في انتظار السلام …
بقلم: عمار عوض
[email protected]
سرحت بخاطري حول يوم امس ، التاسع من يناير، الذي غير حياة السودانيين، والقارة الأفريقية بأكملها، وهو اليوم الوحيد الذي لم أسجل تاريخه في مذكرة الهاتف ليذكرني به، كما جرت عادتي في أحداث وقضايا وتواريخ؛ بعضها عام، وبعضها خاص.
أذكر أنه في هذا اليوم الموعود تسمرت أمام شاشة التلفاز، وأنا لا أكاد أصدق نفسي بعد؛ (كبرت كراعي من الفرح نص في الأرض نص في النعال) ونسيت همومي الشخصية، وجلسنا مع رفاق وأصدقاء أعزاء نتابع النقل الحي لتوقيع (الفرح).. أذكر أن ذلك كان في فندق (هيلتون بورتسودان)، حيث كان يعمل أحد الرفاق(مهاجر) وهو اسم على مسمى هو الآن بعيد بعد أن هده انقسام الجنوب والحرب الجديدة في مناطق أهله وأسرته.
شاهدنا التوقيع، وخرجت أتجول في طرقات المدينة.. رأيت الناس تزغرد عيونهم بالفرح،.. كان الجميع في الشارع طيباً سمح النفس، يهنئون بعضهم البعض (بجا ونوبة وفور ودناقلة وجنوبيين)، وهم غير مصدقين أن (الدكتور) سيأتي إلى الخرطوم، وأن الحرب ذهبت بلا عودة، وما دروا أن الشيطان في التفاصيل، كما كان يردد -رحمه الله- دوماً.
كنا لحظتها لا نظن أن الحرب يمكن أن تعود مرة أخرى، ولكنها و(الترابة في خشمنا جميعا) عادت في دولة الجنوب ، الذي فارقنا ومضى لحال سبيله.. دعك من الحرب؛ كنا يومها لا نظن أنه في يوم من الأيام سيكون السودان بلا جنوبيين، ولكنه صار، وأهل المدينة التي أحب، والتي ترقد بغنج على نهر الجور (واو) نار (واو) نور (واو) ماج ، صار أهلها يذهبون إلى جوبا ليحصلوا على (تأشيرة دخول) لينسربوا في دروب (الحاج منفى).. إيييه.. (دنيا تتغير ودنيا أدمنت إضاعة الفرص).
ليس هذا فحسب يا صاح، بل إن القوم لم ينصتوا إلى حديث الأستاذ عثمان فضل الله، رد الله غربته، عندما كتب في صحيفة (السوداني) بعد عودته من النيل الأزرق، سلسلة مقالاته الموسومة بـ(رأيت الحرب)، ولم ينتبه له أحد، وعادت الحرب إلى جنوب كردفان والنيل الأزرق مثلما تنبأ، لأن الناس في بلدي يعدون مثل هذا القول (كلام جرايد)، مع أنه أبقى وأفيد لو يعلمون. هل نحن نعيش في مسرحية عبثية كتبها (صمويل بيكيت)؟ كيف تسرب منا هذا (السلام) وفرطنا في كتابه؛ ليس في شيء واحد بل في كل شيء؟ ألأننا قوم غالب صنعتهم الرعي وليس الزراعة، كما كان يقول صديقي بهاء الدين صديق: (غالب صنعة أهل السودان الرعي، وهي مهنة تعتمد على الحظ في تسقط مناطق سقوط المطر والمرعى، فهي مهنة ليس فيها كبير تخطيط وعناية بصروف الأيام.. لو كنا أهل زراعة كان سيكون التدبير والتخطيط منعكسا على ضروب حياتنا)، ولربما؛ ما ضاع السلام منا..!
عدت بخاطري إلى ذلك الرهق النبيل، ونحن نكابد متابعة الصحف في (كشك الجرائد) في “بورتسودان”، لمتابعة أخبار التفاوض الذي ارتفع إيقاعه منذ منتصف شهر يونيو 2004 بين الحكومة السودانية، ممثلة في الأستاذ علي عثمان محمد طه، والدكتور الراحل قرنق دي مبيور، في ضاحية نيفاشا، وبعد أن أتصيد عناوين الصحف، أحرص على شراء صحيفة (الصحافة)، لوجود الزميل عارف الصاوي، وعلاء الدين بشير في مقر التفاوض، كما أتابط نسختي من صحيفة (الأيام) حيث الزميل مصطفى سري وعفاف أبوكشوة، و(الأيام) مدرسة الخبر الصادق، والتحليل الرصين، كما درج الديمقراطيون في (بورتسودان) على شراء صحيفة (الأيام) حبا وكرامة، وواجبا أخلاقيا، وسعيا للمعرفة والخبر الصحيح.. كيف لا، وعلى رأسها أستاذ الأجيال محجوب محمد صالح، نفعنا الله بجاهه وأن يمن الله عليه بحضور السلام (الثاني)، مثلما منّ الله على شاعرنا الراحل أحمد فؤاد نجم وأوقفه في ميدان (التحرير) ليشهد منافع للناس.
نهضت وظهري ينوء بعصبة الذكريات هذه، وفتحت صفحتي في (فيس بوك)، ويا للهول..!! وجدته أرضا يبابا من ذكريات أعظم اتفاقية وجهد بشري لإنهاء حرب، استمرت لأكثر من عشرين عاما..! صرت أقلب صفحات أصدقائي على الموقع، بعد أن نالني اليأس من (التايم لاين)، وجدت أصدقائي من السياسيين في شطري السودان بعيدين جدا عن (السلام)، وللمفارقة وجدتهم يعالجون نفس القضايا التي قتلناها بحثا في مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية، وعلكتها الطبقة السياسية الحاكمة في الخرطوم في مؤتمرات الحوار (الوطني).
سياسي يتحدث عن لقاء مع وزير قطري لبحث سلام دارفور في باريس، وتعود بي الذاكرة إلى هتاف الجموع في الساحة الخضراء، بعد أن كشفت الخرطوم عن زينتها التحشدية لاستقبال قرنق ديمبيور وهتاف كبير يدوي في الأركان (دارفور يا دكتور)، ومضى الدكتور إلى ربه، وبقيت دارفور غصة في الحلق.
سياسي آخر يعد الناس بأنه سيصدر بيانا في الساعات القادمة للحديث عن أوضاع السكان في أحد مواقع الحرب في السودان، ما قد كان وما سيكون. وسياسي آخر تحمل المواقع خبره عبر الشبكة العنكبوتية يجادل أن (نثريات) حوار (الوثبة) إذا لم ترفع ستهدد بانهيار الحوار في قاعة الصداقة، و(إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت).
وسياسي آخر مهموم بالسلام العادل، أرسل لي عبر خدمة التراسل الفوري (واتساب) بعد أن انتصف اليوم بيانا للمتحدث باسم ملف (السلام) في الحركة التي هو في قيادتها، ولعمري هي لفتة بارعة أن يكون هناك متحدث باسم (السلام)، يبلغنا بأن جلسة أخرى (غير رسمية)، ستعقد لحركتهم مع الحكومة السودانية وأنهم يرحبون بهذه الدعوة وهو يقول: “نؤكد ترحيبنا بأي دعوة للبحث عن السلام فهو خيار إستراتيجي لنا، ونجدد ترحيبنا بهذه الدعوة، ونؤكد على استعدادنا للمشاركة”.. “خشمك فيهو اللبن”.. صحيح أن البيان يتحدث عن ضرورة انعقاد “مؤتمر تحضيري” للتمهيد لـ “مؤتمر دستوري” والأخير من شدة ما تردد في أفواه السودانيين كاد يصير كـ(العنقاء) لكن لا حياة مع اليأس، ما دام الناس يجلسون ويتحدثون (رسمي) او(غير رسمي) حتما سيصلون إلى حل وسط، إلا إذا كان حديثهم كلام والسلام..!! مع “إنو نحن ناس بنعيش حياتنا بالنية السليمة”.
حدثت نفسي أن الأمر سيكون أفضل في صفحات أصدقائي من الجنوبيين، فهم الذين من أجلهم أقيمت صلوات السلام من المسلمين والمسيحيين، عند توقيع الاتفاق في مثل هذا اليوم، 9 يناير، ولكن وجدت حالهم يغني عن سؤالهم، فهم محتفون بـ(نسب تقاسم السلطة والثروة) بعد حرب ضروس، هلك فيها الزرع، والحرث، والنسل، واعتذار رئيس البلاد عن هذه الحرب التي وصفها بأنها (عبثية). ألم أقل لكم إنها تكاد تكون مسرحية عبثية كتب فصولها صمويل بيكت كما مسرحية (في انتظار غودو) الذي ننتظره جميعا ليحل مشاكلنا ويمنحنا السلام؟
بعد 11 عاما من توقيع اتفاق السلام و4 سنوات من انفصال الجنوب، نجد أهله يعيدون اختراع (عجلة نيفاشا)، بقسمة السلطة والثروة، ويتحدثون عن النائب الأول الذي سيضحي ويتنازل عن منصبه للنائب القادم من (الغابة)، وعلى كل يحمد لشعب جنوب السودان أنهم أعادوا اكتشاف (العجلة)، التي هي ليست تلك التي من الشيطان. على الأقل هم إن صلحت النوايا قد أعادوا “السلام”، و(الدور والباقي علينا نحن)، هل من حقنا أن نحلم من جديد بـ(السلام)؟ وأن يسير الراعي من سنار إلى مراعي (بوط)، وهو لا يخاف سوى الذئب على غنمه (هو النيل الأزرق فيها ذئاب؟) ذئاب الحرب التي نسمع قعقعة سنانها في الدمازين أفظع لو تعلمون. اللهم منك السلام، وإليك السلام، فعوضنا خيرا في “السلام” الذي أضعناه، وتسرب من بين أيدينا، واتخذ طريقه في الفراغ سربا.