على عثمان والمزايدة بالشريعة : مفيش فايدة يا صفية
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
أوردت صحف الأسبوع الماضي حديثاً لنائب رئيس الجمهورية السابق، علي عثمان محمد طه في لقاء بكلية التربية عطبرة دافع فيه عن إنقلابهم على السلطة في عام 1989، وقال فيه أنَّ ( وضع الشريعة داخل الأدراج هو السبب وراء خطوتهم لاستلام السلطة عقب اتفاقية “الميرغني- قرنق”).
لا غرابة في أن يستمع المرءُ لمثل هذا التبرير البائس لإنقلاب يونيو العسكري، خصوصاً وهو يصدرُ عن شخصٍ أدمن إستخدام كلمة “شريعة” كمشجب لتبرير الخيبات الكثيرة التي صاحبت مسيرة حُكم الأخوان المسلمين للسودان الممتدَّة منذ أكثر من ربع قرن للزمان.
ففي أعقاب إنفصال جنوب السودان في عام 2011 وقف ذات الشخص مُمنياً الشعب السوداني “بجمهورية ثانية” يسود فيها حُكم الشريعة و قال : (سنحكمُ بالشريعة ونقطعُ الطريق على الفتنة) و(سنمشي بين الناس بإقامة شرع الله وإحياء سنن دينه) و(سنقيمُ نظاماً إسلامياً نُحكِّم فيه شرع الله).
حينها قلنا أنَّ الرَّجل قد فقد توازنه وأصابه الدوار بسبب الورطة المسماة “نيفاشا” التي أدخل فيها البلاد والتي كشفت ضعفه البائن ومحدودية قدراته كمفاوض، فلم تؤدي فقط لإنفصال الجنوب، بل تركت الكثير من القنابل الموقوتة ( مثل أبيى)، ولم توقف الحرب التي إنفجرت مرَّة أخرى في جنوب كردفان والنيل الأزرق.
قلنا له أننا إعتقدنا أنَّ الشريعة التي تقصدونها ظلت مُطبقة في بلدنا منذ عام 1991 عندما أجيز القانون الجنائي وقلتم لنا في حينها أنَّ ذلك القانون أرجع الأمة لجذورها الحضارية، ولحاكمية الله، وأبلغتمونا أن إستقلال السودان الحقيقي قد تحقق في ذلك العام.
وكذلك ذكرَّناه بأننا إعتقدنا أنَّ الشريعة كانت مُطَّبقة منذ تسعينيات القرن الماضي عندما كان النظام وأشياعه يعزون أسباب فشل السياسات الحكومية للعقوبات الإقتصادية والحصار السياسي الذي فرضه الغرب “الصهيوني/ الصليبي” على السودان لأنَّه طبَّق الشريعة وأصبح دولة رسالية !
وقد صدَّقنا كذلك أنَّ الشريعة كانت مُطبقة طوال أكثر من عقدين من زمان حكم الإنقاذ بعد أن إختفت المواكب والمسيرات المليونية التي كانت تسيِّرها “الحركة الإسلامية” مطالبة بتطبيق “شريعة سريعة”، وبعد أن أصبحت بلادنا قبلة “لأخوة العقيدة” من جميع بلاد العالم بإعتبارها البلد الذي شهد عودة الشريعة وحكم الدين.
واليوم يعود الرَّجل لإستخدام ذات الأسطوانة المشروخة، ويقول أنَّ وضع الشريعة “داخل الأدراج” قد دفعهم لتنفيذ الإنقلاب، وهو مُبرِّرٌ واهٍ يُغالط حقائق الواقع التي يعرفها الجميع و إعترف بها عرَّاب النظام الدكتور الترابي في حواره المطوَّل مع “عزام التميمي” عندما قال أنهم أنشأوا أول خلية داخل الجيش مباشرة عقب عقد المصالحة السياسية مع نظام النميري في عام 1977.
إنَّ الوصول للسلطة بأية مُبرِّر ظلَّ هو “الهدف الغائي” للأخوان المسلمين في كل زمان ومكان، وهو الأمر الذي رسختهُ منظومة الأفكار الخاطئة التي قامت عليها الجماعة، والتي تزرعُ في عقول الأعضاء أنهم يملكون الحق المطلق والحقيقة الكاملة، وأنَّ “مدد السماء” سينزلُ عليهم بمجرَّد الإستيلاء على الحكم.
لو كان كاتب هذه السُّطور في مكان الأستاذ على عثمان لما تجرأ على ذكر إتفاق “الميرغني-قرنق”علي لسانه في أية مناسبة، لأنهُ حتماً سيذكرهُ بعجزهِ وفشلهِ الشخصي في “نيفاشا” وهو الفشل الذي لا شك أنه أصبح وصمة يُعايرهُ بها حتى “إخوانه” داخل الحزب و الذين طالب أحدهم مؤخراً بمحاكمته بتهمة “الخيانة العظمى” لتوقيعة على ذلك الإتفاق.
قد مثَّل إتفاق “الميرغني-قرنق” خطوة هامة في طريق إإنعقاد المؤتمر القومي الدستوري، الذي كان سينقل البلاد من حالة الحرب وعدم الإستقرار إلى السلام الدائم، ولم يتطرَّق الإتفاق من قريبٍ أو بعيد لقضية “تقرير المصير” التي قبل بها و سوَّقها نظام الإنقاذ لأول مرَّة بواسطة كبير مفاوضيه على الحاج في فرانكفورت في 1991.
فماذا فعل على عثمان بعد أن إنقلب على الحكم الديموقراطي و أخرج الشريعة من الأدراج ؟
قاد – هو وإخوانه – حرباً جهادية طويلة بإسم “الشريعة” أُزهقت فيها أرواح الآلاف من الشباب الذين وُعدوا بزواج “الحور العين” في الجنَّة، وفي خاتمة المطاف ذهب لمفاوضة قرنق “الصليبي الصهيوني” الذي تفوّق عليه في كل شىء وإستطاع بذكاء وبراعة أن يسوقه لتوقيع إتفاق حقق فيه جميع مطالب حركته الشعبية.
قد كان الاستاذ على هو المسؤول الأول عن ملف الحُكم في البلاد عندما ذهب الترابي للسجن “حبيساً”، وتحت سمعه وبصره وربما بتوجيه منه وقعت مجاذر “الخدمة المدنية” التي فُصل فيها آلاف المواطنين من وظائفهم ظلماً بحجة “الصالح العام”، فهل كان ذلك هو الغرض من إخراج “الشريعة” من الادراج ؟
كان على عثمان كذلك هو المسؤول الحزبي الأول عندما أُستبيح “جهاز الدولة” ومواردها بالكامل لمنسوبي التنظيم وأُبعدت جميع الكفاءات الوطنية تحت شعار “التمكين” البغيض، حتى مات بالحسرة من مات وهاجر مئات الآلاف لأنَّهم أصبحوا غرباء في بلدهم لا لشىء سوى عدم انتماءهم لسلطة الإنقاذ، فهل أخرجت الشريعة من الأدراج لهذا الغرض ؟
ماذا خلقت الشريعة التي أخرجها على عثمان من الأدراج سوى تلك الطبقة من “الأثرياء الجدد” الفاسدين الذين يتفاخروُن على بعضِهم البعض بعددِ الزوجات والعربات والقصور الفارهة، بينما الغالبية العُظمى من أبناء الشعب ترزحُ في نيران الفاقة والجهل والمرض ؟ شريعة الإنقاذ جعلت من الدولة ومواردها غنيمة للمُوالين والتابعين وتابعي التابعين بغير إحسان ، و حَرَمتْ وشرَّدت كل من خالفها وعارض تجربتها ورأى فيها تشويهاً للدين، وتدميراً لقيمه الجوهرية.
قد أوجدت شريعة الإنقاذ طبقة من رجال الكهنوت جعلت من الدين تجارة رابحة ومصالح شخصيِّة، حِرفة وصنعة يؤجرون عليها، يتكسبُّون بالقرآن وبإصدار الفتاوى، ويرتزقون من المناصب العُليا في المؤسسات الدينية التي تناسلت دون حاجةٍ حقيقيةٍ لها في المجتمع.
قد أدى إخراج الشريعة من الأدراج إلى بعث الروح العنصرية والقبلية البغيضة بصورة مخيفة بعد أن كان المجتمع السوداني قطع أشواطاً طويلة في طريق التحديث والإنصهار القومي، وصار أبناء دارفور يهاجرون إلى دولة الكيان الصهيوني طلباً للأمن والطمأنينة و هرباً من جحيم الموت والقتل في دولة الشريعة !
يصعُب جداً على الشخص “المؤدلج” الإعتراف بالخطأ، وذلك بحكم تنشئته و تكوينه النفسي والفكري، وهو الأمر الذي يجعل قضية تصحيح الأخطاء أمراً مستعصياً بل تكادُ أن تكون مستحيلة داخل المنظومات الآيدولوجية المختلفة، وبالتالي فإنَّ “الفشل” يكون هو مصيرها الحتمي متى ما إستولت على السلطة.
ذلك بعكس المنظومات الأخرى التي لا يتربى أعضاؤها على أنهم حلفاء “الصواب الدائم”، فهذه تستطيع دوماً تصحيح أخطاءها وتقويم مسارها وبالتالي يُمكنها التغلب على مشاكلها ولا يُكتب عليها الفشل الحتمي.
قد تبدى جلياً لكل صاحب بصر وبصيرة الفشل الذريع الذي مُنى به المشروع الذي طبقه الأستاذ علي وإخوانه في السودان، وكان من المؤمل أن يستخلص أهل الحُكم الدرس الأهم من هذا الفشل والمتمثل في أنهم “بشر” عاديون وليسوا رسلاً من السماء، وأنَّ عليهم التوقف نهائياً عن المزايدة بإسم “الشريعة والدين” بعد ما كشفته تجربة الحكم من فساد وصراع على السلطة والمغانم الدنيوية فاق كل التصورات.
قد شبَّه كاتب هذه السطور في مناسبة سابقة شعار “الشريعة” الذي يُزايد به الأستاذ على بالإختراع المُسَّمى “الفنكوش” في فيلم “واحدة بواحدة” لعملاق الكوميديا عادل إمام، حيث إبتكر بطل الفيلم سلعة لا وجود لها في أرض الواقع، ومن ثمَّ شرع في الترويج لها عبر حملة دعاية قويَّة ومُكثفة، ولدهشتهِ وجدت سلعتهِ الوهمية قبولاً وإحتفاءً كبيراً من قبل الجمهور الذي إستمات في الحصول عليها دون أن يعرف ماهيتها، أو الغرض الذي صُنعت من أجله.
أصبح الناسُ يتكلمون ليلاً ونهاراً عن “الفنكوش”، يحلمُون بهِ في منامهم، وفي صحوهم يبحثون عنهُ ويجتهدون في العثور عليه، وقد تخيِّل كلَّ فردٍ منهم أنَّه سيجدُ فيه الحلَّ السِّحري السريع لجميع مشاكله.
بعد أن باع بطل الفيلم سلعتهِ الوهميةِ وعقد العديد من الصفقات الرابحة مع رجال الأعمال وجد نفسهُ مُتورطاً بخدعتهِ التي لم يحسب المدى الذي يُمكن أن تصل إليه أو الأثر الذي يُمكن أن تتركهُ، إذ تحتَّم عليه إيجاد سلعة لا يعرفُ هو نفسهُ ماهيتها ولا كيفية التوُّصل إليها أو نوع الفائدة التي يمكن أن تعود منها.
الشريعة الحقة – يا أستاذ على – لم تفارِق أهل السودان في أي وقت من الأوقات، فقد إحتكموا إليها في زواجهم وطلاقهم وموتهم وميراثهم، وعرفوها في صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجِّهم، وأستندوا اليها في نصرة المظلوم وردع الظالم، وعون الضعيف، وراقبوها في معاملاتهم التجارية، ووسمت علاقاتهم بالتسامُحِ والعفوِ وعدم الجنوح للغلو والعنف.
يُقال أنَّ الزعيم المصري الراحل سعد زغلول عندما كان على فراش الموت نظر إلى زوجته السيدة صفية زغلول وقال لها : ( شدِّي اللحاف يا صفية “أي غطيني يا صفية”… مفيش فايدة)، وقد فسِّرت مقولته تلك بيأسه من الوضع السياسي في مصر أنذاك، ونحن من جانبنا نقول عن وضع الأستاذ على : مفيش فايدة.