Friday , 19 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

لماذا تتحاشون نقد الأفكار ؟

بقم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

أشرتُ في مناسبات عديدة إلى أنَّ عدداً كبيراً من الذين خرجوا على نظام الإنقاذ في فترات مختلفة عجزوا عن نقد الأفكار والمفاهيم الأساسية التي إرتكز عليها البنيان الآيديلوجي للنظام واكتفوا فقط بنقد السلبيات التي أفرزتها تجربة الحكم ممَّا يٌشكك كثيراً في مصداقية مواقفهم الجديدة ويُنذر بتكرار الفشل في المستقبل طالما ظلت أسبابه الحقيقية موجودة.

ومن ضمن هؤلاء يبرز الدكتور الطيب زين العابدين والدكتور حسن مكي اللذان ظلا يرميان بسهام نقدهما نحو الفشل الذي أفرزته التجربة والممارسة و يتناولان أعراض المرض دون أن يعالجا أسبابه.

في حوار مع صحيفة “الجريدة” الأسبوع الماضي سُئل البروفيسور الطيب عن شعار الشريعة الذي ترفعه الحكومة فقال ( تطبيق الشريعة صار شعاراً مستهلكاً، والحكومة تحاول ترضي به بعض السذج من أتباعها من الطرق الصوفية وأعضاء الحركة الإسلامية، وكلهم عارفين الحاصل في البلد. وطبقت بأشياء شكلية، ومقاصد الشريعة هي حفظ الدين والحياة التي تعني الأكل والشراب والخدمات، وحفظ العرض، وحفظ المال والعقل، وهي يحرص عليها أي شخص، ولم يقولوا مقاصد الشريعة هي أن تقبض على بنت مسكينة بتهمة مبتدعة وهي ارتداء زي فاضح ).

الحديث أعلاه ينطوي على تعمية بائنة و تمويه نحاول كشفه في السطور التالية فعندما يقول الدكتور الطيب أنَّ الشريعة “صارت” شعاراً مستهلكاً فهو يهرب من مواجهة الحقيقة الدامغة وهى أنَّ هذا الشعار شعار لم يحمل في يومٍ من الأيام مضموناً أو تعريفاً محدداً يُمكن الإمساك به وهذا الأمر ليس مُرتبطاً بالتجربة التي أفرزتها الإنقاذ بل يعود إلى أصل الشعار الذي ظلت ترفعه حركة الأخوان المسلمين منذ نشأتها.

لا يستطيع أهل الإسلام السياسي – بمن فيهم الدكتور الطيب – تعريف معنى الشريعة التي يعملون من أجل تطبيقها، ففريقٌ منهم يقصد “الحدود الشرعية” وفريقٌ آخر يهتم “بالشكليات” والمظاهر الخارجية لسلوك الأفراد بينما فريق ثالث من البسطاء يكتفي بأنَّ دولته الإسلامية المزعومة تقول له أنَّ الشريعة مُطبقة وكفى.

أمَّا بخصوص مقاصد الشريعة التي أشار لها الدكتور الطيب فإنَّ كاتب هذه السطور يُجزم أنها كانت مرعية في سودان ما قبل الإنقاذ بصورة أفضل بكثير مما هى عليه الآن، كانت تستمد أصولها من إسلام أهل السودان المتسامح ومن قيمه المزروعة في نفوس الناس منذ مئات السنين ومع ذلك ظل الأخوان المسلمين يزايدون على الأحزاب السياسية بشعار الشريعة ويطالبون بتطبيقها فوراُ حتى إذا ما أتيحت لهم فرصة الحكم لأطول فترة في تاريخ السودان الحديث عجزوا عن إكتشاف ماهية الشعار الذي ظلوا ينادون به !

ولا يكتفي الدكتور الطيب بحديثه أعلاه بل يُضيف إليه قائلاً ( ونموذج الإنقاذ من أسوأ ما مرَّ على السودان من فترات، بالإضافة الى أنها طويلة، وبالتالي إنهم عذبوا الناس وخوفوهم من الإسلام وقدموا نموذجاً سيئاً للحكم وما زلت أؤمن بالفكر الإسلامي، ودور الإسلام في إصلاح الحياة والحكم، لكن قطعاً لا أستطيع أن أدافع عن نموذج الإنقاذ يوماً واحداً ).

إنَّ حديث الدكتور الطيب عن دور الإسلام في إصلاح الحكم لا يخرجُ عن إطار “الشعارات” التي ظلت جماعتهُ ترفعها منذ نشأتها الأولى، فالتاريخ الإسلامي ليست فيه تجربة للحكم أو الدولة يُمكن الإستفادة منها في عصرنا الحالي، وكما قلنا مراراُ فإنَّ تجربة دولة الرسول (ًص) هى تجربة فذة مسنودة بدعم السماء وغير قابلة للتكرار وأكبر دليل على ذلك هو العجز عن إيجاد مثيل لها لأكثر من أربعة عشر قرناً.

وحتى التجارب التي يتفاخر الأخوان المسلمون بها في الوقت الحالي في ماليزيا وتركيا فإنها لا تمت لفكرهم بأية صلة بل تستمدُ مصدر نجاحها وقوتها الأساسية من مبادىء الدولة العلمانية الحديثة، وهو الأمر الذي ذكره بوضوح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في زيارته الشهيرة لمصر وأعاد التذكير به في زيارته لتونس مما أثار غضب قيادة الجماعة.

ليس من حق أحد أن يُحدِّد للدكتور الطيب قناعاته الفكرية ولكن التجربة المريرة والفاشلة التي وصفها هو نفسه بأنها “من أسوأ ما مرَّ على السودان” علمتنا أنَّ الإكتفاء بإطلاق الشعارات الفضفاضة دون شرح الأفكار وإبانة المنهج يُمثل وصفة جاهزة للفشل وبالتالي فإنَّه لا يكفي أن يُعبِّر الشخص عن قناعته بدور يقوم به الإسلام في إصلاح الحكم، بل يجب أن يوضح كيف يُمكن لعب ذلك الدور وما هو أسلوب الوصول للحكم المُراد إصلاحه ؟ إضافة للإجابة على الكثير من الأسئلة والتحديات التي يفرضها الواقع المعاصر.

الأدهى والأمر من ذلك هو أنَّ الدكتور الطيب يتعمد إغفال حقائق التاريخ الساطعة التي أدَّت لدخول البلاد في هذا النفق المُظلم، فعندما سُئل في ذات الحوار: هل ما يحدث بعيد عن أدبيات الحركة الإسلامية قبل الانقلاب؟ فأجاب:( بعيد جداً، أنا من المشاركين في دستور الحركة الإسلامية في عام 1982 وهو عماد النظام الأساسي للجبهة الإسلامية القومية، وتحدث عن العدل والحرية والديمقراطية وتشجيع الآداب والفنون والثقافة، والآن لا يعمل به إطلاقاً، كفاية إنها لم تطبق وثيقة الحقوق بالدستور الانتقالي ).

إجابة الدكتور الطيب أعلاه تُثير الرثاء والشفقة في آنٍ واحد، فالرجل الذي شارك في كتابة دستور الحركة الإسلامية في 1982 والذي يتحسرعلى عدم إكتراث حكومة الإنقاذ بإنفاذ وثيقة الحقوق في دستور 2005، هو ذات الرجل الذي شارك في الإجتماع الذي إتُخذ فيه قرار الإنقلاب على الحكم الدستوري في البلاد في يونيو 1989 !؟

لا يعفي الدكتور الطيب من مسؤولية المشاركة في الإنقلاب العسكري على النظام الشرعي كونه لم يصوِّت شخصياً لصالح الإنقلاب، فقد كان حرىٌ به وهو الأستاذ الجامعى والمثقف الذي شارك في كتابة دستور حزبه الذي ينادي “بالحرية والديموقراطية” أن يُبلغ الجهات المختصة بالتدبير الإنقلابي حتى يُبرىء ساحته من الناحية الأخلاقية ولكنهُ آثر الصمت حفاظاً على مصالح جماعته الضيقة، ثم عاد يتباكى على الحرية بعد أكثر من ربع قرن من الزمان . فتأمل !

أمَّا الدكتور حسن مكي فقد قال في حوار مع صحيفة “آخر لحظة” الاسبوع الماضي أنَّ ( الكثير من الإسلامين (المؤتمر الوطني) يتعاملون مع المجتمع السوداني باستعلائية، كأنما هم ملائكة والبقية شياطين، والفرقة الثانية على حق ).

حديث حسن مكي أعلاه لا يعدو كونه إقرارٌ بواقعٍ بات يعرفه كل الناس ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخصوص هو هل الإستعلاء أمرٌ طارىء أفرزته تجربة الحكم أم هو نتاج الغرس الفكري للإخوان المسلمين ؟

هُنا كان يتوجب على أمثال الدكتور حسن أن يكشفوا عن المنهج الفكري الذي يتربى عليه الكادر في الجماعة، فهو في الأساس منهجٌ ينبني على “الإستعلاء” على كل مكونات المُجتمع وعلى فرض الأفكار بالقوة والعنف ذلك لأنَّ العضو يتربى على إمتلاك “الحقيقة المطلقة” وإذا عاد الدكتور حسن بذاكرته لسنوات الجامعة سيكتشف مدى الإستعلاء الذي كان يتعامل به مع زملائه الطلاب و أعضاء الأحزاب السياسية الأخرى.

المنهج الفكري يغرس في عقل الكادر أنه “وكيل الله في الأرض” وتلك علة أساسية تنشأ عنها الكثير من الأمراض النفسية وعلى رأسها مرض الاستعلاء على الآخرين والتباهى وذم كل من هو خارج الجماعة، وهو كذلك يُبيح لأفراد التنظيم الكذب والخداع والتزوير على عامة الناس الذين لا ينتمون اليهم ويتفانون فى إهانة الكرامة الانسانية لمن يختلف عنهم فى الرأى.

الإستعلاء هو النتيجة الحتمية لمن تكوَّن عقله على أنه يُمثل “الإسلام” وليس مدرسة فكرية تقومُ على تأويلٍ مُعيَّن للإسلام، تأمل كلمات المرشد المؤسس وهو يكتب تحت عنوان “نحنُ والسياسة” : ( يا قومنا.. إننا نناديكم والقرآن فى يميننا والسنة فى شمالنا، وعمل السلف الصالح من أبناء هذه الأمة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام وهدْى الإسلام ).

المنهج الفكري يزرعُ في الكادر إحساساً متضخماً بالتميُّز ومخالفة الآخرين، و حتى القرآن الكريم يقرأونهُ وفق تصورات يقينية بأنهم فئة مُختلفة عن بقية فئات المجتمع، فتجدهم يُركزون بصفة خاصة على سورة الكهف بإعتبار أنهم هُم الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى.

الدكتور حسن مكي يعلم كل هذه الأمور لأنه نشأ و ترعرع داخل الجماعة وتربى على هذه الافكار ولذلك فإنَّ المرء يستغرب لإستنكاره للسلوك الإستعلائي لأعضاء المؤتمر الوطني تجاه بقية مكونات المُجتمع السوداني.

قد كان الأستاذ مبارك الكودة أكثر جرأة وشجاعة من الدكتور الطيب والدكتور حسن عندما تناول في مراجعاته الفكرية التي كتبتُ عنها الأسبوع قبل الماضي “الأمراض الفكرية” التي تسببت في الممارسات الخاطئة التي وقع فيها ولم يكتف فقط بإنتقاد الأعراض، وقد كان حريٌ بالأخيرين أن يقوما بنفس الشىء وألا يكتفيا بإنتقاد التجربة دون تفنيد الأفكار التي وقفت وراءها.

Leave a Reply

Your email address will not be published.