هل يجوزُ وصفُ المرأة غير المُحجَّبة بالجيفة ؟
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
لا شك أنَّ المُراقب للتحوُّلاتِ التي طرأت على المُجتمع السوداني مُنذ مجىء الإنقاذ يلحظُ أنَّ نمط التديُّن عند كثير من السودانيين قد إختلف عمَّا كان عليه في السابق نتيجة للسياسات الإعلامية والإجتماعية والتعليمية والدينية التي تبنتها الحكومة والمستندة في الأساس إلى فكر جماعة “الأخوان المسلمين” إلى جانب الإنتشار الكبير للآيديولجيا السلفية في نسختها الوهابية.
ونحن عندما نتحدَّثُ عن أنماط التديُّن فإننا لا نُشير فقط إلى المدارس الفكرية والفقهية الإسلامية المُختلفة وإنما نعني الأثر التراكمي طويل الأمد الذي يتولد عن ممارسة التدين وفقاً لتعاليم وأفكار تلك المدارس في ظل بيئة ثقافية وجغرافية وإرث تاريخي وحضاري وعادات وتقاليد المُجتمع وهو الأمر الذي يُنتجُ فروقات كبيرة في أنواع التدين بين مختلف المجتمعات وذلك هو مجال الدرس الذي يعتني علم الإجتماع الديني.
ولا يعني ذلك الإختلاف تفاوتاً في “جوهر الدين وعقائده الأساسية” وإنما يدلُّ على التباين في أمورٍ “دينية ثانوية” وقد إنتبه لذلك الأمر العديد من الفقهاء المسلمين في الماضي ومنهم الإمام الشافعي الذي غيّر فقههُ الذي أنتجهُ في العراق عندما إستقر به المقام في مصر إدراكاً منهُ لطبيعة الإختلاف بين البلدين.
سُقتُ هذه المُقدمة حتى ألج لموضوع المقال المتعلق بحديث في خطبة الجمعة الماضية لخطيب الجامع الكبير كمال رزق حول “الحجاب” أوردته صحيفة “الجريدة” قال فيه أنَّ ( الحجاب أمرٌ ربَّاني والمرأة التي لا ترتدي الحجاب هي كالجيفة التي تمشي على قدمين ).
أقولُ بداية أنَّ مثل هذا الحديث المُسيء لا يُمكن أن يصدُر عن داعيةٍ لدينٍ يُعلِّمُ أتباعه أنَّ المسلم الحق هو من (سلِم الناسُ من لسانهِ) فالجيفة التي يتحدث عنها هذا الرَّجل العجيب هى (جثة الميت إذا أنتنت) أى أخرجت رائحة كريهة، فهل يجوز أن يصف ملايين النساء المسلمات اللائي لا يرتدين “الحجاب” بأنهن جيف ؟
قد نشأنا في هذا البلد الأمين وألفينا أمهاتنا وخالاتنا وعمَّاتنا يرتدين “الثوب السوداني” فهل كّن جيفاً ؟ كلام هذا الواعظ المُتفيقه لا يعكسُ فقط عدم معرفته بطبيعة “التدين السوداني” بل هو كذلك يُعبِّر عن جهله العريض بالآراء والإجتهادات الدينية المتعددة في موضوع الحجاب.
أوضحتُ في مقال سابق أنَّ عدداً من المُفكرين المسلمين قالوا أن المرأة غير مطالبة بأن ترتدي ما يُسمى بالحجاب وإنما مطلوب منها أن تلبس “الزي المُحتشم” وهذه الحشمة يجب أن تشمل النساء والرجال معاً.
إنَّ لفظ حجاب أو الحجاب لم يرد في القرآن والسنة القطعية بنفس المعنى الذي يقصد إليه دعاة إلزام المرأة بالحجاب، فالحجاب لغة يعني الساتر أو الحائط، والآية التي ورد فيها لفظ حجاب هى الآية 53 من سورة الأحزاب ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا أطعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إنَّ ذلك كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق واذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إنَّ ذلكم كان عند الله عظيماً ).
هذه الآية لا تتحدثُ عن لباسٍ أو زيٍ مُعيَّن بل تتحدثُ عن وضعِ ساترٍ بين نساء الرسول والصحابة فقط ، و حتى هذا الساتر ليس مطلوباً وضعهُ بين الصحابة وما ملكت يمين الرسول من “الجواري” أو حتى بنات الرسول أو المؤمنات عموماً وإلا كانت الآية تحدثت عن ” نساء المؤمنين”.
أمَّا الآية 31 من سورة النور ( وقل للمؤمنات يغضضنَّ من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يُبدين زينتهن الا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يُبدين زينتهن الا لبعولهن أو آبائهن او آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو أخوانهن أو بني أخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا الى الله جميعاً أيُّها المؤمنون لعلكم تفلحون ).
سبب نزول الآية أعلاه هو أنَّ الحرائر من النساء المسلمات كنَّ يضعنَّ “الأخمرة” على رؤوسهن ويسدلنها وراء ظهورهن مما يكشف النحر ( أعلى الصدر ) والعنق، وقد أمرت الآية النساء بإسدال الخمار من الأمام لتغطية الجيوب ( فتحة الصدر)، وليس في الآية أمر بلبس المرأة زي معيَّن إسمه الحجاب.
أمَّا آية الجلابيب وهى الآية 59 من سورة الأحزاب ( يا أيُّها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدني أن يُعرفنَّ فلا يؤذين ) فسبب نزولها هو أنَّ النساء ( الحرائر والإماء ) في ذلك الزمن كنَّ يذهبن كاشفات الوجوه لقضاء حاجتهنَّ في الخلاء لأنه لم تكن توجد مراحيض أو دورات مياه في البيوت وكان بعض الرجال يذهبون للتلصُّص عليهنَّ أثناء قضاء حاجتهن و قد علم الرسول (ص) بذلك فنزلت الآية لتأمر النساء (الحرائر) بتمييز أنفسهن عن ( الإماء) بإدناء الجلابيب على وجوههنَّ حتى لا يتعرض لهنَّ هؤلاء الرجال السفهاء.
لا يوجدُ إتفاقٌ أو إجماعٌ على معنى الجلباب الوارد في الآية ولا على معنى إدناءه، وقد ذكر النووي في شرح مسلم في حديث أم عطيَّة في صلاة العيد : إحدانا لا يكون لها جلباب .. إلخ . قال : قال النضر بن شميل : الجلباب ثوب أقصر وأعرض من الخمار، وهى المقنعة تغطي بها المرأة رأسها، وقيل هو ثوب واسع دون الرداء تغطي به ظهرها وصدرها، وقيل هو كالملاءة والملحفة، وقيل هو الإزار وقيل الخمار.
العلة إذاً من إدناء الجلابيب هى التمييز بين المرأة الحُرَّة والجارية حتى لا تتأذي المسلمة الحُرَّة العفيفة من تلصص الرجال عليها فهم – أى الرجال – حين يرونها مقنعة لا يجرأون على النظر إليها وهى تقضي حاجتها بينما لا توجد غضاضة في النظر إلى الأمة ( غير الحرَّة )، ولذلك قام سيدنا عمر بضرب جارية “تقنعت” أى أدنت جلبابها متشبهة بالنساء الحرائر.
وفقاً لظروف العصر الذي نعيشهُ إنتفت العلة من إدناء الجلابيب لعدم وجود جواري وعبيد في الوقت الراهن وبالتالي فقد إنتفى الحكم وفقاً للقاعدة الفقهية “العلة تدور مع المعلول وجوداً أو عدماً، فإذا زالت العلّة دار معها المعلول”.
الذين يقولون بإلزام المرأة بالحجاب يختلفون في وجوب تغطية المرأة لكامل جسدها (النقاب) أو إظهار الوجه والكفيَّن وهم في كلا الحالتين لا يستندون إلى القرآن بل إلى عددٍ من أحاديث الآحاد.
أشهر هذه الأحاديث هو ما رواهُ أبو داؤود من حديث عائشة أنَّ الرسول (ص) قال لأسماء ( يا أسماء إنَّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها شيء إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه ).
وكذلك حديث أبي هريرة أنَّ الرسول الكريم قال (صنفان من أهل النار لم أرهما. قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس. ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلنَّ الجنة، ولا يجدن ريحها. وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا).
ولكن هناك حديثاً آخر ورد في صحيح البخاري في باب الوضوء عن عبد الله بن عُمر يقول : ( كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان الرسول (ص) جميعاً )، و في رواية أخرى ( كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن النبي (ص) في الإناء الواحد جميعاً).
وهناك كذلك حديث روتهُ ( أم صبية الجهنية ) خولة بنت قيس الأنصارية وورد في صحيح أبي داؤود، تقول فيه ( إختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد).
إنَّ ورود كلمة “جميعاً” في حديث عبد الله بن عمر يعني أنَّ النساء كنَّ يتوضئن مع الرِّجال، و معلوم أنَّ في الوضوء كشفٌ للذراع و للوجه وللشعر ويتكلف البعض في تفسير الحديث بالقول أنَّ الرِّجال كانوا يتوضئون على حدة والنساء على حدة، أو أنَّ الرجال كانوا يتوضئون ويذهبون ثم تأتي النساء، ولكن الأقوال “من إناء واحد” و “جميعاً” تدحضان هذين التفسيرين، لأنَّ الجميع في اللغة ضدَّ المفترق، كما أنَّ إختلاف يد خولة الأنصارية مع يد الرسول (ص) يؤكد أنهم كانوا يتوضئون في ذات الوقت و كل ذلك يتعارض مع دعوة إلزام المرأة بالحجاب.
الحجابُ بالمعنى الذي يقصد إليه هذا الواعظ المُتفيقه والذي بدأ في الإنتشار بكثافة في بلدنا في الثلاثة عقود الأخيرة ليس هو الزي الوحيد الذي يحفظُ الحشمة، فالثوب السوداني – في ظني المتواضع – أكثر حشمة وجمالاً وتعبيراً عن خصوصية مُجتمعنا ونمط التديُّن السوداني مثلما أنَّ “العباءة” وغطاء الوجه يعكسُ نمطاً من أنماط التديُّن الصحراوي لا يتماشى بالضرورة مع أحوال السودان.
فالنقابُ الذي يشتمل على “غطاء الوجه” والذي يعتبرهُ البعض فرضاً دينياً إنما يمثل خصوصية للمجتمعات الصحراوية ومناخها الحار فالأصل فيه هو حماية الوجه من لهيب الشمس و ذرات الرمال ولا يقتصرُ لبسه في تلك المجتمعات على النساء إذ أنَّ الرجال كذلك يُغطون وجوههم لذات السبب ( مثل لباس قبيلة الطوارق في صحراء ليبيا وموريتانيا ومالي).
إنَّ نمط التديُّن السوداني إنبنى في الأساس على تحقيق مقاصد الدين و جوهره عبر الأخلاق ولذلك فإنَّ قيم الطهر والعفاف التي ميزت المرأة السودانية لم ترتبط “بالزي أو الملبس” وإنما كان منبعها هو “التربية السليمة” ولم تبدأ تلك القيم في التراجع إلا بعد أن إزداد التمسك “بالشكليات” ومنها فرض زي ولبس معين وإذا بحثنا بجدية في مدى الإنحرافات العامة التي أصابت المُجتمع لوجدنا أنها تتناسبُ طردياً مع التمسك المَرَضي بهذه الأمور المظهرية وهذا هو مربط الفرس.
غير أنَّ الأمر الأكثر خطراً في هذا الخصوص يتمثلُ في إصرار الحكومة على غض الطرف عن الإساءات التي تصدر عن هذا الواعظ المُتفيقه وأشباهه فهى تترُك لهم الحبل على الغارب ( المنطقة ما بين سنام وعنق البعير) للتحريض وممارسة العنف اللفظي والتجني على الناس دون وجه حق دون أن تُحرِّك ساكناً.
إنَّ بلادنا ستدفعُ ثمناً غالياً بسبب تمدَّد هذا النوع من التفكيرالمتشدد و “الإقصائي” الغريب عن التربة السودانية و الذي يتعارض مع فكرة “التسامح” المتجذرة في الإسلام الذي عرفه أهل هذا البلد منذ مئات السنين.