Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

هل داعش إسلامية ؟

بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

في مؤتمر ميونخ الدولي للأمن الشهر الماضي طلب أحد الحاضرين للندوة التي قدَّمها وزير الخارجية السعودي “عادل الجبير” من الأخير التعليق على قولٍ لأحد أعضاء المجلس الأطلنطي يُفنِّدُ فيه مزاعم الرافضين لوصف “تنظيم داعش” بأنهُ “تنظيم إسلامي” ويقول أنَّ التنظيم في واقع الأمر “إسلامي للطيش” بحسب التعبير السوداني الدارجي.

بذكاءٍ شديد وهدوء دبلوماسي مثالي قال الجبير أنَّنا لا يُمكنُ أن ننسب هذه “الأفعال الإرهابية” التي تقوم بها داعش للإسلام، وأكد أنَّ “الإسلام دين تسامح وحرية” مستشهداً بآيات قرآنية، وأضاف أنَّ “في كل ديانة منحرفين ومرضى نفسيين يحاولون إلصاق أفعالهم بالدين، ويرتكبون جرائمهم باسمه”.

وأوضح الجبير أن هناك مجموعات من ديانات أخرى ترتكب الفظائع باسم الدين ولكن لا أحد يقوم بربط أفعالهم بدياناتهم كما هو حال تنظيم ال “ك. ك. ك” في أمريكا والذي يدعو لقتل الأمريكان من أصول أفريقية ويرتكب فظائع “باسم المسيح” متخذاً من الصليب رمزاً له وتساءل : ( هل يمكن أن نقول أنَّ هذه المنظمة منظمة مسيحية ؟).

وتساءل الجبير أيضاً : ( إذا ما نظرت إلى داعش وقلت أنَّ ما يمارسونه موجودٌ في قرآننا، فكتابكم المقدس يقول العينُ بالعينِ والسنُ بالسن، فهل إذا نفذ أحدكم حرفياً هذا النص نتهم المسيحية كلها بسببه؟ ).

وأضاف الوزير السعودي : ( نتحدث اليوم عن الإسلام وكأن داعش هو من يمثله .. نقول كلا، لأنَّ الحضارة الإسلامية حافظت على تاريخ كل من الرومان واليونان والإغريق، ووفرتها للحضارة الغربية ).

ولفت إلى أنَّ الحضارة الغربية لم تكن لتوجد لولا الحضارة الإسلامية، مضيفاً أنَّ ( الحضارة الإسلامية ربطت الصين مع أوروبا، وبالتالي كانت عالمية ).

وتوجه الجبير بحديثه للحضور متسائلاً : ( إذا كان الإسلام غير متسامح، فهل كان ليحافظ على أرسطو وسقراط ويقدمهما للغرب من جديد ؟ هل كان الإسلام ليربط بين الشرق والغرب ؟ ).

هذه المُرافعة الرائعة عن الإسلام، إحتوت على حقائق لا يُمكن إنكارها بخصوص الحُرية و التسامُح في الإسلام والدور الكبير الذي لعبتهُ الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط، ولكنها أيضاً تضمنت الكثير من “الخلط” و”التبسيط” الذي لا يُمكنُ أن يفوت على الحصيف المُدقٍّق، ذلك لأنها أغفلت الحديث عن “مدارس فقهية” تتصدَّرُ المشهد الإسلامي الآن وتُعتبرُ “الحاضنة” التي خرجت منها الجماعات المتطرفة.

وفي مقدمة هذه المدارس تجىءُ المدرسة “السلفية الوهابية” التي ترعاها الدولة السعودية والتي تعتبرُ من أكثر مدارس الفقه الإسلامي تعصُّباً ورفضاً للآخر، وأشدَّها رفضاً لإعمال “العقل” في قراءة النصوص الدينية الأصلية وفي مقدمتها القرآن.

من أهم الخصائص التي تُميِّز الآيديلوجيا السلفية أنها “نصوصية” طبقاً للرأي القائل بأنَّ النصوص المقدسة ينبغي ألا تُمس، وأن تُفهم فهماً “حرفياً أو لفظياً”، وهى كذلك تتصٍّف بالإنحياز لأنها ترفض بشدة مناقشة مبادئها وتتعصب تجاه أي وجهى نظر أخرى مُخالفة.

بهذا المعنى فإنَّ حديث الوزير الجبير عن أن داعش تقرأ النصوص “قراءة حرفية” هو حديث ناقص، لأنَّ ذلك هو الأساس الذي ينبني عليه “العقل السلفي” الذي يرفض ربط تفسير الآيات القرآنية “بأسباب النزول” ولا يعترفُ “بالتأويل” أو “القراءة التاريخية”.

إنَّ المثال الذي أورده الجُبير حول وجود نصوص في الكتاب المقدس تُحرِّض على العنف من شاكلة “العين بالعين، والسن بالسن” يُمثِّلُ حرجاً “للفقه السلفي” الإسلامي أكثر من كونه مأزقاً للاهوت المسيحي، ذلك لأنَّ المسيحية إستطاعت أن تتغلب بشكل نهائي وحاسم على مُشكلة “القراءة الحرفية للنص” وهو الأمر الذي عجزت أن تصل إليه العديد من المدارس الإسلامية وفي مقدمتها المدرسة السلفية.

صحيح أنَّ الكتاب المقدس فيه الكثير من النصوص التي تدعو للعنف مثل قول السيد المسيح : ” بِعْ ما تملك واشتر سيفاً واتبعنى”، وكذلك مثل دعوة الإله التوراتي للملك شاؤول “الآن أذهب وأضرب عماليق وحرَّموا كل ما له ولا تعف عنهم بل أقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، حملًا وحمارًا”، ولكن لا أحد يقوم بتفسير هذه الأقوال اليوم تفسيراً حرفياً مثلما تفعل العديد من التيارات الإسلامية مع نصوص القرآن.

إنَّ المدرسة السلفية بمُختلف أطيافها تنظرُ لكل من يُقدِمُ على رفض القراءة النصية بأنه يبتدعُ أموراً في الدين لم يعرفها “السلف” أصحاب النموذج المكتمل الذين يجب إتباع تفسيرهم للنصوص حذوك النعل بالنعل.

ومن هُنا فإنَّ تصنيف الوزير السعودي للمنتمين لداعش بأنهم مُجرَّد أشخاص ” منحرفين ومرضى نفسيين” هو تصنيفٌ فيه الكثير من التبسيط و التعسف ذلك لأنَّ جميع المنتمين للآيديلوجيا السلفية يعتقدون نفس إعتقاد داعش في كيفية قراءة النصوص، وقد يختلفون معها في “توقيت وكيفية” تطبيق النص ولكن ليس في فهمهٍ من ناحية جوهرية.

وأمثلة ذلك كثيرة، منها النصوص المتعلقة “بفقه الرقيق” حيث تعتقدُ جميع ألوان الطيف السلفي بأنَّ أحكام “مُلك اليمين” لم تنسخ وبالتالي فإنَّ شيوخ تلك المدرسة لا يتورعون عن إصدار الفتاوى التي تتحدث عن كيفية معاملة العبيد كما أنّ مناهج التعليم الدينية ما تزال تُدرِّس ذلك الفقه العتيق حتى اليوم.

لا يستطيعُ جميع فقهاء المدرسة السلفية الوقوف في وجه داعش وإعلان رفضهم لتطبيقها للمنشور الذي أصدرتهُ حول “سبي ومواقعة النساء المُسترقات” ذلك لأنهم يتفقون مع داعش في مبدأ صلاحية النصوص المتعلقة بفقه العبيد لكل زمان ومكان وإذا هُم حاولوا القول بأنَّ “التاريخ” تجاوز تلك الأحكام فإنهم ينسفون المبدأ الذي يقوم عليه تفسيرهم للنصوص من الأساس.

ليس هذا فحسب بل أنَّ كل فروع المدرسة السلفية يعتقدون في مرويات السنة النبوية التي تستخدمها داعش في تبرير ممارساتها العنيفة وفي بناء وتشييد نظرية الدولة حول “نبوءات” آخر الزمان في كتب الحديث.

قد إستشهد الوزير السعودي بالآية الكريمة (لكم دينكم ولي دين) لتوضيح مدى التسامح في الإسلام، ولكنه نسى أنَّ التفسير الحرفي للنصوص جعل بعض التيارات السلفية تقول بأنَّ “آية السيف” قد نسخت جميع الآيات التي تتحدث عن حرية الإعتقاد، وكذلك فإنَّ جميع التيارات السلفية تتفق مع داعش في “قتل المرتد” إستناداً على أحاديث نبوية مما يُضعف حُجة الجبير في إثبات التسامح الكبير الذي ينطوي عليه الإسلام.

أمَّا أكثر النقاط التي بدا فيها “التخليط” واضحاً في حديث الوزير السعودي فقد تمثلت في إشارته للدور الذي لعبته الحضارة الإسلامية في حفظ وتطوير التراث الفلسفي اليوناني، وفي إعادة تصدير “أرسطو وسقراط” للغرب والتي لولاها لما تمكنت أوروبا من الخروج من عهود الظلام إلى عصور التنوير والنهضة.

من المعلوم أنَّ الإنفتاح “العقلي” الأكبر والتواصل مع “الآخر” نهض في التاريخ الإسلامي على أكتاف مدارس”الكلام” وفي مقدمتها “المعتزلة” حيث عُرف القرن الرابع الهجري بأنه قرن التوهج الحضاري لدولة المسلمين فقد شهدت حركة الترجمة تطوراً كبيراً في عهد الخليفة “هارون الرشيد” الذي توسع في ترجمة كتب الطب و الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية .

ثم جاء من بعده الخليفة (المعتزلي) المأمون الذي دعم الحركة العلمية، وأمر بترجمة الكتب في مختلف الفنون والعلوم ، وكان يُعطي وزن ما يُترجم ذهباً مما أدى الي توافد العلماء والمترجمين ورواج صناعة العلم والأدب والفنون والنقل والترجمة.

إنَّ المدرسة السلفية الوهابية تُعتبرُ من أكثر المدارس الفكرية الإسلامية إنغلاقاً و محاربة “للعقل” وعداءاً للفلسفة وللعلماء المتكلمين، حيث حكمت بتكفيرهم واتهمتهم بالزندقة وهى تضع كُتب الفلسفة في خانة السحر والشعوذة والدجل، والفلسفة لا تُدرَّس في المدارس السعودية بإعتبارها “ضلالٌ مُبين”.

ولتأكيد قولنا هذا فإننا نتساءلُ عن حكم السلفيين على أبي الكيمياء “جابر بن حيّان” أوّل من حضّر حامض الكبريتيك واكتشف حامض النتريك وكلوريد الزئبق ؟ وما هو حكمهم علي الفيلسوف “ابوبكر الرازي” الذي ترجمت أوروبا كتبه الأساسية في الطب للغة اللاتينية ؟ وما هو حكمهم علي الفيلسوف والموسيقى العظيم “الفارابي” صاحب كتاب (الموسيقى الكبير) والمعروف في أوروبا باسم “فاريبوس” ؟

وما هو حكمهم علي أعظم شارحي أرسطو، فيلسوف قرطبة وقاضيها الأشهر “أبو الوليد بن رشد” الذي ظلت كتبهُ تُدرَّس في أوروبا من القرن الثالث عشر وحتي السادس عشر ؟ وما هو حكمهم علي الكندي والشيخ الرئيس “إبن سينا” وأخوان الصفا وغيرهم من رموز النهضة الحضارية الاسلامية ؟

لذلك فإننا نقول للوزير الجبير أنَّ الذين حفظوا “أرسطو وسُقراط” وأعادوا تصديرهم للحضارة الغربية ليسوا هُم من يتصدرون المشهد الإسلامي اليوم والذين تشملهم الدولة السعودية برعايتها المادية وتدعم أفكارهم التي إنتشرت في كل بلدان العالم الإسلامي، فهؤلاء الأخيرون هم من مهَّدوا الطريق لظهور داعش وأخواتها.

من المؤكد أنهُ لا يجوز القول بأنَّ داعش تمثل الإسلام كما يدَّعي البعض ولكن في نفس الوقت يصعُب جداً تصنيف المتعاطفين معها بأنهم مُجرَّد “منحرفين ومرضى نفسيين” فهؤلاء الأخيرين لم يهبطوا من السماء بل خرجوا من رحم المدارس الفكرية الإسلامية التي تلغي “العقل” وتساند التفسير الحرفي للنصوص وتستند إلي التراث الفقهي العتيق في تأسيس علاقتها مع “الآخر” المُختلف.

قد لعبت التوجهات الدينية المرتبطة بالآيديولوجيا السلفية دوراً مهماً للغاية في تشكيل منظومة الأفكار التي أدت لبروز وتنامي ظاهرة العنف الأصولي الإسلامي والتي تُوِّجت بقيام تنظيم “الدولة الإسلامية” داعش.

وبالتالي فإنَّه يستحيل القضاء على التنظيمات العنيفة بواسطة العمليات الأمنية أو العسكرية ذلك لأنَّ أفكارها موجودة و تنتشرُ بقوة عبر مؤسسات التعليم الحكومي النظامي أو التعليم الديني أو عبر قنوات التعليم غير النظامي المُتمثلة في دُور العبادة (المساجد) وأروقة جماعات التدين السياسي، وعبر وسائل الإعلام والقنوات الفضائية وبرامج الفتوى وغيرها.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *