Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

الجَهْل النشِط

بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

الجهلُ مُصيبة, ولكنهُ – في قولٍ للشاعر الألماني غوتة – يتحوَّلُ إلى آفةٍ لا تُضاهيها آفة عندما يصيرُ نشطاً, وهذا هو حال صاحبنا الذي أصبح سياسياً و ناشراً وكاتباً في “زمن التيه”, يُدبِّج الهُراء (الكلام بلا معنى) و يُحرِّض و يُوجِّهُ الإساءات دون وجل ويكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتبَ عند الله كذاباً.

إنتاشنا بكلامهِ البائس الأجوف عدة مرَّات في السابق, فأعرضنا عنهُ بطيبِ خاطر, ولكنهُ – كصاحبهِ الآخر في الغفلة – ظنَّ أنَّ صمتنا عن تُرَّهاتهِ نابعٌ عن ضعفٍ وقلة حيلة فتمادى في العدوان علينا, وما درى المسكينُ أننا لم نشأ أن نسلقهُ بألسنةٍ حداد وآثرنا العمل بالقاعدة الذهبيَّة : من سكت عن جاهلٍ فقد أوسعهُ جواباً, وانصرفنا في حشمةٍ ووقارٍ لمُخاطبة هُموم أكبر و خطوب أخطر تُحيقُ بالوطن وبأهلهِ.

أمَّا وقد طفحَ الكيلُ ولم يبق في قوسِ الصبر منزع فإنني أستأذنُ القارىء الكريم في ردٍ مُقتضبٍ غايتهُ تفنيد الأكاذيب وإعلام الصديق الجاهل أنني لستُ بالذي يتراجع اذا هُوجم, ولا بالذي يلين اذا خُوشن, و لا بالذي ينزوي اذا قُوبل بالتوَّقُح, إنما هى صفعةٌ بصفعات, ورميةٌ برميات اذا استطرد اللجَّاجُ حتى يعودَ إليه رشاده :ولا يغرُرك طول الحُلم مني فما أبداً تصادفني حليماً.

كتبتُ الأسبوع قبل الماضي كلمة بعنوان “على عثمان والمزايدة بالشريعة” أنتقدُ فيها تصريحاتٍ للأخير قال فيها إنَّ وضع الشريعة في الأدراج بعد إتفاق “الميرغني-قرنق” هو الذي دفعهم للقيام بالإنقلاب العسكري في يونيو 1989 , وما ظننتُ أنَّ تلك الكلمة ستصيبُ صاحبنا بالإضطراب و التوتر, وتجعلهُ يضربُ في الفلواتِ أضلَّ من الضبِّ الثكلان, حيث قام بكتابة ثلاثة أعمدة تحت عنوان “إسلام أمريكاني” ملأها بالتحريض والإفتراء على كاتب هذه السطور.

لا يعنيني في هذا المُقام التعليق على كل ما جاء في تلك الأعمدة, فهى لا تستحق التعليق, ولكنني سأقوم بتوضيح ثلاثة نقاط مُهمَّة سعى من خلالها صاحبنا لتمرير معلوماتٍ مضللة لا تمتُ للواقع بصلة, هدفها الرئيس هو “إغتيال الشخصية” وليس النقد الصحيح الهادف لتبيان الحقائق.

كتب صاحبنا يصِفُ شخصي الضعيف بالقول : (سخّر عمرهُ كلهُ للحرب على الشريعة الإسلامية فما أتفههُ من هدف وما أرذله من دور).

هذه العبارة المفتاحيِّة – والتي كتبها صاحبنا دون أدنى وعي منه – تؤكد ما ظللنا نقوله دوماً عن آليات عمل خطاب الإسلام السياسي, والتي ذكر منها المرحوم “نصر أبوزيد” في كتابه القيِّم “نقد الخطاب الديني” خمسة آليات من بينها آلية “التوحيد بين الفكر والدين، وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع”, فهم يعتقدون أنَّ إنتقاد “فهمهم الخاص” للدين يُمثل حرباً على الإسلام, وخطورة هذا الفهم تتمثل في أنَّهُ يؤدي في خاتمة المطاف لأن يظنَّ صاحبه بأنهُ يتحدَّث بإسم الله.

يُدرك جميع قُرَّاء مقالاتي من أصحاب الحس السليم أنَّني لم أُنتقد في يومٍ من الأيام الإسلام “الدين”, وهذه من البديهيات لأنني مسلمٌ أعتزُ بإسلامي ولستُ في حاجةٍ لشهادةٍ من أحد , ولكنَّني سخرَّت قلمي للتصدي “لفهم” مُعيَّن للإسلام وللشريعة, وهو الفهم الذي يسعى لإستغلال الدين “مطيَّة” لتحقيق مآرب الدنيا.

ومن هُنا فإنَّ إنتقادي لتصريحات الأستاذ على عثمان لم يكن إنتقاداً “للدين” ولا ينبغي له, بل كان إنتقاداً “لشعار الشريعة” الذي ظلت ترفعه جماعة “الأخوان المسلمون” وتُزايد به على بقية القوى السياسية في السودان, وقد أوضحتُ في ذلك المقال أنَّ ذلك الشعار “غامض” وغير قابل “للتعريف الدقيق” و لا يحملُ مضموناً حقيقياً يُمكن الإمساكُ به.

الآلية الثانية المُرتبطة بآلية “التوحيد بين الفكر والدين” إرتباطاً وثيقاً هى آلية “اليقين الذهني والحسم الفكري القطعي”, وهى التي تجعل أصحابها يُسارعون بنزع غطاء الدين عن خصومهم تمهيداً لتكفيرهم دون هوادة ، فأصحاب ذلك الخطاب لا يحتملون “الاختلاف” ويلجأون للحسم الفكري بإعتبار أنَّهم يُمثلون “رأي الدين”, وهذا هو بالضبط ما سعى له صاحبنا في أعمدته الثلاثة.

النقطة الثانية في “حديث الإفك” الذي ساقه كاتب التيه تُمثلُ “كذبة” صريحة وهى إدعاؤه بأنَّ السفارة الأمريكية قدَّمت لكاتب هذه السطور دعوة لزيارة أمريكا ضمن برنامج زيارات الصحفيين, ثم ذهب في تفصيل الزيارة بقوله ( وأمضى فيها (أمريكا) شهراً أو نحو ذلك، متقلِّباً في نعيم فنادقها المخملية ومتجولاً بين وزاراتها ومؤسساتها بما في ذلك بالطبع البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ومقر السي آي أيه، ولم يستثنِ برنامج الزيارة المُعَد بعناية فائقة مواقع الإبهار مثل مركز التجارة الدولي وبورصة وول استريت وغيرها من ناطحات السحاب في حي مانهاتن وشارع برودوي الشهير في قلب نيويورك ).

هاهو الرَّجل الذي يدَّعي “الإيمان”, يكذبُ ويتحرَّى الكذب دون أن يرمش له جفن, وينسجُ هذا السيناريو التفصيلي لزيارةٍ خيالية حتى يوهم القارىء بأنَّ معلوماته مؤكدة ولا يغشاها الشك. الحقيقة الدامغة هى أنني لم أتلق أي دعوة من السفارة الأمريكية لزيارة بلاد العم سام, ولم أقم بزيارة أمريكا ضمن أي برنامج للصحفيين.

الهدف الرئيس من الحديث أعلاه لصاحبنا هو “التخوين” ومحاولة الإيحاء بأنَّ كلَّ من يُخالف أو ينتقد أفكار “الإسلام السياسي” فهو بالضرورة “عميلٌ” لأمريكا “الصليبية الصهيونية”, وهذه أسطوانة مشروخة ما عادت تؤدي وظيفتها التي كانت تؤديها في الماضي, فقد وعى الناس مآرب المتاجرين بالدين بعد أن جرَّبوا حكمهم, “وفي التجاربِ بعد الغيِّ ما يزعُ” على قول شيخنا المتنبىء.

النقطة الثالثة في حديث صاحبنا لا تختلف كثيراً عن سابقتها, فقد حاول أن يوحي بأنَّ كاتب هذه السطور “شيوعي ماركسي”, فكتب يقول : ( لا غرو أن يزيد ذلك تعلق (رفيقنا)، الكاتب الأسبوعي بصحيفة (السوداني)، بماما أمريكا التي لطالما عشقها شأن قبيلة اليسار من تلاميذ ماركس الذين تحولوا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي(العظيم) لخدمة عدوتهم القديمة – وكر الرجعية والامبريالية -).

الحديثُ أعلاه يُمثل أيضاً محاولة بائسة “لكشف ظهر” كاتب هذه السُّطور بدمغه بالإنتماء للفكر الماركسي, وأقول أولاً أنَّه لا علاقة لي بالحزب الشيوعي أوأي حزب ماركسي, وليس ذلك إنتقاصاً من قدر الحزب الشيوعي السوداني, وهو حزبٌ عريق, ولكنهُ فقط توضيحاً للحقائق, فإنتمائي الحزبي يعرفهُ كل من زاملني في سنوات الجامعة, ويدركهُ كل أبناء جيلي في الأحزاب السودانية, وهو إنتماءٌ غير مخفي أُعبِّر عنه في الكثير من المقالات التي أكتبها, وثانياً أقول أنَّ أهل الإسلام السياسي هُم أكثر من “يُحجِّون” لأمريكا ولأوروبا بحثاً عن العلم و الحرية وهرباً من الإضطهاد, ودونك تجارب سيد قطب والخميني والغنوشي والترابي وغيرهم.

وهذا الإفتراء كُنَّا قد عانينا منهُ كثيراً في سنوات الدراسة و الطلب, فكل من يُخالف أفكار ومواقف تنظيم “الإتجاه الإسلامي” كان يُوصف بالشيوعي, ومع ذلك لم تفتر همَّتنا ولا تراجعت عزيمتنا عن فضح مخازى ذلك التنظيم بجسارة عرفها عنَّا جميع من عاصرونا في ذلك الزمان بمن فيهم بعض الأخوة من الإتجاه الإسلامي الذين كانوا “شرفاء” في خصومتهم الفكرية والسياسية.

وفوق هذا وذاك, فلو كانت العلاقة بالشيوعية تُعتبر سُبةً أو شيئاً سالباً يؤثر في الإنتماء الديني للشخص فقد كان من الأجدر بصاحبنا أن ينصح “أخوانه” في الحزب الحاكم الذين يُحجِّون “لبكين” كل عام, ويحثَّهم على مراجعة علاقة “التوأمة” التي تربط حزبهم بالحزب الشيوعي الصيني, وهو بالضرورة حزبٌ لم ينشأ في “يثرب” ولم يكن أعضاؤه من أحفاد الصحابة الذين شاركوا في “بيعة الرضوان”, بل هو أقوى وأكبر حزب شيوعي في العالم اليوم.

إنني أسعى من خلال الكتابة لمخاطبة “العقول” وليس تهييج “الغرائز”, وقد ألزمتُ نفسي بهذا النهج الصارم الذي نذرتُ له سنوات العمر درساً وتحصيلاً وإطلاعاً عاماً بهدف الإستزادة من المعرفة حتى شابت المفارق قبل أوانها وأعتلَّ البصرُ, وليس البصيرة, وما سعيتُ في يومٍ من الأيام كما قال الصديق الجاهل “للترطيب” والتقلب في “الفنادق المخملية” فأنا – ولله الحمد والمِنَّة – لم “أشبع بعد جوع”, وقد ظلت الكلمة التي أكتبها تنبعُ ممَّا يُمليهِ علىَّ “ضميري” الحُر ولا شىء غيرهُ.

وما كنت لأهدر زمن القارىء الكريم بالكتابة في هذا الموضوع لولا أنني أردتُ إستغلال الفرصة لكشف الخطل والتسطيح الذي يُعاني منه بعض من باتوا يؤثرون في “الرأي العام” في هذا الزمان العجيب, زمان التراجع الذي تساوت فيه الألقاب بين صاحب “الفجر”عرفات محمد عبد الله, وصاحبنا هذا, فتأمَّل !

قد أعتدتُ على مناقشة “الأنداد” من أصحاب الفكر المُخالف, كما أنني أتعمَّد تجاهل كل أصحاب الخواء من “قصار التيلة” الفكرية, مثل صاحبنا هذا, والذي لا أعتبره نداً لي بأية شكل من الأشكال, فبضاعته هزيلة, أسها الهَزَرْ وركوب الهوى وأساسها التجنِّي والتحريض, وقد نصحني كثيرٌ من الأخوة الأفاضل بتجاهل الرد عليه, ولكنَّ ضرورة توضيح هذه النقاط هى ما دفعتني لكتابة هذه الكلمة .

ولولا الضرورةُ ما جئتُكم … وعند الضرورةِ يؤتى الكنيفُ.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *