكن والعاجل ألا وهو إصلاح الوطن .
• افتراض أصحاب هذه النظرية / العقيدة أن مشاكل الوطن يمكن أن تنتظر تحقيق أحلامهم الكبرى : قيام الخلافة الإسلامية ، من جانب ، أو اتحاد عمال العالم للانقضاض على الاستعمار الجديد ، أو توحيد العرب من الخليج إلى المحيط ، من جانب آخر . هذا الوهم يقوم على افتراضين خاطئين : الأول هو إعلاء العقيدة السياسية على هموم الإنسان في المجتمع ، والثاني هو اعتبار الوطن رقعة شطرنج وأن مواطنيه ليسوا أكثر من بيادق يحركها اللاعبون من العقائديين.
• بتحول الرؤى الفكرية: أممية كانت أو قومية أو دينية إلى عقائد لم يعد الخلاف بشأنها بين المتناظرين خلافاً فكرياً بل تحول إلي تخوين أو تأثيم أو تكفير مما يستحيل معه قيام أي حوار عقلاني بين المجموعات الأكثر فاعلية في المجتمع ؛ وتلك حالة يصبح فيه السياسي العقدي نهباً بين واحد من خيارين : أما أن يخون عقيدته ، أو أن شئت وثنيته الفكرية ، أو أن يخون عقله ووعيه لاسيما والوثنيات الفكرية ، بطبعها ، لا ترتقي بالإنسان أبداً إلى علياء الفكر بل تشده إلى القاع أكثر القوى المجتمعية رسوبية .
• بلوغ عدم التسامح ذروته بخروج جماعات تكفيرية من عباءة بعض الإسلاميين ظلت تمارس نشاطها ” الفكري ” ، أو بالأحرى ” اللافكري ” برضى وقبول من جانب ما يسمى التيار الإسلامي المعتدل مما جعل من ذلك التيار حاضنًا طبيعياً للتطرف . وعلى كل فان الفقدان الكامل للتسامح لا يعبر فقط عن تقويض للديمقراطية بل هو هدم للسياسة من أساسها لأن السياسة هي فن التسوية والتراضي .
• رغم صحة القول بأن السياسة ليست مجال عمل للقديسين الذين لا يطيقون العنف إلا أن على كل سياسي تلزمه الضرورة بأخذ خصمه بعنافة أن يدرك أن العنافة ضد الخصم السياسي محكومة أبداً في المجتمعات المدنية بمنظومة قيمية تحقق ، من ناحية ، توازناً بين بلوغ ذلك السياسي أهدافه النهائية المشروعة ، ومن ناحية أخرى تلتزم بأخلاقيات المسئولية العامة تجاه المجتمع بكل تنوعه العرقي والديني والثقافي . فقدان التوازن بين هاتين الغايتين سيقود لا محالة إلى واحد من ثلاث احتمالات : انهيار النظام ، أو انهيار المجتمع ، أو انهيار كليهما .
• الاختلال الهيكلي في نظام الحكم الديمقراطي بسبب مجافاة ، أن لـم يكن تنكــــــــــــر ، السياسيين للقواعد المرعية في السياسية الحزبية مثل أن يكون للحزب رؤى وبرامج، أن يحترم دستور الوطن قبل دستور الحزب ، أن يلتزم الحزب قبل هذين الشرطين بمنظومة حقوق الإنسان التي اعتمدتها المواثيق الدولية ، أن تكون له موارد مالية شفافــــــــــة ، أن تخضع قيادته لمحاسبة القاعدة بدلاً من أن تتحول القيادات إلى رجال يتبارك بهم الناس إذ ليس في هذا الكون من ينبغي أن يتبارك به الناس غير “الذي بيده الملك”.
• العـــودة بالسودان إلى هيمنــــــــــــــــــــــــــــــــــة العقليــــة البطركيـــة (patriarchal mentality) على المجتمع . هذه العقلية تفترض ، بين ما تفترض ، هيمنة الرجال على النساء مما حد من التطور الكبير الذي أحرزه السودان في تحرير المرأة من قبل عقد المرأة (1985 – 1976 ) الذي دشنته الأمم المتحدة في أول مؤتمر دولي حول الموضوع في المكسيك عام 1974 . فقد سبق استهلال ذلك العقد حصول المرأة في السودان على حق المشاركة في البرلمان ، واحتلالها للمواقع القضائية العليا ، والتحاقها بالمعاهد العليا في ظل نظام تعليمي مختلط لا يضع الطالبات في غيتات (ghettos) ويفرض عليهن في قانون أسموه قانون النظام العام اللباس الذي يرتدين حتى وإن كان ذلك اللباس هو ما كانت أمهاتهن وجداتهن يتدرعن به . ومن الواضح أنه لم يسنح بخواطر هؤلاء ولو لمرة واحدة إنهم لا يدينون فتيات هذا الجيل بشنعة عدم الحياء بل يدينون كل أجيال أمهاتهم وجداتهم .
• نظرة صناع هذا القانون للمرأة لا كمخلوق ذي عقل يفكر بل كجســــــــــد عــــــــــــــــورة (وما هي بعورة ) تكشف عن أقبح ما يمكن أن يوسم به رجل إلا وهو التملي في شئون المرأة بأحليله لا بعقله . هذا النمط من الرجال هم صورة مستنسخة من ود الريس الذي وصفه الطيب صالح في رائعته : ” موسم الهجرة إلى الشمال ” بالرجل الذي ” عقله في رأس ذكره ” .
• إغفال الأحزاب والحكومات المنبثقة عنها لواجبـــــــــــــــــــــــــــات لا معدى لأي حكــــــــــــــــومة وطنية عن وضعها على رأس واجباتها مثل البناء الوطني (nation building) الذي لا يكتمل إلا بتحقيق التناغم بين المكونات المختلفة للوطن ؛ والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لن تتحقق رفاهية الشعب بدونها ؛ وتمكين الوطن من التعايش السلمي مع شعوب العالم في ظل القوانين الدولية الناظمة لذلك التعاون مثل ميثاق الأمم المتحــــــــــــــــدة ، المواثيق الإقليمية ، العهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان حتى لا يصبح السودان بلداً ناشزاً بين الدول . فالسودان اليوم لا يعدو أن يكون كولاجاً تعددت ألوانه وتنافرت مكوناته ولا يكون الكولاج جميلاً إلا أن تآلفت مكوناته .
• ظن أنظمة الحكم المطلق المتوالية أن بقاءها في الحكم رهين باستخدام القوة الصلدة وكأنها لم تقرأ شيئاً عن نابليون، أو تعرف كيف انتهي نظام ستالين الذي دام صانعه في الحكم ثلاثين عاماً (ابريل 1922- أكتوبر 1952) . رغم ذلك أنهار البناء الذي أقامه الرجل الحديدي كبيت من الكرتون . ذلك البناء الكرتوني أسماه واحد من يساريي الغرب الذين كانوا مولهين به (جان بول سارتر ) ” الاشتراكية الوافدة من الصقيع ” .
• إمعان أنظمة الحكم المطلق في العنف ، خاصة تلك التي تطاول بقاؤها فيه توهماً منها بأن الإمعان في القهر والبقاء في السلطة لأمد طويل يضمنان لها الحكم أبد الدهر . ولعل هؤلاء لم يدركوا بعد أن الإسراف في القهر دليل ضعف لا قوة ، كما أن الاستمرار في الحكم بأسلوب طغواني لا يورث فقط المحكوم سأماً من الحاكم وغضباً عليه ، بل يضيف إلى ذلك عجزاً داخلياً للنظام باستنزاف كل طاقته في ضمان بقائه في الحكم بدلاً من توجيهها لأداء واجباته نحو المواطن . ومتى ، أجتمع غرور القوة بوقاحة الهوى فلات حين مناص .
• تجاهل الأنظمة الطغوانية ليس فقط لحقائق التاريخ القديم ، بل لما أثبته التاريخ المعاصر حول استحالة بقاء أي نظام في الحكم إلى الأبد طالما ملك ذلك النظام وسائل القمع التي تقهر الشعوب . الشعوب دوماً تراوغ في أساليب نضالها وبسبب من ذلك فهي قادرة على هزيمة الأنظمة القاهرة من حيث لا تحتسب ولعل أبلغ تعبير عن ذلك قول نيلسون مانديلا : ” كثيراً ما يبدو الأمر مستحيلاً إلا عندما يقع”.
• ضرورة كف القيادات السياسية السودانية التي استعمرت الساحة السياسية منذ عقد الستينات في القرن الماضي عن الظن بقدرتها على استعمار تلك الساحة في القرن الحادي والعشرين . لأجل ذلك على هذا النفر الكريم أن يعترف بأنه لا يملك المقومات التي تمكنه من رسم خريطة المستقبل ولا خيار أمامه غير إفساح الساحة لأجيال جديدة ستظل تفرض نفسها على الحاضر والمستقبل . هذا النفر بحكم فشله المتراكم لا يمثل الحاضر وبالتالي لا يملك القدرة على رؤية للمستقبل ، ناهيك عن صنعه .
• استباحة أنظمة الحكم المطلق لكل شيء بما في ذلك النواميس التي تدعي تلك الأنظمة الامتثال لها قاد إلى استباحة أشمل لكل القيم والمعايير . فأن كانت الإباحة عند الأصوليين هي الخيار بين الفعـل والتـــــــــرك ، فالاستباحة هي اعتبار كل شيء مباحاً بما في ذلك ما حرم الله. فمثلاً ، عندما يبيح الحاكم المطلق لنفسه تجاوز الدستور الذي وضعـــــــــــــه ، أو يخرج على القوانين التي أرساها ، أو ينكص على القسم الذي أداه وهو يضع يده علي كتاب الله ، أو يبيح السرقة لمناصريه تستراً عليهم ، أو يحللها بما يتيح البراءة لسارق المال العام بعد اكتشاف أمره ، لا تصبح كل فعائله هذه تحاملاً علي أحكام الإسلام في بلد شعاره ” لا بديل لشرع الله ” ، أو اجتهاداً فقهياً خاطئاً ، بل خطيئة لا يبيحها دين ولا يقرها عــــــــــــــرف .
• استباحة الراعي لكل ما نهت عنه الشرائع والقوانين ومدونات السلوك المهنية والتقاليد المرعية عبر العالم قاد الرعية إلى مجانفة القيم الأساسية في المجتمعات ألا وهي القيم الأسريــــــــــــــة مثل تعدي الابن على أبيه ، والأب على أبنــــــــــــــــــــه ، والمعلم على الصبي الذي أوكلت له رعايته .
• التفشي الذريع للفساد الاجتماعي لا لعدم وجـــــــــــــــــــــود القـــــــــــــــــــــــوانين والمؤسســـــــــــــــــــــــات التي تحول دون استشــــــــــــــــــــــــرائه ، وإنما لتبريره عبر سلوكيــات مسكـــــــــــــوت عنها تفتح بـــاب الذرائع . لهذا فإن كان الفساد في الماضي حقيقـة مــــــــــــن حقائــــــــــــق الحيـــــــــــــــاة (a fact of life) إلا أنه أصبح بتـــــــــــــــبرير شــــــــــــــــرعي مزعوم منهجاً حياتيــــــــــــــــــاً يقــــــــــــــــــــــره الشــــــــــــــــــــــــرع والعـــــــــادة (religiously and socially justifiable way of life) .
• فقه الاستباحة الذي قوض كل القيم التي عرفها أهل السودان صحبه إسراف في التدين الشكلاني والذي هو في حقيقته نفاق . النفاق هو إظهار الإيمان باللسان وإضمار الكفر في القلب وقد ذكره القرآن في باب الذم في قرابة الأربعين آية (نافقوا، النفاق ، نفاقا ، المنافقات ، المنافقون ، المنافقين) .
• في هذه البيئة الموبوءة مَرَد في النفاق الجميع حتى كاد المرء يتساءل : أهؤلاء هم الذين عنتهم عُريب ، جارية المأمون التي ظل يتداولها من بعده خلفاء بني العباس حتى المعتز وقد عرفت عُريب بجودة صوغ الشعر وحسن التغني به ، ومنه قولها :

وانتم أناس فيكم الغدر شيمة

لكم أوجه شتي والسنة عشر.

وغدا نواصل…

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *